فوزي مسعود - تونس المشاهدات: 665 محور: إسلام العقيدة
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
كنت قد برهنت في بحث مضى (1) على أن الاخلاق سابقة على الدين و أنها ضوابط لازمة للوجود البشري، تمّ التوافق عليها لأن لها دورا وجوبيا لتنظيم العلاقات في مستوى تنازع المصالح بين الناس
لكن هذا التصور لنشأة الاخلاق يطرح إشكاليات عديدة، في مستوى ضبط مصدرها وعلاقته بالواقع
1- الاخلاق تأتي لأن الناس يحتاجونها في معاملاتهم لإعطاء ترجيحات لطرف دون آخر من خلال مرجح اسمه الاخلاق
فالذي يكذب مرجوح مقابل الذي يصدق وهو الذي يذهب معه ترجيح الفعل أو نتيجته، والذي يقتل مرجوح والمقتول راجح أي له الحق، وقوة الأخلاق تتأتى من كون هذا الترجيح يبقى صحيحا حتى و إن كان القاتل لا مانع يمنعه من القتل ولا معترض ضده في مجاله
فالاخلاق تجعل المتسلط على خطإ بفعل هذا الاعتبار الاخلاقي، رغم أنه قانونيا لن يمس (لنفترض قاتلا متمكنا من مجموعة أو حاكما ظالما)
2- الأخلاق قد تكون ضابطا تصدر أحكامها الحاسمة في حالات واضحة كالقتل والظلم وتكون لا اعتراض ضدها، لكن توجد حالات ليست بهذا الوضوح
فالأخلاق قد تمنع بعضهم من نطق كلمة معينة باعتبار أخلاق تلك المنطقة تعتبر ذلك لايجوز و أنها من العيب، لكن منطقة أخرى غير بعيدة عن الأولى قد تسمح باستعمال تلك الكلمة من دون حياء
فأي الأخلاق نستعمل وأيهما أرجح، في مستوى البناء المنطقي لا يوجد مرجح يجعل أخلاق منطقة أولى بالاعتبار من أخلاق المنطقة الأخرى بحيث نعتبره عاملا لتقوية طرف ضد الآخر
نحن إذن إزاء وضعية تعادلت فيها الترجيحات، فهي حالة مستحيلة الحسم منطقيا
3- الأخلاق في أساسها بناء مفهومي يحمل خللا في صحته، لأنه مبني على المصادرة والدور، وبيانه التالي:
الأخلاق مبنية على رأي الناس في تقرير الصوابية والخطإ، ورأي الناس ذاته سيستعمل لتقييم أفعال الناس، فرأي الناس سيقيم أفعال الناس، هذا تقييم مجهول من خلال مجهول آخر، هذا لايصح
وإن أردنا البرهنة من جهة الدور، فإن فساد هذا التناول يأتي من كون الناس ستقيم الناس، لكن أولئك الناس سيقيمهم الناس، وهكذا إلى ما لا نهاية، فهذا يسمى الدور وهو يؤدي لفساد البناء المنطقي
و أما البرهنة من جهة المصادرة، فإن القول أن أفعال الناس تقيمها أراء الناس، حكم اعتمادا على موضوع بصدد البحث أي أن الناس هم أساسا الموضوع المبحوث فكيف نعتمدهم كأداة للحكم والتقييم، فهو مصادرة للموضوع، وهذا لا يصح منطقيا
يجب إذن كسر حلقة الدور من خلال إدراج نقطة بحيث تصبح الدائرة خطا نتحكم في أحد طرفيه
إذن فإن اعتماد الاخلاق لا يصح إلا من خلال عمل تحكمي في أحد نقاط حلقات الدور، أي يجب وجود نقطة يقع التدخل في مستواها لضخ المعنى الترجيحي الذي سيعتمد كفكرة مرجة وكعامل لكسر الدور
هذه الفكرة الترجيحية هي التي ستقول لنا أن ذلك السلوك خطأ أو لا و أن ذاك الفعل يجوز أو لا وأن ذلك اللباس مقبول أو لا
4- الأخلاق إذن لا تصح إلا من خلال عمل تحكمي يضخ المعنى لمحتوى الحكم الاخلاقي وبه يصبح لدينا منظومة أخلاق تقبل بها المجموعات البشرية
لكن من له السلطة لضخ المعنى التحكيمي المراد به إنشاء الأخلاق، يعني من له الحق ليكون مصدرا لمعاني منظومة الأخلاق
إشكالية مصدر الأخلاق توجد في مستوى نوعية الارتباط بها، هل هي علاقة تمثل مدخلا للتمرد على الاخلاق أو دافعا للالتزام بها
المصدر المنتج للأخلاق حينما تكون قوته الترجيحية متأتية من القوة فقط سواء قوة الواقع وضغطه للإلتزام بتلك الأخلاق، أو قوة القانون الوضعي، فإن مصدر الاخلاق يكون ذا قوة إلزام خارجي، بينما حينما تكون قوة المصدر الترجيحية للأخلاق متأتية من مجال مفهومي مشترك فإن الالتزام بالأخلاق يكون ذا دافع ذاتي داخلي، فتصبح الأخلاق مجرد تذكير بما يقر به الفرد أساسا
حينما يكون مصدر الأخلاق نابعا من مجال مفاهيمي يقر به الفرد، فإن الاخلاق يسهل الانضباط بها، بالمقابل حينما يكون مصدر الالزام الأخلاقي نابعا من مجال مفاهيمي مغالب لما يحمله الفرد، فإن الالتزام الأخلاقي سيكون مغالبة للفرد، وتصبح الأخلاق نوعا من الضبط القهري له وينتج عن ذلك سعي للتملص من تلك الأخلاق لديه لأنها أخلاق من دون رصيد مفاهيمي عنده
***********
(1)
ينظر لمقال: تأملات (30): ضرورة الأخلاق من خلال نموذج الكذب والصدق
https://myportail.com/articles_myportail_facebook.php?id=10478