مهلا.. هذا المقال لا يحيل إلى طائر العنقاء الخرافي، فلا أحد يقوم من رماده إذا احترق.. ولقد بعنا للأطفال هذه الخرافة ومثلها، ووجب الآن التوقف عن بيع الأوهام للأطفال. لقد هرمنا ولم نقبض على لحظة تاريخية. إن وهم العنقاء يحيل إلى الاستسلام في اللحظة وانتظار المعجزة في زمن آت. زمن البعث لم يأت أبدا، فهو عملية نفخ في رماد عسى العنقاء أن... ولكن نحتاج في هذه اللحظة إلى ضحك أسود. فالبعث معسكر في دمشق يقود الأمة من غرفة نومه، وهذا هو الانتصار الوحيد لأنه قاع الهزيمة المطلقة، ولا عنقاء إنما الحقيقة عارية. والسؤال دون فلسفة، لماذا لا تحل هذه الشعوب نفسها كما تفعل الشركات وتترك الأرض لمن يعمرها؟
ثلاثة قرون من الحديث عن أمة عربية لا وجود لها
زعم الفرزدق أن سيقتل مربعا. لكن مربعا يعيش ربيعه مطمئنا. فالفرزدق كذاب أشر. من نطق الكذبة الأولى عن أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة؟ متى كان ذلك؟ لقد كذب على التاريخ. لم تبن هذه الأمة أبدا. لقد استطاب الناس متعة القوة في الكلام وبنوا وهمهم على بطولات المتنبي (الذي اندثر في أول معركة خاضها، والتي كانت الأخيرة بالضرورة)، ثم استمروا في التقاتل على تراث سخيف، حتى أن لغتهم الجامعة لا تحظى عندهم بالتقدير الكافي، فالحديث بينهم بلغة أجنبية يعتبر رقيّا اجتماعيا تحصل به على الوظائف والمكانات ويسوّق كحداثة كاملة.
يوجد في العرب غثاء بشري يزيد ولا ينقص، ويمول أسواق العمالة في أوروبا بيد عاملة رخيصة وذليلة، لكنه لا يبني اقتصاده الخاص.
توجد لدى العرب ثروات طبيعية متنوعة وغير قابلة للنفاد، لكنهم يمولون بها خزائن أوروبا وبالمجان تقريبا.
توجد لدى العرب جامعات وتعليم متدرج وشهادات دكتوراة، ويوشك كل متعلم عربي أن يضع حرف الدال أمام اسمه، لكنهم جيش مكسيكي، فأفضل خبراتهم تبيع نفسها لتشتغل في جامعات أوروبية وأمريكية.
يوجد لدى العرب قرن عشرين بدأ بعمر المختار وانتهى بخليفة حفتر، فهل يحق لكاتب أن يكتب عن أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة؟ متى يجب أن نتوقف عن الكذب على أطفالنا؟
والقضية المركزية يا حبيبي؟
لو (لو اللعينة) ترك الفلسطينيون لحالهم لكانوا استعادوا أرضهم وأغلقوا ملفهم. طبعا، كانوا سينتجون كما كبيرا من الأكاذيب العربية مماثلا لما ينتجه أي بلد آخر، وربما حكمهم بورقيبة أو ناصر آخر كذاب سفيه. ليست القضية إلا ذريعة لتحقيق التوازن الاستراتيجي مع العدو (انظر لهذه الكلمات الثلاث الأثقل من ثلاث قنابل نووية).
أعلى الأصوات الصارخة بتحرير فلسطين هي التي خربت فلسطين وقضيتها، وهي التي كسرت ظهر كل فلسطيني قاوم منذ أول القرن، بعد كذب مسترسل بنصرة القضية، وخاصة بعد بطولات البعث الممانع من غرفة نومه تتعرى القناعة القديمة بأن الفلسطيني كفيل بنفسه، ويكفي أن يُترك لحاله مع عدوه الذي لن يصمد ساعة. يكفي أن يرفع الأدعياء أيديهم عن القضية.إذا توقفت الخناجر الأخوية عن الطعن في ظهر الفلسطيني سيتقدم نحو بلده ويستعديها. لا قضية مركزية للأمة العربية إذن بل ذريعة لقمع الشعوب باسم تحرير فلسطين (رأسي الآن مليئة بموسيقى عسكرية صادرة عن صوت العرب من القاهرة). القاهرة أول القابضين من لحم القضية، وأعلى أصوات تحريرها في الإذاعة، وأول المندحرين عنها في المعاركة المصطنعة
والربيع العربي؟
أوشك أن أراه بعد طول أمل ورجاء صرخة بشر مرت عليه شاحنة ثقيلة فصرخ موجوعا قبل أن يموت.. كذلك كانت صرخات الاستقلال من الاستعمار المباشر، لكن قبل همود الصرخة كانت الصفقات قد عقدت واستقر الأمر للمستعمر القديم دون دفع ثمن من الدم. والربيع العربي استعادة.. فقبل جمع خيام الاعتصامات كان المستعمر القديم قد وضع رجاله في طريق الثورة (ما أجمل التسمية).
لا تثريب على المستعمر فهو مستعمر غاشم بل الهزيمة صادرة من الداخل. الداخل لا يملك خطة لأنه لا يملك ثقافة التحرر والكرامة رغم الرغاء المسترسل بالأمة العربية الواحدة ذات الرسالة. إننا نرى عربا كثرا يشربون الأنخاب مع ألد أعدائهم؛ نكاية في بعض بني قومهم. والسبب؟ خلاف حول شكل البيضة أو حول جمل الترحم على الموتى. فمن قال "رحم الله الميت" هو رجعي متخلف إخوانجي عميل للمخابرات البريطانية، ومن قال لروحه السلام فهو تقدمي ثوري تنويري؛ يمكنه أن يشرب القهوة مع السفير الفرنسي ويقبض تمويلات لدعم استعمال اللغة الفرنسية الموجهة للشعب الأمي في الأرياف.
الداخل العربي أعجز من أن ينتج خطة للحرية
روح مهزومة؟ لا. لوحة سوداء؟ نعم.. لا بد من صفع المرء نفسه ليفيق من غفوته أو من ركوده البائس. هزائم تتوالى؟ نعم.. وليست قنابل ترامب إلا فصل من كتاب لا يزال مفتوحا على الهزائم. وجب الوصول إلى القاع، ففي القاع أحد أمرين: رسوب نهائي وفسح مجال للحياة أن تستمر في مكان آخر بأشخاص آخرين، أو هبة فوق السطح وسباحة حتى النجاة.
إن الخراب الفكري الذي أحدثته الأيديولوجيات الوافدة على المشهد الثقافي والسياسي في الأقطار العربية المفككة هو الذي خرب معارك الاستقلال ومعارك التنمية ومعارك الحرية. وجب إذن أن نتحدث عن خونة الداخل أو الصهاينة العرب، فهم أخطر من الصهاينة الذين يحتلون فلسطين. بل هم وسيلة الاحتلال. من هم؟ وهل لهم وجوه وأسماء؟ نعم.. من أين نبدأ القائمة؟
- الذين رفضوا تعليمنا بالعربية، ومنعوا جهود الترجمة وتوطين العلوم بجامعتنا أولئك صهاينة.
- الذين يستمرئون القهوة مع الصهاينة ويصعّرون خدودهم لنا أولئك صهاينة.
- الذين كانوا زملاءنا بالجامعة ثم تحولوا إلى زبانية عند ابن علي يسوموننا سوء العذاب.. أولئك صهاينة عرب.
- الذين يقيمون المآتم الآن على ابن علي وعلى القذافي وحفتر وعلى بشار الممانع.. أولئك أنذل الصهاينة البكائين.
هذه أجمل ثمرات الهزائم. انكشف القاع انكشاف أعداء الداخل. لكن الطريق طويلة.
على الشعوب العربية أن تحل نفسها
يعيشون من الهزيمة ويستمرئون بيع كرامتهم لعدوهم، ويبددون ثرواتهم ويكفرون بثقافتهم ولغتهم؟ ماذا بقي منهم كشعوب بالتعريف المتفق عليه لشعب ذي روابط لا تنفصم. لا روابط، هنا شعب في محطات سفر يريد الهروب إلى جهة ما. ليكن، ولكن قبل ذلك على هذه الشعوب أن تحل نفسها كشعوب، ليعلن كل فرد براءته من نفسه ومن تاريخه ومن رقعته الجغرافية التي يعيشها كسجن.
ستكون سابقة عبقرية شعوب تعلن حل نفسها (استعمل جمع غير العاقل)، وهو ممكن لأنها كانت شعوبا شركات أو شعوبا من التجار الجوالة. عقد التجار ينفرط بعد إتمام الصفقة أو عند فشلها. وقد سقطت كل صفقاتها في الهزيمة. هنا موقف تاريخي وأخلاقي أخير، وهو الوجه الوحيد الجميل في الهزيمة؛ أن نرى الحقيقة، وأن تسقط الأكاذيب السارية بعد الأكاذيب المؤسسة أكاذيب الأنظمة التي صدقتها الشعوب.
هل المقال متشائم بما يكفي؟ ليس بعد.
ما زال عدد السوريين أكثر مما يحتاج الزعيم، وما زال القائد في غرفة نومه يستعد لحرب الممانعة.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: