السعودية.. المملكة التي أسسها ضباط المخابرات الإنجليز
تمام أبو الخير المشاهدات: 2279
كان التدخل البريطاني في الخليج قديمًا أحد أهم الأسباب التي ساعدت في نشوء المملكة السعودية بشكلها الحاليّ، حيث عملت لندن على إمداد آل سعود بالمال والسلاح وحتى الخبرات العسكرية، ليكون في يوم من الأيام قائد الجند لعبد العزيز بن سعود ضابط مخابرات بريطاني! ولم يقتصر الدور الإنجليزي على أرض نجد وما حولها بل رسمت حدود دول الخليج كاملةً.
منعت بريطانيا آل سعود من الهجوم والاعتداء على الدول والمشيخات الخليجية المجاورة لهم، مستفيدةً من ولاء عبد العزيز آل سعود المطلق لهم، كيف لا وقد خصصت لندن راتبًا شهريًا له! في هذا التقرير نسلط الضوء على أهم رجال بريطانيا الذين ساهموا في إنشاء الدولة السعودية، متبوأين أعلى المناصب الاستشارية لدى الملوك والأمراء.
السير كوكس
عندما تعرض سلطان عمان فيصل بن تركي لاضطرابات في بلاده، ساعدته فرنسا على تهدئة الأوضاع وكان ذلك عام 1895، إلا أن اتفاقيةً تربط سلطان عمان بالبريطانيين جعلت الإنجليز يقلقون من التعاون العماني الفرنسي، معتبرين هذه العلاقات خرقًا للاتفاقية بين البلدين، وكانت الاتفاقية تنص على عدم تنازل السلطان عن أجزاء من أراضيه لأي دولة أجنبية عدا بريطانيا.
بعد ذلك اختار الإنجليز السير برسي كوكس ليكون الوكيل البريطاني الجديد في العاصمة العمانية مسقط، وذلك بعد فشل سلفه في المحافظة على الاتفاقية وإخفاقه في إقامة علاقات جيدة مع السلطان، بدأ السير برسي كوكس بالظهور عام 1899، حيث كانت عمان بوابته لرسم الحدود الخليجية والتحكم بمقدراتها وحكامها.
أنشأ كوكس خلال زيارته للكويت عام 1904، ممثلية سياسية لبريطانيا، وذلك بعد لقاء مع مبارك الصباح حاكم الكويت حينها، ولنشاط كوكس المستمر في الخليج العربي عينته لندن مقيمًا سياسيًا لبريطانيا في تلك المنطقة عام 1906، عمل كوكس على إنهاء الخلافات بين مشايخ الخليج ومنها العلاقات بين آل مبارك حكام الكويت وآل سعود حكام نجد.
عمل الضابط البريطاني وليام شكسبير وهو نائب كوكس في منطقة الخليج على تقديم عبد العزيز آل سعود إلى السير كوكس، ووصف شكسبير ابن سعود في رسالة أرسلها لكوكس قائلًا "هذا الرجل زعيم بدوي متخلف ومن الممكن استغلاله لمصلحتنا لتحقيق مآربنا في المنطقة وبسط سيطرتنا على القبائل في الجزيرة".
عقد السير كوكس اتفاقية في يناير 1915 مع عبد العزيز ابن سعود، بعد مباحثات بدأت أواخر عام 1914، استلم بيرسي مهام نائبه شكسبير بعد مقتله وانتقل من مدينة بوشهر إلى الكويت في نوفمبر 1916، ليغدو أهم شخصية بريطانية في الخليج العربي.
وقع الضابط بيرسي كوكس معاهدة دارين عام 1915 مع عبد العزيز آل سعود وهي الاتفاقية التي جعلت السعودية تابعًا للإنجليز ورسمت سياستها العامة، وتتضمن بنودها اعتراف الحكومة البريطانية بسيادة ابن سعود على نجد والقطيف وجبيل وجميع المدن والمرافئ التابعة لها، كما يتعهد عبد العزيز بالامتناع عن "كل مخابرة أو اتفاق أو معاهدة مع أي حكومة أو دولة أجنبية".
نصت الاتفاقية أيضًا على أن ابن سعود لا يمكن أن "يتنازل عن الأراضي أو جزء منها ولا أن يؤجرها أو يرهنها أو يتصرف بها بأي شكل ولا أن يقدّمها على سبيل الامتياز إلى أي دولة أجنبية أخرى أو لأي أحد من رعايا دولة أجنبية دون موافقة الحكومة البريطانية"، وهو البند ذاته المفروض على سلطان عمان.
وللحدّ من تجاوزات ابن سعود فرض السير كوكس في نص الاتفاق تعهدًا من آل سعود "بأن يمتنع عن كل تجاوز وتدخّل في أرض الكويت والبحرين وأراضي مشايخ قطر وعُمان وسواحلها وكل المشايخ الموجودين تحت حماية إنجلترا والذين لهم معاهدات معها".
حصل عبد العزيز على مرتب شهري ودعم بالسلاح بعد اتفاقيته مع السير كوكس، وفي راتبه الأول حصل على 5000 جنيه إسترليني، وساهمت هذه المساعدة في مواجهة خصومه.
في حربه ضد آل رشيد كان الطرفان يتبادلان في بعض الأحيان رسائل للتهدئة، إلا أن عبد العزيز في إحدى رسائله للسير كوكس ولزيادة ولائه له لتدعيم حكمه، قال عن رفضه التصالح مع آل رشيد: "كما تعلمون سعادتكم أنه (ابن الرشيد) بعث إليّ برسول مع كتاب يُعرب فيه أنه ينوي السلم، أجبته أنه يستطيع أن يُصبح صديقًا لنا بشرط أن يُظهر الصداقة نحو صديقتنا الحكومة البريطانية وحلفائها من رؤساء العرب كالشريف، وأن لا يقوم بأي شيء لا ترضى عنه الحكومة البريطانية أو ضدها… وعندما سلّمت الرسالة إلى ابن الرشيد فإنه أعقبها بجواب كتبه إلينا رافضًا فيه هذه الشروط كما ترون من رسالته".
وبالولاء الكبير الذي أبداه ابن سعود للبريطانيين للحصول على دعمهم من الرواتب والأسلحة، استطاع أن يقضي على آل رشيد ويبسط نفوذه على الأراضي التي جعلها مملكةً له ولأبنائه من بعده، مرسومةً بحدود إنجليزية ومحدودةً بشروطهم.
شكسبير العرب
يعتبر الضابط البريطاني وليام هنري شكسبير من أشهر الشخصيات التي ساعدت آل سعود في تثبيت حكمهم وإقامة دولتهم، حتى أصبح يُلقب بـ"شكسبير العرب"، ولد في إقليم البنجاب بالهند حيث كان يعمل والده، من ثم أكمل دراسته في إنجلترا وتخرج ضابطًا، لتبدأ خدمته في الجيش حتى عام 1913، وخلال الخدمة كان يتم تعيينه بمناصب دبلوماسية متعددة خاصة في دول الخليج العربي، وفي عام 1914 عاد إلى إنجلترا حتى بداية الحرب العالمية الأولى.
عاد الضابط البريطاني بأمر قيادته إلى الخليج العربي عند اندلاع الحرب العالمية الأولى، وذلك بغرض التواصل مع عبد العزيز آل سعود لضمان عدم تواصله مع الحلفاء أو التعاون مع الأتراك الذين حاولوا كسب آل سعود إلى صفهم في هذه الحرب.
تعود العلاقة بين عبد العزيز بن سعود مع الضابط وليام إلى العام 1909، حيث تقابل مع ابن سعود في الكويت، وهناك نشأت بين الشخصين صداقة وعلاقة قويتان ساهمتا في تغلغل شكسبير داخل بيت آل سعود، وعندما عاد ابن سعود إلى نجد لحق شكسبير به، ليشارك في الأعمال العسكرية، حتى وصل إلى قيادة جيش عبد العزيز.
كان شكسبير يقاتل إلى جانب عبد العزيز ببزته العسكرية الكاملة، كما أنه كان يصوّر المعارك، ويصدر الأوامر للفرق العسكرية، ونتيجة لخبرته في القتال لوحظ التطور والتفوق للجيش السعودي مقابل الجيوش التي واجهوها، وساهم الضابط وليام بالسيطرة على إقليم الإحساء من العثمانيين عام 1913.
كان رأي شكسبير أن على بلاده دعم ابن سعود بالمال والسلاح، كما لعب دورًا مهمًا في اتفاق العقير الذي حصل عام 1914 وعلى إثره وسعت بريطانيا المساعدات ودعمها لعبد العزيز بالمناطق التي كان يحكمها حينذاك، قاد شكسبير جيش آل سعود في المواجهات العسكرية بين آل سعود وحائل، واندلعت معركة جراب، لكن هذه المعركة كسبها آل رشيد المدعومين عثمانيًا وفي هذه الموقعة التي حصلت عام 1915 قُتل الضابط وليام شكسبير الذي عمل جاهدًا لتثبيت حكم آل سعود.
جون فيلبي
ظهر جون فيليبي في شبه الجزيرة العربية بعد مصرع القائد شكسبير، إذ إن مكتوبًا وصل من رئاسة المخابرات الإنجليزية تؤيد إرسال جون إلى آل سعود لدعمهم، وأيضًا ليستلم مسؤولية الأوضاع السياسية، حيث كانت المنطقة مشتعلة بالثورة على الدولة العثمانية. أُرسل فيليبي إلى الحجاز بعد أن كان ضابطًا للجيش البريطاني في الهند.
تعلم الضابط الإنجليزي خلال فترة إقامته بالهند اللغة الأردية والبنجابية والبلوشية والفارسية، كما أنه أُرسل في بعثة إلى مدينة البصرة العراقية لإلمامه باللغة العربية عام 1907. وبعد تعيينه خلفًا لـ"شكسبير"، وصل إلى منطقة "العقير" في البحرين عام 1917 متجهًا إلى الرياض واستقبلهم عبد الرحمن بن فيصل وهو والد عبد العزيز آل سعود مؤسس الدولة السعودية الحاليّة.
قابل فيليبي عبد العزيز آل سعود عند وصوله، كما أنه أقام في قصره وبين حاشيته، جعلت هذه الرحلة من فيليبي شخصًا محوريًا، ولم يكن ليعلم أن رحلته التي هدفها الاطلاع على خلاف آل سعود وشريف مكة وقتالهم، ستدخله التاريخ، حيث أصبح اسمه بين الأشخاص الذين اعتمد عليهم حكام المملكة السعودية في إنشاء دولتهم.
يُذكر أنه ومع بدء القتال بين شريف مكة وآل سعود، لم تبدِ بريطانيا أي دعم لعبد العزيز، لأنها في ذلك الوقت كانت تدعم الشريف حسين بن علي في سيطرته وأرسلت له الضابط الشهير "لورانس العرب" لمساعدته أيضًا، في هذه الأثناء كان الضابط جون فيليبي يعمل على إقناع قيادته بدعم عبد العزيز آل سعود لأنه هو "الرجل القوي" وليس الشريف حسين.
بدأت بريطانيا تدعم آل سعود ضد الشريف حسين، وبعد ذلك بدأ عبد العزيز يخطط للإطاحة بحكم آل رشيد في حائل، وهنا برز دور فيليبي في إقناع عبد العزيز بالقيام بحملته رغم صعوبة الموقف، هاجمت قوات السعوديين حائل وأسقطت حكم آل رشيد وسقط عرش الحسين في الحجاز، وهنا تفرغ الضابط الإنجليزي لإعادة تنظيم جيش آل سعود وإعادة تمويله وإيجاد ميزانية خاصة به والعمل على تسليحه.
عمل فيليبي على أن يُحيي الفكرة الوهابية ليستطيع إيجاد أنصار في كل مناطق البلاد لاستخدامهم، ووظف العملاء من أجل إيصال المعلومات عن خصوم آل سعود، واتبع أسلوب بث الإشاعات في المدن والقرى التي ما زالت خارج السيطرة، وعمل على فرض وجهاء جدد في الكثير من المناطق التي لم يكن وجهاؤها السابقون راضين عن عمله.
نال فيليبي ثقة عبد العزيز ابن سعود، حتى إنه أعلن إسلامه وسمى نفسه الحاج عبد الله فيليبي، وبدأ بحضور مجالس العائلة المالكة، وتقول المصادر إن إعلان فيليبي لإسلامه إنما كان من أجل تسهيل تنقله في مناطق المملكة، وذلك بقصد تأدية دوره على أتم وجه.
كان للضابط الإنجليزي دور مهم عبر وساطته بين عبد العزيز والدول الكبرى للاعتراف بمملكة آل سعود، وأثر هذا بشكل إيجابي على انطلاقة ابن سعود في علاقاته الدولية، إضافةً إلى أن الضابط جون توسط بين الحكومة السعودية والشركات الأوروبية والأمريكية في شتى المجالات خاصة قطاع النفط، فعمل على دعم آل سعود سياسيًا واقتصاديًا بكامل طاقته.
على الرغم من الخدمات الجليلة التي أسداها فيليبي لآل سعود في تثبيت ملكهم وحكمهم حتى بات مسيرًا لأمورهم على الأصعدة كافة، فإن هذا لم يدم، ففي خمسينيات القرن الماضي اتخذت السلطات السعودية قرارًا بمغادرته البلاد، بعد عدّة محاضرات ومقالات نشرها.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: