تقرير الحريات الشخصية والمساواة في تونس: إعادة تصويب النقاش
نور الدين العلوي - تونس المشاهدات: 3465
أصدرت لجنة الحريات الفردية والمساواة المكلفة من رئيس الجمهورية في تونس؛ تقريرها، ورُمي التقرير في الفضاء العام وكان من المنتظر أن يحرك نقاشا عميقا حول نمط المجتمع التونسي القائم الآن والنمط الذي يريد التقرير أن يرسيه مستقبلا. لكن ردود الفعل الأولى جاءت - على عادة التونسيين - كاشفة للضحالة الفكرية التي خلفها ابن علي فيهم. فهم لا يخرجون من أحد موقفين تكفيريين: تكفير بالدين أو تكفير بالحداثة. فالحداثة في تونس دين جديد وله أنبياؤه، وله خاصة جمله التكفيرية التي تستند إلى السلطة وتستعمل عصاتها الغليظة.
النقاشات الأولى مخيبة للآمال؛ غلب عليها التوريط السياسي المحلي وأغفلت جوانب أخرى تمس من السيادة الوطنية. أحاول هنا إعادة توجيه النقاش نحو عمق التقرير الذي جاء ليعيد تشكيل المجتمع التونسي على صورة جديدة ومختلفة، وأول هذه الخطوات إخراج النقاش من السياسي إلى الفكري.
نقاش في المجتمع بقوة السياسة
أحد أسباب تحريف النقاش الذي أوقع الناس في ردة فعل دفاعية رافضة له؛ هو أن التقرير وضعته لجنة غير ممثلة تمثيلا صحيحا للمجتمع التونسي المتعدد، رغم ضحالة ابن علي. وقبل ذلك يسود إحساس عام بأن هذا التقرير جاء في غير وقته؛ ليصرف الناس عن هموم أكثر حيوية. فالناس في ضنك معيشي يزداد حدة، واللجنة تصرفهم إلى نقاش آخر يبدو قابلا للتأجيل.
لقد تم اختيار أعضاء اللجنة من قبل رئيس الدولة وبطانته بطريقة سياسية بحتة، فكل أعضائها منسجمون حول أطروحة التحديث المستنسخة من النموذج الفرنسي بالتحديد. وهذا التوجه ليس ممثلا للنخبة التونسية، فالعارفون بالنص الديني (لكي لا استعمل لفظ علماء الدين) لم يُشركوا في النقاش. والمحافظون على الأسرة وعلاقتها التقليدية لا أثر لهم في اللجنة، رغم وجود جمعيات مدنية كثيرة تركز عملها على الحفاظ على بنيان الأسرة.
الاختيار سياسي وفكري، يملك السلطة ويقصى بالسلطة، وهو أمر ذكرنا بما فعله بورقيبة زمن فرض مجلة الأحوال الشخصية التونسية فجر الاستقلال، حيث فرض الزعيم المجلة بشكل فوقي متجاوزا كل النقاشات الممكنة مع نخبة المجتمع حينها، وهي نخبة من علماء الزيتونة، خاصة في نقطة محددة لاقت معارضة قوية حينها؛ هي الفصل المتعلق بمنع تعدد الزوجات.
هذا الاختيار المنحاز كشف نوايا الرئيس ونوايا اللجنة المكلفة، والتي وإن تذرعت بالتحديث، إلا أنها تمارس عملا سياسيا يمارس التحديث بالقوة لا بالإقناع عبر النقاش العام والهادئ على مدى طويل.
فإذا أضفنا إلى هذا تزامن تكوين اللجنة وتقديم تقريرها مع مواعيد انتخابية، انكشف لنا الاستقطاب السياسي المُبَطَّن. فعمل اللجنة سيتحول إلى مشاريع قوانين يملك الرئيس أن يقدمها للبرلمان باعتبار حقه في المبادرة التشريعية، فيجد أمامه كتلة حزب النهضة المحافظة التي ستدخل انتخابات 2019 بصورة الحزب الديني الرجعي.
استراتجية التوريط السياسي
هذا الاختيار في التوقيت والمضامين كشف أن للتقرير غاية سياسية يسعى إليها قبل الغاية المدنية، وهي إعادة الاستقطاب السياسي الذي يعيشه المجتمع التونسي بين أطروحة التحديث وأنصارها السياسيين، وأطروحة المحافظة التي تنسب لحزب النهضة؛ أو التي يراد لحزب النهضة أن يدافع عنها ليقدم في صورة الحزب الديني المحافظ. لكن لمن تقدم هذه الصورة ولماذا؟ هنا سيتضح الرهان الأول للتقرير.
يُسَوِّقُ حزب النهضة التونسي نفسه للتونسيين في صورة الحزب المدني الديمقراطي ذي المرجعية الإسلامية، ولكنه يريد لهذه الصورة أن تصل إلى الغرب أولا، فيقبل به كحزب حاكم أو مشارك في الحكم، ليخرج من الزاوية التي حشرت فيها جميع الأحزاب والتيارات ذات المرجعية الإسلامية. وعندما يجد الحزب نفسه الآن أمام تقرير يمس من ثوابت الدين الإسلامي، ويقترح نمط مجتمع قائم على قوانين وضعية صرفة، فإنه يضطر إما إلى معارضته في الشارع وفي البرلمان (عندما يصل إلى البرلمان)، فيفقد بالتالي كل احتمال قبول من الغرب؛ الذي وضع هذه الشروط على المجتمع التونسي وليس فقط على الحزب ذي المرجعية الإسلامية، أو أن يتظاهر باللامبالاة، فيفقد بالتالي ثقة فئات اجتماعية وثقافية ما زالت تعتقد أنه الحزب الذي سيعيد الحكم بما أنزل الله في أمور الأسرة والمجتمع. وهو مطلب حقيقي لم يملك له صوتا غير انتظار أن يفعل حزب النهضة ذلك.
نضيف إلى ذلك أن بقية المكونات الحزبية للمشهد التونسي حتى الآن ظلت صامتة عن كل ردة فعل عن التقرير، وتتربص بموقف حزب النهضة؛ فإذا قبل التقرير نُعي عليه مخالفته لمرجعيته الدينية، بما يفصله عن آمال شعبية تريده أن يتحمل مسؤولية الدفاع عن الدين، وإذا رفض التقرير نُعت بالحزب الرجعي المحافظ. فتجني هذا المكونات ثمرة أحد الموقفين، دون أن تتحمل أيه كلفة لأي موقف من التقرير. وكان هذا منتظرا بقوة من هذه المكونات التي تتهرب من الحسم في مواضع الحسم، فتكشف انتهازية فكرية تجعل منها مجموعات من الأشخاص لا يرتقون إلى حزب ذي أطروحة، بما في ذلك المكونات اليسارية (الجبهة الشعبية) التي لا تعلن موقفها من المسائل العقدية خشية دفع كلفتها السياسية في مجتمع محافظ.
العمل مع الغرب ضد شركاء الداخل
لم يعد للرئيس وحزبه (النداء المفكك) من وسيلة لمحاصرة حزب النهضة في الداخل غير ما أشرنا إليه؛ من توريطه أمام الغرب الممول. فالرئيس، وإن تظاهر بالحياد، يعمل على استعادة مكانته ومكانة من يناصره في الداخل، بتشويه الصورة التي يبنيها حزب النهضة عن نفسه ويقدمها للخارج الديمقراطي. والرئيس وبطانته يريدان دخول المواعيد الانتخابية بصورة الحزب أو التيار الحداثي المعادي للرجعية الدينية، وهذا مقتل من مقاتل التقرير. الاستعمال السياسي الخبيث (الاستقطابي) لنقاش مدني فكري حضاري.
هذه هي الصورة التي اشتغل بها ابن علي وسوّق بها نظامه، وحصل بها على المساعدة المالية والسياسية طيلة ربع قرن. وهي صورة غير حقيقية، لكن لها أنصارها في بعض البلدان الغربية، وبالتحديد فرنسا. فلم يُعرف عن الألمان والإانجليز وحتى الأمريكان اهتمام كبير بطبيعة من يحكم؛ بقدر اهتمامهم بإيجاد مواضع أقدام اقتصادية في تونس وفي البلدان العربية والأفريقية عموما. إن الرئيس وتياره الفكري يستعيدون العمل بأسلوب ابن علي (وهو أسلوب العسكر المصري الانقلابي أيضا)، وهنا تسقط مسألة السيادة الوطنية، وتسقط خاصة وقبل ذلك؛ مسألة تطوير المجتمع من الداخل بالنقاش بين مكوناته حول مستقبله، ليصير التحديث أطروحة غربية مفروضة بقوة المال والسياسة. هنا يسقط التقرير، فلا يبقى له إلا قوة الفرض الخارجي. فلكي يحصل موظف تونسي على راتبه وجب عليه أن يسلم خانعا أن التقرير، وقبوله على شكل نصوص قانونية هو ضمانة لقروض الأجور التي تبقيه على قيد الحياة.
من أين يجب أن يبدأ النقاش إذن؟
بعض المدافعين الآن عن التقرير في وسائل الإعلام المحلية ذهبوا في فترة حكم الترويكا (النهضة) إلى البرلمان الأوروبي يطالبونه بحل المجلس التأسيسي لأنه يقع تحت سيطرة حزب النهضة الرجعي، فتم طردهم بعد تذكيرهم بأن المجالس المنتخبة لا تسقط إلا بالانتخاب أو بالشارع المحلي، لا بقوة خارجية. لكنهم لم يرتدعوا، وها هم يستعينون بالخارج ثانية لتغير المشهد السياسي في الداخل.
لكن هل التحريف السياسي للنقاش عبر الاستعمالات الانتخابية يدعو إلى منع النقاش وإغلاق ملف تحديث المجتمع التونسي؟ هذا أبعد ما يكون عن نية هذه الورقة. لذلك، فإن السؤال عن نقطة البداية يظل السؤال الأهم.
المجتمع التونسي يتطور.. هذه حقيقة موضوعية. وتنظيم تطوره بالقانون ضرورة لا ريب فيها، لكن ما هو التصور الذي قد يشترك فيه التونسيون فيكون لهم المجتمع الذي يريدون؟ وهل يأتي النص القانوني لاحقا للفعل الاجتماعي أو يسبقه ويصنعه؟ البحث عن المشترك الوطني هي نقطة البداية، وأولى خطوات النقاش هي إخراجه من الفرض بالسلطة وفتح النقاش مع الناس الذين سيطبق عليهم القانون بعد سنّه. رفع يد السلطة السياسية عن النقاش يسقط الاستقطاب الجاري الآن، ويعفي المكونات السياسية من التحيز مع التقرير أو ضده، أي أن يخرج الموضوع من دائرة الفعل السياسي إلى دائرة الفعل الفكري والمدني، أي الاجتماعي.
لقد كان أسلوب الفرض بالقوة دوما سببا لرفض كل تحديث، بل هو منتج لردود الفعل الأكثر محافظة، وما يجري الآن هو من جنس الفرض بالقوة، أو تطوير المجتمع بنص قانوني فوقي دون انتظار تطوره الذاتي طبقا لاختيارات الفاعلين الاجتماعيين.
من هنا سنبدأ نقاش التقرير (وللحديث بقية).
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: