الفرد الذي يتعامل بفرضية أنه متهم: محورية الفرد وضعف قدرات التجريد
فوزي مسعود - تونس المشاهدات: 241 محور: الفرد التابع
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
من أبرز مايمكن ملاحظته كعلامة بارزة لدى عامة الناس من صنف الفرد التابع، أنك حين تحاورهم في مسألة فكرية أو حتى في قضية عامة، سرعان ما يندفعون للتفاعل بفرضية أنهم متهمون ابتداء وأن الحديث يتعلق بهم هم أو بمن يقربهم
لنحاول فهم هذا:
- لنفترض مثلا أنك تتحدث عن خطر وباء مستجدّ، وتقول في سياق ذلك أنه يمكن أن يقتل الناس، وتذكر في معرض حديثك نموذجا كيف تسبب ذلك المرض الخطير في وفاة شخص ما في تلك المنطقة المعينة
بعدها، سيوجد فرد ما من تلك المنطقة، سيندفع يرد عليك أن موت ذلك الشخص لم يكن بسبب تقصير أهله، وسيقول آخر يعمل في المستشفى الذي توفي فيه الرجل، أن موظفي المستشفى قاموا بمجهودات كبيرة لإنقاذه، وأنهم لم يكونوا مقصرين
وسيتدخل ثالث فيقول أن هناك مناطقا أخرى بتونس مات بها أناس بذلك المرض وليست منطقتنا فقط، فلماذا لم تذكر تلك المناطق
وستجد نفسك في جدل عقيم ترد تُهما ضدك، أنك إنما ذكرت ذلك الوباء كمدخل للتهجم على منطقتهم أو لإهانة عمال المستشفى
بينما أنت كان قصدك تناول موضوع علمي أو فكري أو اجتماعي أي لامادي حول الوباء
- ستجد نفسك إذن في سياق مواضيع أثارها أناس، تناولوا المسألة من زاوية غير ما كنت تقصده أنت، بل الحقيقة هم تناولوا الأمر بعمق تجريدي غير الذي تناولت به أنت
مايجمع المتحدثين الثلاثة، أنهم فهموا فكرة خطر الوباء من زاوية تعلقها بهم شخصيا لذلك اعتبروا كلامك اتهامات لهم، فانطلقوا في عمليات دفاع غريزي، رغم أن الموضوع لم يكن كذلك
ففهمهم إذن غير سليم، لأنهم لسبب ما حرفوا الفكرة وسطحوها لتتناسب مع تعلقها بهم، فهم أنزلوا درجة الفكرة من مستواها العام لمستوى شخصي
- لو تعمقنا في التناول، لوجدنا أن سبب هذا التسطيح يوجد في محورية النظر، الذي لدى هؤلاء يدور حول محورية الفرد وليس حول محورية الفكرة، أي أن المواضيع بالنسبة لهم لاتفهم إلا في تعلقها بالأفراد، مما يغيب البعد العام للفكرة في ما يجاوز مساحة الفرد
هذا يعني أن التناول الفردي (بمحورية الفرد) يمنع أو يعجز عن التحرك في المساحات التصورية غير المرتبطة بالفرد
من زاوية أخرى، فإن هذا معناه غياب التجريد لدى من يعتمد محورية الفرد (*)، أو لنقل بدقة غياب قدرات التجريد بالحد الكافي أو وجوده بدرجات بدائية لاتكفي لنقل الأفكار، مما يضطر هؤلاء لنقل المعنى في تعلق بنماذج واقعية وهي الفرد أو المنطقة أو المصلحة الشخصية عموما
المشكل أن الأفكار لايمكن نقلها دائما في تعلق بنماذج واقعية كأمثلة لأن نماذج الواقع أقل من ممكنات الفكرة، مما يجعل ممن لايدرك إلا من خلال محورية الفرد أي من خلال الأمثلة، عاجزا عن استيعاب الأفكار لإنعدام أو ضعف أفق تصوري يتيح له التعامل مع التجريدات، وهو في عجزه ذلك يتحول لما يشبه الأطفال حينما يقع نقل التجريدات إليهم من خلال النماذج الحسية التدريسية في أول تعليمهم (الأقراص، الأعواد، الصلصال...)
وهذا يجعل هؤلاء عرضة لعمليات الإخضاع والتحكم من منظومات التشكيل الذهني (تعليم، تثقيف، إعلام)، لأن هؤلاء يسهل توجيههم لغياب مساحة تصورية تجريدية لديهم تمكنهم من استيعاب مفهوم الخطر ومساحاته، حيث لايفهمون من الوجود إلا المدركات حسيا
-------
لو نظرنا للأطفال في أول دراستهم فإنهم يتعلمون التجريدات أي معاني المفاهيم كالأعداد، من خلال نماذج حسية، بسبب عجز قدراتهم التصورية على إنتاج مجال تجريدي مستقل عن مكونات الواقع المادي
لذلك حينما تقول للطفل لفظ: "واحد"، فإنه يفهمه بمعنى قطعة واحدة، أي أن التجريد "واحد" هو النموذج المادي واحد (عود، لعبة، قرص...)، أي هناك خلط بين نموذج التصور والتصور، بمعنى أنه لايوجد مجال مستقل للتجريدات من دون ارتباط بنماذج الواقع
ما نلاحظه لدى المتحركين بمحورية الفرد عوض محورية الفكرة، عجزهم عن التصور أي التجريد الذهني وأوضح مصاديقه تعلقهم بنموذج الفكرة عوض التعلق بالفكرة
فهؤلاء في عجزهم التصوري، يشبهون العجز الذي لدى الأطفال
لا أعرف سبب هذا الاضطراب لدى الفرد التابع عن بناء قدرات تجريدية، لكني أعرف أن هذا يؤدي لنتائج سيئة أقلها أن هؤلاء سيتحولون لوقود سهل لأدوات الإخضاع الذهني من تعليم وتثقيف وإعلام
---------------
(*) يمكن القول أن عموم من يتعامل بمحورية الفرد هم من يصح فيهم ما أسميه الفرد التابع، وذلك لعجز قدراتهم الذهنية في مستوى استقلاليتها، فهم بالضرورة تُبّع للغير ممن يوجههم