حول تجاهل موت "بلقاسم بوقنة": الفرد التّابع والتسليم باحتقار المركز للجهات وثقافتها (*)
فوزي مسعود - تونس المشاهدات: 967 محور: الفرد التابع
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
القبول بالمركزية المحلية مقدمة للقبول بالمركزية الغربية، والعاجز ذهنيا عن رفض التمييز الجهوي سيكون أعجز عن رفض التبعية لفرنسا
مايلي نماذج تؤشر على القبول بوضع الدونية الذاتية والإستعلاء الجهوي:
1-التونسي الذي يشاهد الأعمال التلفزية التي تجعل ساكن الريف في شكل المتخلف الساذج، وتصور لهجته متقعرة، مقابل جعل البطل النموذج المتحضر ذي اللباس الأنيق ناطقا بلهجة العاصمة، ثم رغم هذا الإحتقار لايرد ولايطالب بمنع تلك الأعمال ومحاكمة منتجيها، بل إنه فضلا أنه لايفعل أي شيء فإنه يُقبل على تلك الإنتاجات التي تمثل عينات ناجحة لأدوات تشكيل الأذهان، فهذا التونسي مساهم في تكريس وضع المركزية الثقافية والعنصرية الجهوية
2- التونسي الذي ينظم مهرجانا محليا أو "زردة" بأحد المناطق الداخلية حيث الحشمة والمبادىء مازالت لها قيمة، وتأتيهم إحداهن ممن يسمين فنانات متعرية وتتصرف مع تلك المناطق الداخلية بقلة الإحترام وتصر على التحرك كأنها في علبة ليلية، ويقبل سكان تلك المناطق بذلك الإحتقار ويمضي الأمر وينتهي من دون رد، فهذا موقف سلبي يستبطن شعورا يقول بأن سكان تلك المنطقة دونيون وأقل رفعة من تلك المتحدية أخلاقيا ذات الحامل القيمي الوافد، لأنها أعلى من أن تنتقد ولأنها ممثلة للمركز الأعلى حضاريا بزعمهم، فضلا أن تمنع ومن نحن لكي نمنعها
هذا موقف ينبع من شعور ضمني بالدونية الثقافية الناتج عن نجاح أدوات القصف الذهني لمنظومة فرنسا التي أقنعت الناس من دون أن ينتبهوا بحتمية المركزية الثقافية والتوابع، وأن عليهم التبعية فقط من دون اعتراض ومن هم لكي يعترضوا
3- التونسي في المناطق الداخلية لم يعد يتحرج من كون لهجته لاتستعمل في المعلقات الاشهارية، فهو بمدينته "ڨفصة" أو "الكاف" أو "مدنين" يرى ملصقا إشهاريا يغطي مساحة عريضة كتب بلهجة العاصمة وليس بلهجته، فيمر على هذا الإحتقار ويقبل به ولايقوم بأي إعتراض، بينما يتكلم ويكتب أن وقعت زيادة في أسعار الخضر مثلا، هذا نموذج للتسليم لعمليات الإحتقار والدونية الثقافية وعدم وجود الرد دليل على الاقتناع بوضع التابع الدوني وتأكيد أنه فرد وقع اختزاله للبعد المادي وقبل بذلك
4- انظروا مثلا للسياسيين أو الرياضيين أو "الفنانين" ذوي الأصول من المناطق الداخلية أغلبهم حينما يتحدث بالإعلام يستعمل لهجة العاصمة وينفر من لهجته المحلية، هذا دليل أنه يستبطن دونية لهجته ومنطقته وهذا ليس أمرا سويّا وإنما هو ضحية لعمليات التوجيه الذهني التي عملت على الوصول لذلك، وهذا قبول ضمني بدلالات منظومة تشكيل الأذهان الفرنسية التي صممت لخدمة مصالحها
تفسير القبول بالدونية الذاتية
تعرض التونسي خلال عقود دولة الاستقلال الشكلي، لعمليات تشكيل ذهني مكثفة اتخذت شكل القصف النفسي وخلخلة أسس المجال المفاهيمي السائد المتمحور حول الإسلام عموما وتفاعل الثقافات المحلية معه، وذلك بغرض البناء على أنقاضه وتثبيت مجال مفاهيمي جديد مغالب محوره قيم منظومة فرنسا
وصممت فرنسا منظومتها التي حكمت منذئذ تونس، بحيث تكون خادمة للغتها ولثقافتها ولاقتصادها، وأن تلك المنظومة حينما تترك لشأنها تصبح فعالة وذات تشغيل ذاتي من دون التدخل الفرنسي، ومصداق ذلك أننا الآن نرى واقعنا كله يصب في مصلحة فرنسا، حيث التونسيون يستعملون ويدافعون عن لغة فرنسا ويستبعدون اللغة العربية ويحاربون الإسلام كما تحاربه فرنسا أو أكثر، واقتصادنا مجرد قاطرة لخدمة اقتصاد فرنسا، وهذا كله يقع بأيادي تونسية وبقناعة منهم ومن دون تدخل فرنسا
منظومة فرنسا فيها شقان، شق مكلف بصياغة الذهنيات وزرع المفاهيم المغالبة والإقناع بها، وهو الجانب الأخطر، وشق آخر لمعالجة والتحكم في الواقع، الأول هو ما يمكن تسميته أدوات تشكيل الأذهان وهي التعليم والإعلام والثقافة ومنصاتها المختلفة من ملصقات ومهرجانات ومايقال أنهم فنانون
أما الشق الثاني من منظومة فرنسا فهي الأحزاب والمنظمات، لكن كذلك عموم المنظمات الممولة أجنبيا
في نطاق ادوارها للتحكم في التونسيين وجعلهم يقبلون الواقع الجديد، واقع الغلبة والتبعية للغير، اجتهدت أدوات تشكيل الأذهان ونجحت في تصوير التبعية حتمية من خلال زرع فكرة أن من يوجد بالواقع ليسوا متساوين، وإنما هناك أقوى وأفضل علينا اتخاذه نموذجا
عملت أدوات الصياغة الذهنية على زرع أسس الواقع الجديد، من خلال نموذج الهرمية إذ هناك المركز ثم التوابع، وهو تصميم يشمل كل المستويات، فهذه الهرمية تشمل المركزية الثقافية والمركزية اللغوية أي اللهجات والمركزية الاقتصادية والحق في المنافع
وانتهت عمليات القصف الذهني لإقناع عموم التونسيين بوضع الدونية وأنهم خلقوا ليكونوا تبعا للغير أي داخل تونس تبعا للمركز وفي كل تونس تبعا لفرنسا
يمكن ملاحظة أن هؤلاء التونسيين لايتناولون وضع التابع إن تناولوا التبعية، إلا في مستواه الاقتصادي، ولكنهم لم يتناولوا بل لعلهم لم ينتبهوا أصلا لدونيتهم الثقافية والذهنية التي تعتبر الارضية التي إن حصلت مثلت المؤشر على قبولهم الدونية الاقتصادية
هناك علاقة بين القبول بالدونية على المستوى المحلي والدونية على المستوى الأعلى أي نسبة لفرنسا، فمن يقبل أن يكون دونيا في تونس أي يقبل بعلوية المركز العاصمة ومدن الساحل ولهجتهم وثقافتهم، نسبة لباقي مدن تونس، لن يستطيع الحديث فضلا أن يتصدى لمنظومة فرنسا الراعية لتلك الدونية
لذلك فإن سياسيين أصيلي الجنوب والداخل التونسي عموما ويتكلمون لهجة العاصمة، سيكونون أعجز من أن يتحدثوا عن مسائل التبعية لفرنسا ماداموا أساسا خاضعين نفسياً للدونية المحلية وقابلين بهرميتها الإستعلائية
-----------
(*) هذا مقال كتبته من قبل في محور: "الفرد التابع"، في سياق تحويله لضحية لمنظومات الإخضاع الذهني
لكن محتواه يفسر ما يحصل الآن من تجاهل منظومات التشكيل الذهني لموت "الفنان الجنوبي" بلڨاسم بوڨنة