انطلق من قراءة فشل الإسلاميين في الحكم بعد الربيع، وخاصة بعد التفويض الشعبي الذي فازوا به دوما فخذلوه بغياب الخطة وبغياب شخصية قوية، تعرف أن تحكم وتقنع دون ارتباك ولا تردد. ما هي ملامح شخصية الحكم المطلوبة شعبيا والتي افتقدها الإسلاميون في مواقع كثيرة؛ انتهت بفشلهم فعلّقوا خيبتهم على التأثير الخارجي المعادي دون تقديم نقد ذاتي يعيد تأسيس الفعل السياسي المنتج للبقاء والنجاح في السلطة؟
هناك عناصر يمكن إبرازها واعتمادها قاعدة للتحليل:
• أولها فكري يتمثل في جهل الإسلاميين بمجتمعهم الذي يتطور.
• ثانيهما عملي يتمثل في رهبة من الحكم ناتج عن فقر في التكوين السياسي.
• ثالثها اجتماعي، وهو تحول قطاع واسع من الإسلاميين إلى طبقة وسطى انتهازية.
بنى الإسلاميون صورة للعالم تقسّمه إلى إسلاميين وجاهليين؛ يتمتع الإسلاميون في الصورة المبنية بلا سند علمي بكل النقاء الأخلاقي، بينما يحمل غيرهم وزر جاهلية تاريخية "تراكمت عليها جاهلية وافدة من الغرب الكافر". وناضلوا من أجل استعادة العالم الجاهلي إلى حظيرة الإسلام الصافي، لذلك سيطر الخطاب الشريعي على عملهم ووجهه.
لم يكن هذا واضحا كل هذا الوضوح زمن تأسيس حركة الإخوان المسلمين في النصف الأول من القرن العشرين، لكنه ازدهر وسيطر تحت تأثير الهجرة إلى موطن الفكر الوهابي بعد مذابح الإخوان في زمن ناصر. وتمكن هذا الفكر التقسيمي خلال الثلث الأخير من القرن العشرين، وتربت عليه أجيال أقل ما يقال فيها إنها في قطيعة مع مجتمعها؛ لا تعرف ما الذي يشقه وما الذي يملي عليه فعله المدني والسياسي والأخلاقي.
غاب المفكرون والأفكار، وغابت أطروحات المراجعة وإعادة التأسيس المبنية على تغير المجتمع والأفكار والأطروحات الفلسفية في العالم المحيط بهم، حتى إنه يمكن القول إن التنظيم الذي نشأ سياسيا قد تحول إلى طائفة دينية مغلقة على نفسه، واتخذ القمع مبررا للانغلاق الفكري قبل الانغلاق التنظيمي، وانتقلت كثير من أمراض الجسم الإخواني المركزي إلى فروعه القُطرية. كان هذا الجسم يعالج قروحه الفكرية بالإيغال في العمل الخيري بصفته تعبدا حلالا يقرب الناس إلى الله، دون مقابل سياسي لم يكن هدفا في ذاته.
لن يكتشف هذا الجسم المتضخم عاهاته إلا في الربيع العربي، فلم يفلح في الخروج، ووقع ضحية تضخم حجمه وفقر فكره وعجزه عن الاجتهاد السياسي خارج التقسيم القديم للعالم إلى خيرين وأشرار. لقد تطور العالم حول الإخوان بينما بقوا حبيسي اجتهادهم المؤسس، فأعاق ذلك خروجهم إلى الناس بنظرية في الحكم ضمن ديمقراطية تعددية تمثيلية بغير مرجعيتهم الأولى، فلم يقبل الناس منهم ذلك ولم يمكنوهم من السلطة بقدر ما توقعوا، فباؤوا بخيبة كبيرة، وزادهم رهقا جهلُهم بمجتمعهم القريب، وأتحدث عن مصر بالتحديد. ويعتبر اختيارهم للسيسي وزير دفاع مع مرسي أكبر علامة على جهلهم بمجتمعهم الذي أودى بهم قبل أن يودي بهم الانقلاب.
الجهل ينتج الارتباك أمام الحكم
جهل الإسلاميين بمجتمعاتهم (وكثير من الجهل يتذرع باطلا بالمجازر المرتكبة في حقهم) جعلهم يقفون حائرين أمام استحقاقات الحكم، بعد أن سارعوا (مثلما أُملي عليهم) إلى انتخابات تعددية دون اكتمال شروط تصفية المنظومات التي ثارت عليها الناس. وقع في هذا كل التيارات الإسلامية في كل قُطر عربي شهد ثورة. لقد جروا إلى الحكم قبل معرفة شروطه، وأهمها تصفية المنظومات الحاكمة.
لقد اتهمهم الكثيرون بخيانات الثورات والرغبة في قطف نتائجها قبل نضجها، وهو اتهام لا يخلو من صحة لكنه يسبق سوء النية على الجهل بالحكم وشروطه. لقد كان الجهل مسيطرا، فلما وقعت السلطة بين أيديهم وجدوا أنهم لا يملكون أدواتها، وأهمها معرفة دقيقة بحاجة المجتمع، وخاصة حاجة الناس البسطاء إلى تحسين شروط وجودهم وتطويرها، وكذلك معرفة طبيعة النخب الفكرية التي تربت بجوارهم وحكمت مجالات الفكر والثقافة، ووجهت التعليم بكل مراحله وملكت الإدارة في غيابهم.
لقد اكتشفنا خواء جماعة الإخوان من الكوادر، واكتشفنا جهل حزب النهضة وكوادره حتى التي نجت من المحرقة وجاورت الجامعات الغربية ولم تستفد منها، فعادت جاهلة كما ذهبت إلا قليلا غير ذي تأثير.
هل كان يمكن التعلم زمن المحرقة؟ نعم كان ذلك ممكنا بكثير من الذكاء العملي الذي لا يستطيب النواح العاجز ويعمل على تكوين شخصية حكم. لكن الكسل الذهني المطمئن إلى التقسيم الأخلاقي للعالم كان يكتفي بقليل من الدعوة إلى الإيمان وتحسين السلوك الفردي، دون بحث في محددات السلوك الاجتماعية والثقافية وخاصة السياسية.
لم يطرح سؤال عميق (لا يزال معلقا فوق رؤوس الجميع)؛ من قبيل كيف يمكن بناء مجتمع مزدهر اقتصاديا واجتماعيا خارج الأطروحات الليبرالية المتوحشة وخارج أطروحات الاشتراكية الفاشلة، وبالاستناد أساسا إلى الإسلام؟ كان مثل هذا السؤال سيزلزل كل ثوابت الإسلام الدعوي ويخرجه من طمأنينته، ويدفع إلى دحض التقسيم القديم ويفتح باب تفكير خارج أطروحات التأسيس الأولى، بل ينسف أطروحة "الإسلام هو الحل".
لا ننكر تأثير المحارق على فشل التفكير في البدائل عبر تفكيك بنى المجتمع وإعادة تركيبها ذهنيا لحكمها بما ينبغي لها، لكن المحارق كانت ذريعة لكسل فكري دمر قدرات التنظيمات الإسلامية، وجعلها تعاني معضلات الحكم لما أتيح لها.
التغيير الاجتماعي غير بنى التنظيمات نفسها
في ظل الحكم القمعي حصلت تطورات اجتماعية غير منكرة. لقد تقلص الفكر وظهرت طبقة غنية جدا (بقطع النظر عن الوسائل)، ولكن ظهرت في الأثناء طبقة وسطى مثقفة ومتعلمة، ولها طموحات برجوازية صغيرة كان بعضها داخل أجسام التنظيمات الإسلامية نفسها.
هذه الفئات الوسطى لا تلتقي مع قواعد أحزابها في نفس المطامح، بل تلتقي أكثر مع نظيرتها الاجتماعية خارج الأحزاب غير الإسلامية. فالمحدد الاجتماعي (الطبقي) هنا يقود التفكير ويحدد الموقف السياسي، لذلك فإننا نرجح أن المخارج السلمية التي جنحت إليها التنظيمات الإسلامية ضمن الربيع العربي هي مخارج تحبذها الطبقة الوسطى المستريحة في مواقعها، وتعرف أن أي ديمقراطية تمثيلية ستأتيها بمزيد من المنافع المادية والرفاهية في الوضع الذي هي فيه، وربما تفتح لها أبواب الثراء والانتقال الاجتماعي إلى طبقة أعلى، وهذا الذي حصل دون قراءة في النوايا أو الخطاب التمويهي الذي تتقنه الطبقة الوسطى المتعلمة التي تعرف أن تحول تعليمها إلى وسيلة ترقي اجتماعي، ولو عبر تنظيم ديني يؤسس على خدمة الفقراء.
ليس لدينا علم دقيق بالفئات الاجتماعية التي شكلت نويات التنظيمات الإسلامية، لكن يقينا أن قواعدها كانت من فقراء يبحثون عن حماية أخلاقية أمام حداثة عدوانية، وعن حماية سياسية من أنظمة سياسية قاهرة، وقد وعدتها التنظيمات الإسلامية بذلك. مع الوقت، ركنت القواعد المفقرة وتقدمت الفئات الوسطى ووجهت العمل الفكري القليل (نحو الدعوي المريح لها أولا)، ووجهت العمل السياسي لما أتيحت لها الحرية نحو مصالحها بما يذهب عنها في العمق كل جوهر إسلامي (أخلاقي وسياسي اجتماعي) تدعيه، ويجعلها في الجوهر أيضا غير بعيدة عن كل التكوينات الليبرالية الحاكمة، لتعيد إنتاجها لاحقا وهي في السلطة أو لديها بعض السلطة. وهناك وجدت منجاتها ومجال اجتهادها، فلم تمل إلى يسار الفكر ولا يسار السياسة، بل تيامنت وقادت بروح ليبرالية، وستظل تتجه يمينا حتى تنتهي سياسيا ويخرج إسلام اجتماعي آخر غير معني بأخلاق الناس بقدر ما يفكر في قوتهم وحريتهم. ونحن نشهد حزب النهضة التونسي يقود حركة التيامن الاقتصادي لإنقاذ قياداته المنتمية إلى طبقة وسطى يعوزها الانتماء إلى الفقراء كمشروع سياسي.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: