يؤثر عن قيصر الكرة بيكنباور أنه كان يقول بفخر "الجميع يلعب الكرة ولكن ألمانيا تفوز بالبطولة دوما".
يمكن لراشد الغنوشي رئيس حركة النهضة ورئيس برلمان تونس أن يستعير الجملة ويكيفها: "الجميع يمارس السياسة في تونس، ولكن الغنوشي يفوز في النهاية".
يوم أمس، الأول من حزيران/ يونيو 2020، حقق الغنوشي فوزا جديدا في موقعين ظاهرين على الأقل وقد يكون ما خفي أعظم. فشل اعتصام "الرحيل 2" فشلا ذريعا، حتى أوشك منظمه أن يعتذر للغنوشي بشكل شخصي. وفشلت مظاهرة الاتحاد الجهوي بصفاقس للضغط على القضاء، واكتفت برفع شعار يا غنوشي يا سفاح، وهو شعار يكشف وجود فرقة الوطد الاستئصالية التي خطفت النقابة من منتسبيها لتستعملها في غرض وحيد هو حربها الاستئصالية.
مكاسب الغنوشي من فشل خصومه تسمح له بأن يمد رجله ويطمئن؛ في انتظار جولة أخرى من فشل محاولة إخراجه وحزبه من المشهد السياسي التونسي.
اعتصام الفشل
في مقال سابق كتبنا أنه اعتصام الرحيل النهائي أو الأخير لمكونات منظومة ابن علي الذي ثار عليه الشعب، ولكن مكوناتها أو فلولها ظلت تطل برأسها محاولة استعادة السلطة اللذيذة التي فقدوها، أو على الأقل فقدوا بعض مباهجها. أمس ثبت أنه الاعتصام الأخير للمنظومة، بل هو الاعتصام الذي أظهر الغنوشي في مكانة الشخص الذي لا يُغلب، فيقول من وراء نظرته القاسية: هذه هي الضارة النافعة فنعم..
فالاعتصام منظم ضد شخصه وضد وجوده في رئاسة برلمان تونس. وقد انطلقت مطالب سحب الثقة منه منذ توليه، ولكن منذ منتصف رمضان (منتصف أيار/ مايو 2020) تحول المطلب من سحب الثقة داخل البرلمان إلى محاولة إسقاط البرلمان بالشارع، البرلمان الذي يحتل فيه الغنوشي مكانة الرئيس. أكثر من 20 يوما من الدعاية للاعتصام وجهد إعلامي كبير ومضن من وسائل إعلام معروفة بمناصبتها العداء لحركة النهضة ولرئيسها، ثم إذا الاعتصام أربعة أفراد بحساب أصابع اليد الواحدة.
هل يعني هذا أن الغنوشي قد صار حبيب الجماهير؟ ليس ذلك وليس الانتصار هناك، بل الانتصار أن تبين أن محاولة تجاوز المؤسسات المنتخبة في الشارع أو بإثارة الفوضى فشلت فشلا ذريعا، وأن البقاء صار من حق صندوق الانتخاب. وهذا هو الانتصار الأكبر لراشد الغنوشي وجماعته. إن الصندوق يضمن بقاءهم وينهي فكرة استئصالهم، أما كم يربحون بالصندوق فهذا تفريع على أصل كما يقول الفقهاء. فالأصل أن تظل المؤسسات قائمة، وهم يشاركون بمقدار وانتظار فعل الطبيعة في خصومهم. فخصومهم عاجزون عجزا مطلقا عن الفعل السياسي، وهذه الرسالة الثانية الواردة للغنوشي من صفاقس.
مسيرة الاعتداء على القضاء
تبدأ المسيرات ضد جهة ما وتنتهي ضد الغنوشي باسمه وشخصه. هكذا نظم الاتحاد الجهوي بمدينة صفاقس، وهو التمثيلية الجهوية للاتحاد العام التونسي الشغل، مسيرة احتجاجية تطالب بعدم محاكمة نقابيين اعتدوا بالعنف الشديد على نائب الشعب المنتخب ورئيس لجنة الصحة بالجهة.
تظلّم النائب لدى القضاء فأوقف النقابيون، وسيعرضون على القضاء قريبا. وإدانتهم بممارسة العنف تعني أن النقابة، كل النقابة، صارت محل اتهام وتجريم من قبل جمهور واسع يعارض أدوارها ومهامها السياسية بعيدا عن العمل النقابي، وخاصة في أفق انعقاد مؤتمرها هذه السنة، واستبدال قيادات لا تزال مصرة على البقاء بحمايتها لممارسي العنف، من أمثال بوعلي المباركي الذي نجا من قضايا كثيرة تمس سمعته النقابية والمالية وحتى الأخلاقية. فإذا تجرأ القضاء على بعض النقابيين فإن الباقي سيكون في طابور الوقوف أمام كل محاكم تونس، فما من جهة ليس فيها نقابة متغلبة ومكروهة، ولكن مخيفة ترهب الناس. وسقوط نقابة واحدة بالقضاء سيفجر الأرض تحت النقابة في كل محل مارست فيه الإرهاب النقابي.
فشلت المسيرة في تجميع الناس حول مطلب النقابيين وأظهر الناس نفورا، وكنت شاهد عيان على اللعنات التي تصب على المسيرة من خارجها. العدد كان قليلا والشعارات باهتة، لذلك انفرط عقدها وبقيت مجموعة صلبة كشفت عن خليفتها السياسية بعيدا عن زعم حماية النقابة، عندما رفعت شعارها السياسي: اليتيم يا غنوشي يا سفاح.
بين زعم حماية النقابة وبين الشعار الذي انتهت إليه يخرج الغنوشي رابحا، فجوهر ما قامت به النقابة وما ستقوم به موجه ضده. فقد استعدت شارعا لم يعد يرى الغنوشي عدوا، لذلك ينفض عن المسيرة عندما يُرفع الشعار الاستئصالي. لا يهم الغنوشي أن يراه الشارع صديقا، فالخطوة الأهم هي أن لا يراه عدوا وأن لا يشارك في الاعتداء عليه.. إنها نقلة نوعية وكمية في موقعه وفي وجوده؛ لا يحسن خصومها قياسها بدقة عندما يرفعون ضده شعارات استئصالية. ولقد ربح من الشعار المعادي أكثر مما ربح رافعوه.
"فاتح حزيران".. تلاشي مكونات المنظومة
يمكن التأريخ بيوم الأول من حزيران/ يونيو 2020 في تونس كيوم علامة في تفكك منظومة ابن علي إلى أصغر أجزائها. لقد فشلت مكونات منظومته الحزبية التجمعية في الخروج معا في باردو ضد الغنوشي وضد المسار الانتخابي الذي جاء به، فارتدت على نفسها وانخسفت. وفشلت منظومة يسار النقابة التي كانت عصا ابن علي داخل النقابة وخارجها في تجميع الناس ضد الغنوشي.
لم تنفع الذرائع التي تظلل بها مسيرو المسيرات والاعتصام في تأليب الناس ضد الغنوشي وحزبه. ونكرر التنبيه هنا إلى أن التوقف عن معاداة الغنوشي ليس انتقالا إلى عشقه والانخراط في مشروعه السياسي.. إنه رفض الانجرار إلى معركة لم تعد معركة الشعب التونسي، وهذا هو أكبر انتصار ينتظره الغنوشي وقد قدمه له خصومه يوم الأول من حزيران/ يونيو.
الذهاب إلى المعارك الحقيقية التي يحتاجها الشعب، والتي لا تجعل الغنوشي هدفا وإنما تجعله فاعلا ضمن فاعلين يشاركون في بناء وطن.. هنا يملك الغنوشي أوراقا كثيرة، أهمها حزب منظم ويتعلم السياسة بسرعة، فيما خصومه يتلاشون في الشوارع.. في مثل هذا الوضع يمد الغنوشي رجله وسيمدها يوم الأربعاء، يوم النقاش البرلماني حول الدور الدبلوماسي لرئيس البرلمان، والذي كان جلسة تحقيق برلماني لها صلاحيات تأديبية فنزل إلى جلسة حوار أخوي.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: