فوزي مسعود - تونس المشاهدات: 1401 محور: مقالات في المعنى
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
هل الإنسان بطبعه وجد لكي يكون تابعا وان الخروج عن منطق القطيع استثناء
الحقيقة أن استقراء الواقع تاريخيا وحاليا، يزودنا بمؤشرات عديدة أن الأفراد في غالبهم ينشؤون بمنطق التسليم للمجموعة كي تقرر مصيرهم، فهو إقرار ضمني من الفرد انه مجرد جزء من كتلة بشرية اكبر هي من تسطر حدود التحرك بل هي من تقرر حتى دلالة المفاهيم الفكرية والعقدية (المجموعة أي الواقع هو من يحدد معنى الإسلام مثلا وبسبب ذلك تنشأ الانحرافات العقدية لأنها تحديدات بشرية) وما على الفرد إلا الاتباع، وهذا هو منطق القطيع
انظروا حتى في ابرز النماذج وهم المسلمون الأوائل، إذ يحدثنا التاريخ كيف أن نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم كان يلتقي بشيوخ القبائل ومن يقال انهم سادة قومهم يدعوهم للإسلام، ثم يرجع إليه أولئك مرة أخرى وقد أسلمت قبائلهم، نحن إزاء تابعية وإمعية في مسالة حميمية وهي الإيمان بالله فما بالك ما دونها، تمّ التسليم فيها للغير لكي يقرر عنهم، فلما اسلم كبير القبيلة وافق الآخرون، فهذا هو منطق القطيع
ثم انظروا بعد تلك الفترة، ما ذكره معاوية في قبيلة (تميم على ما اذكر) محذرا منهم لما واجه احد زعمائهم فقال في ما معناه: “إذا غضب هذا غضب معه مائة ألف لا يدرون لماذا غضب”.، يعني الآلاف تغضب و الأرجح تتحرك للقتال وهي لا تعرف أصلا لماذا غضب رأسهم
يعني معاوية يتحدث ويقر بجريان منطق القطيع، بحيث تنشأ حروب لا يعرف أصحابها أصلا لماذا وقعت
يبدو أن هناك أسبابا كثيرة تجعل الفرد مدفوعا لكي يكتفي بما تضبطه المجموعة التي ينتمي إليها، فيقر ما تقر ويعادي ما تعادي، ويبدو أن الكثير من الناس يجدون راحة نفسية في خضوعهم للمجموعة أي انهم يرتاحون حين تبني سلوك القطيع
ولكل ذلك فان الفرد الذي يرفض توجيهات المجموعة وضبطها ويعمل على التحرر من منطق القطيع يعتبر أمرا شاذا عن القاعدة
وعلى أية حال، فانه في واقعنا تم استغلال هذا السلوك البشري الهش والقابلية الموجودة لدى عامة الناس ليكون إمعة فردا من قطيع باطمئنان، من طرف أدوات الضبط الحديثة كالإعلام والتعليم والثقافة، بحيث توجه الشعوب من طرف خفي لخدمة مصالح المتحكمين في الواقع سياسيين ومتنفذين اقتصاديين
ولما كان الأصل في الفرد هو وضع التابع الذهني، فان على من يتصدى لفهم الواقع وتغييره وليكن واقعنا بتونس نسبة لسيطرة فرنسا عليه، فانه يلزمه مجهود لكي يخرج من اسر أدوات التوجيه الذهني التي يحركها المتحكمون والمستفيدون من الواقع،، ولكن إضافة لذلك ولعل قبل ذلك على رافض الإمعية الذهنية أن يستعد للمشاكل التي سيعترضها حين كسر الطوق الذي بنته المجموعة حوله، وهو طوق ذهني وجداني في أساسه
الفرد الإمعي التابع والحاجة لمصدر منتج للمعنى
لماذا يخضع الفرد للمجموعة ويقبل بتوجيهاتها، هل هي الحاجة المادية، لو كان الأمر كذلك لكان لازمه أن الميسور لا يخضع للمجموعة و تحديداتها، وللزم كذلك ان المحتاج والمعدم لا يخرج عن المجموعة ولا يكون منهم الثائرون عن القطيع، كيف ونحن نجد الكثير من الثوار منتمين لصف المحتاجين
إذن موضوع الخضوع للمجموعة والالتزام بضوابطها ليس ماديا، فهو بالتالي لامادي
في مستوى آخر للتفسير يمكننا القول أن الذي يخضع للمجموعة ويعجز عن عصيانها انما يقوم بترجيح ذهني لاحتمالات موقف يكون متعلقا بالواقع ينتهي به لتغليب احتمالية مقتضيات الواقع
إذن فالخضوع للواقع حقيقة هو تسليم بالدلالة التي يقررها الواقع على موجودات ذهنية كانت تحمل دلالة أخرى لدى الفرد
بمعنى آخر فان ما حصل هو قبول قهري وان كان في شكل اختيار، بمعاني قررها الواقع لمفاهيم موجودة لدى الفرد
لنفهم المسألة من زاوية أخرى، ما يحصل أن الواقع الضاغط على الفرد الضحية / الإمعة، يأخذ مفاهيم موجودات فيترك وعاءها لكنه يستبدل معانيها، نحن إزاء إعادة ضخ معاني المفاهيم
مثلا لنأخذ مفهوم الكرامة حيث كانت من معانيه العفة وعدم الخضوع وعدم التذلل والرفعة الأخلاقية
فيأتي الواقع فيترك نفس المفهوم لكنه يبدل معانيه بأخرى، فيسحب مثلا معاني الرفعة الأخلاقية ونصل في النهاية للمنحرفات أخلاقيا ونجد من يدافع عنهن بداعي انهم يشتغلن لحفظ كرامتهن (قيل ذلك عن الداعرات المحترفات في المواخير التي تتبع الدولة، ولكنه يقال أيضا عن المنحرفات أخلاقيا اللاتي تسمين فنانات والاني ينشطن في البؤر التي تسمى مهرجانات)
فالمفهوم بقي متداولا (الكرامة) لكن معانيه تبدلت وقس على ذلك باقي المفاهيم كالحرية والاستقلال والتدين....، والفرد في سياق سعيه للاندماج في الواقع، يقوم بالتماهي مع المعاني الجديدة للمفاهيم التي حددت في ذلك الواقع خوفا من عزله ورفضه وانبتاته عنه
إذن هناك احتياج لمعاني المفاهيم المتداولة في الواقع، لدى الفرد، وهذه الحاجة هي التي تشد الفرد وتجعله يتصرف بعجز أمام ذلك الموجود الكبير الذي يحيطه وهو الواقع الذي يقرر معاني المفاهيم
لكن في الحقيقة الارتباط ليس بالواقع ككيان معنوي، وإنما حاجة الفرد الضحية / التابع، تقع تحديداً في ارتباطه بمن ينتج المعاني
يعني الربط والارتباط يقع بدقة اكبر مع منتجي المعاني، هؤلاء هم من يشد الفرد ويقرر مصيره
ما يمكن أن اسميه مصادر إنتاج المعاني هي تلك التي تزود المجال المفاهيمي للواقع بمعاني جديدة، وهي عادة التعليم والإعلام والثقافة وبدرجة أقل الاقتصاد، لكن يوجد من مصادر إنتاج المعاني كذلك الزعماء وشيوخ الدين، اذ أنها أدوات تشكيل للأذهان من خلال ضخها معاني مستحدثة لمفاهيم موجودة تخدم مصلحة المتحكمين بالواقع
إذن الإمعية لدى الأفراد هي الحاجة القوية لديهم لمصادر إنتاج للمعاني، ذلك يعني أن تخلصنا من الإمعية التي هي شرط تغيير واقعنا، لازمه تفتيت علاقة الحاجة تلك وهذا يكون أما بتفكيك أدوات إنتاج المعاني من خلال تغيير أدوارها ومحتوياتها أو هدمها والاستغناء عنها، وإما تحرير الأفراد من حاجتهم لتلك المصادر
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: