بورقيبة والسيارة القديمة: الذكريات جزء من الفرد ومن الواقع وليست مجرد عنصر طارىء
فوزي مسعود - تونس المشاهدات: 844 محور: تأملات
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
تعودت أن أجلس كل سبت بمقهى في إحدى ضواحي العاصمة، وهو مَوْئل اتخذه جماعة متقاعدون -كما يبدو- للقاء، والأرجح أنهم ذوو مستوى تعليمي رفيع، وطالما تجدهم كل مرة يتنازعون في حديثهم مواضيعا مختلفة بصوت يتبينه السامع، لكنهم يتفقون في التذكير ببورقيبة وفضائله على تونس كمايقولون، ثم يختمون بالاتفاق ان لو كان بورقيبة موجودا لما وقع مايقع الان بتونس
وكنت اتساءل كل مرة اسمعهم يذكرون ذلك، ماهذا الولع ببورقيبة، هل غاب عنهم أفاعيله السيئة وهم من هم في مستوياتهم العلمية، وأهمها تأسيسه لمسار التبعية لفرنسا وزرعه منهج الانكسار وكره الذات الذي أنتج حطام بشر كما نرى لدى التونسيين، حتى يذكروه بهذا الذكر الطيب، هل حقا ان الدافع لذكرهم بورقيبة ايجابياته ام سبب اخر
ثم أمضي وتأتيني صور اخرى من نوع، انك تجد احد كبار السن يؤكد لك ان السيارات القديمة اي قبل فترة ثلاثين او اربعين سنة كانت افضل من السيارات الحالية، وهو يحلف لك ومستعد ان يبرهن لك على كلامه بكل الطرق
هل حقا الدافع لكلامه فعلا افضلية السيارات القديمة ام سبب اخر
ثم اتقدم في تأملاتي واجد نماذجا اخرى من مثل ان احداهن تؤكد لك ان الاكلة كذا كانت قبل عشرين او ثلاثين سنة تطبخ افضل من الان رغم ان الاكلتين بنفس المكونات، هل هذا الكلام صحيح ام هناك سبب اخر
اعتقد ان هذه الحالات وغيرها تؤكد ان العملية ظاهرة كاملة ويمكن ان نجد لها شبه قاعدة عامة او قانون، ولما نتعرف على هذا القانون فانه يمكننا ان نفهم ونتوقع لماذا التونسيون مثلا يحنون لحكم بن علي ويحن اخرون لزمن بورقيبة
اتناول الموضوع في نقاط:
1- الحنين لحدث مضى او فترة زمنية قديمة، فيه ضمنيا حنين لتجربة الفرد في تلك الفترة، فالحنين ليس لموضوع الحديث اي لبورقيبة او السيارة القديمة وانما حنين لتلك الفترة من عمر الفرد المتحدث، فهنا حنين لزمن مضى من عمر الفرد، الفرد حينما يتناول زمن بورقيبة يسترجع فترة صباه او شبابه والمرأة حينما تتذكر اكل فترة ثلاثين سنة للوراء انما تتذكر عمرها وهي شابة
ولما كان الفرد يحن لزمنه الذي مضى فانه سيحن آليا لاي موضوع تذكره له يكون تاريخه سابقا ممه عاشه
2- نحن اذن ازاء اسقاط للذات على الموضوع، حيث يصبح الموضوع هو الذات مادام يشتركان في مساحة زمنية
هذا الاسقاط من القوة ومن الدقة بحيث يصعب تعقبه وتبينه وفصله منهجيا، اي سيكون صعبا استخراج القدر من المكون الموضوعي الناتج من النظر العقلي للحدث المتناول من مكونه الذاتي الناتج عن قوة الحنين لفترة خلت من العمر
هناك اختلاط بين موضوع التذكر اي السيارة القديمة وجدارتها وبين الحنين لتلك الفترة الزمنية التي انقضت من العمر، رغم انهما تختلفان من حيث الدافع لكنهما تجتمعان في القول بان تلك الفترة السابقة جيدة
3- الحنين لفترة سابقة مبني على خلط اذ انه يقع تعميم أفضلية المساحة الزمنية اي موضوع الحنين للعمر الفائت على محتوياتها اي على فترة حكم بورقيبة او على السيارة القديمة، اي انه يقع اسقاط الجيد المضمون المتأكد منه وهو فترة الشباب على الموضوع من دون النظر فيه اصلا اي من دون التاكد من كون زمن بورقيبة جيد ام لا او ان السيارة فعلا كانت افضل من سيارة اليوم ام لا
4- هذه الملاحظة / القانون اي اسقاط الذاتي على الموضوع حين النظر لحدث مضى، يمكن تعميمه على اي موقف يتخذه الفرد من الواقع، لانك حينما تتخذ موقفا فانه يكون دخل الوجود واصبح من الماضي، فتصح عليه القاعدة التي كنا نذكرها حول الاسقاط، اي ان اي موقف لك من الواقع سيكتسي جزءا ذاتيا لامحالة، ولن يكون نظرا موضوعيا كله، وان كان التفسير سيكون ليس لتعلق بالعمر الذي مضى وانما بالجزء الذاتي من الرأي المكون للموقف نحو الموضوع، لذلك تجد بعضهم يدافع على موقف من امر ما بطريقة مستميتة وسبب ذلك انه يستشعر رأيه كجزء من وجود موضوع النقاش
5- ثبت اذن ان النظر الموضوعي للواقع يكاد يستحيل وان كل موقف من الواقع ومكوناته فيه جانب ذاتي بالضروروة، يستثنى من ذلك حالات خاصة يلزمها توضيح لوحدها
6- اذن الواقع الموضوعي غير موجود وانما يوجد واقع نسبي حسب راي من يصفه ويتحدث عنه، بالمقابل فالفرد في جانب منه جزء من ذلك الواقع بالتبعية اي ان الواقع يمثل رصيدا تاريخيا وذهنيا ماثرا على الفرد باعتباره سيصبح موضوع اسقاط ذكرياته وبالتالي مواقفه من الواقع
7- بالتالي الذكريات ورأي الفرد ليست مجرد مكونات لامادية ذهنية، بل هي عمليا جزء من الواقع في مستوى الفرد ذهنيا اي الواقع الذاتي، وهو المستوى الذي يتدبر من خلاله الفرد الواقع الحقيقي الموضوعي الذي لا احد يمكن ان يحيط به وانما يتعامل الناس مع الواقع من خلال زواياهم اي الواقع الذاتي وهذا جانب كما وضحنا كل له واقعه وفهمه له وبصمته فيه