فوزي مسعود - تونس المشاهدات: 382 محور: الفرد التابع
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
عموم الناس من هؤلاء التّبّع المتحكم فيهم ذهنيا، لا تنتج الفعل تبعا لفكرة تؤسسه وتؤطره وإنما يكون الفعل لديها كأنه ليس منها، تنجزه ككتلة مادية مدفوعة إليه بطريقة من يقوم بفعل غير فعله تقرب لنشاط الجسد المألوف والعادة المتكونة بحكم المحيط
الفعل البشري يفترض أن يكون لاحقا عن فكرة سابقة تمثل إطارا تصوريا يعطي لذلك الفعل تبريرات وجوده من حيث محتواه التقني المادي ومن حيث تفسيره المعياري حسب مرجعية قيمية ما، وهي المعاني التي يضمها ويوضحها المجال المفاهيمي العام
فالشغل مثلا، فعل مادي لاحق عن تصور يدور حول مفهوم العمل وتبريره المعياري أي مستوى مفهوم الشغل وحول تصورات تتعلق بمحتوى ذلك الشغل تحديدا أي مستوى معنى الشغل (1)، وهي تصورات يكفي أن يقوم بها الفرد مرة على الأقل حين قراره الاول المتعلق بذلك الشغل ثم تتحول لتصورات ضمنية لاحقا
وهذا التناول أي إنتاج تصور الفعل مرة ثم جعل الأمر ضمنيا في نماذج الفعل اللاحقة، يمكن أن يكون مقبولا في الأفعال المحورية في حياة البشر كالشغل أو الزواج لأنها تقع مرة وقد تكرر، لكن حياة الفرد بالمقابل تعج بالأنشطة التي لاتنبني على هذه الوتيرة البسيطة كالتي في حالة الشغل، أي أنها حالات يلزم فيها تأسيسات فكرية متتالية كل مرة بل وفيها جدة، لأنها أفعال حينية غير متكررة، مثل أفعال التدين نسبة لمستجدات الواقع والفعل السياسي نسبة لغيرك من الفواعل المغالبة لك التي تتحرك في أفق المركزية الغربية، ومثل فعل التعامل مع أدوات التشكيل الذهني التي تنطلق من مجال مفاهيمي يدور في أفق المركزية الغربية
هذه كلها أفعال لايمكن أن تصدر من الفرد (أو ما يفترض أن يقع) إلا بعد تأسيس فكري عميق ومعقد يتناول صراع المجال المفاهيمي الضابط للواقع وحقيقة أنه غير متجانس وأنه متفرع من مركزيات عقدية متغالبة، فنحن إذن في حقل تصوري معقد وليس نمطيا ثابتا محسوما في دلالته
إذن حياة الفرد كلها تتحرك في أفعال يلزم فيها الحسم التصوري قبل المرور لتنفيذ المستوى المادي من الفعل
ولو انعدم التأسيس التصوري للفعل البشري لكان معناه أن ذلك الفعل ينحدر لمستوى مادي فقط وهو المستوى الذي يشترك فيه مع الكائنات غير العاقلة التي يمكنها أن تحدث أثارا في الواقع بحكم أفعالها كفعل الرياح وفعل الحيوان وغيرها
إذن الفعل البشري عمل وصنع (2)، لأنه يحمل لزوما تصورا ما في محتوى الفعل وفي دلالة الفعل أي القصد منه حين إدخاله الوجود في ذلك الإطار الزماني والمكاني المعين تحديدا
وجود التصور التأسيسي والقصدية من الفعل ليس يلزم منها إرادة الفرد في ذلك وإدراكه لذينك البعدين من فعله، وإنما يكفي في الفعل البشري أنه ينبني على تصور في محتواه وفي هدفه، وهذان البعدان يمكن أن ينتجهما طرف آخر غير القائم بالفعل وهي عموما أدوات التشكيل والإخضاع الذهني
نصل هنا لنتيجة وهي حقيقة أن هناك مساحة لازمة الوجود وهي التأسيسات التصورية لأفعال البشر، يتخلى عن القيام بها الفرد التابع لعجزه عنها، ولكن تلك المساحة حصلت واقعا من طرف غيره ممن أوجد الفعل وتبريراته لدى الفرد ودفعه للقيام به
أي أن الفرد التابع تحول لمنفذ للمستوى المادي من الفعل ولم يشارك في إيجاد مستوياته التصورية، ولما كان المستوى اللامادي من الأفعال لازم الوجود كما بينا سابقا، ولما كان الفعل لدى الفرد التابع هو فقط تنفيذ ما يوحى إليه فعله من أدوات التشكيل والتوجيه الذهني، فإنه ينفذ أفعالا في غياب أي بناء تصوري لها لديه، لكن فعله يعتمد على تأسيس لامادي لم يقم به هو
بعد ذلك، حين تكون هناك حاجة لفهم ذلك الفعل فإن ذلك الفرد سيسعى لإيجاد تبرير بعدي للفعل، وسيكون ذلك عبارة عن كون الفكرة لاحقة عن الفعل عوض أسبقيتها، أي أنه نوع من المصادرة وهذا لا يصح، ولكنه موجود في حالة الفرد التابع الذي لا يؤسس فكريا لأفعاله، فهو إذن عمل فاسد تصوريا
----------
(1) بغرض النظر في الفرق بين المفهوم والمعنى يمكن الاطلاع على:
المفهوم والمعنى والفعل: جدلية الزمن وتغير المعنى
https://myportail.com/articles_myportail_facebook.php?id=10798
أو محور: مقالات في المعنى
https://cutt.us/AHhZ7
(2) لذلك بلاغيا يقع التفريق بين الفعل والعمل والصنع، إذ الفعل كل ما يقع إحداثه من أثر في الواقع بقطع النظر عن الفاعل أكان عاقلا أو غير عاقل، بينما العمل هو الفعل العاقل والصنع هو العمل المتقن، أي أن العمل والصنع هي أفعال البشر