التونسيون أهدروا ثورتهم.. هذه حقيقة ماثلة، ولن يخفف منها أنهم لم يحملوا السلاح ويقتتلوا. إنهم يقتتلون بلا دم، والثورة هي الضحية؛ لأن حجم المكاسب من الثورة ودماء الشهداء ضنين، والقادم أقل إبداعا مما مضى في السنوات السبع، ولا داعي لكتابة جمل تعد بما هو أفضل في قادم الأيام، فمن رائحة الطبخة نعرف مذاقها. لقد عاد النظام القديم إلى الحكم، وهو يسخر من الثورة ويفتت مكاسبها القليلة. أكتب هذا بعد هيجان كثير من الشباب وتهديدهم بالعودة إلى الشارع، بعد أن تكشف فصل آخر من عبث المنظومة القديمة المتحكمة فعلا في مكتسبات الثورة، ومنها هيئة الحقيقة والكرامة، ومحاولة حلها قبل استيفاء أعمالها. لم يعد يمكن العودة إلى الشارع؛ لأن المستفيدين من وضع الانتقال الديمقراطي بالحد الأدنى يقفون ضد الشارع أكثر من أنصار المنظومة القديمة نفسها.
المطلبية ميعت الثورة
أغلب الشباب الذين يدعون الآن إلى العودة إلى الشارع كانوا شهودا على تحول الثورة منذ ساعاتها الأولى إلى مطلبية مادية بحتة، بل كان الكثير منهم وقود النضال المطلبي، فاختصروا عملية القضاء على المنظومة وانصرفوا إلى تحسين أوضاعهم المادية.
سيقول الكثير منهم هنا إن العيب كان في القيادات السياسية التي سارعت إلى احتلال مواقع في قيادة المرحلة مضحية بأهداف الثورة التأسيسية، وإن الثورة كانت بلا قيادة ثورية.. وهذا صحيح، لكنه لا يبرَر بعد انكشاف النوايا والأساليب مواصلة المطلبية التي أجهزت على كل احتمال تصفية المنظومة وإبعادها عن مواقع التأثير، بل سأكتب دوما أن المنظومة عادت إلى الحكم بالنضال المطلبي قبل أن تعود بقوتها الذاتية المنهارة.
هل كان تأجيل المطلبية ممكنا؟ أقول إنه كان ضروريا، وكان ذلك يقتضي إعادة النظر في المكانة المدعاة للنقابة التي ستتولى باسم الثورة تحويل الثورة إلى زيادة في الرواتب. فالنقابة التي تدربت على توظيف النقابي في العمل السياسي؛ تملكت زمام المطلبية في كل قطاع منذ سنة 2011، في وقت كانت حاجة الثورة ملحة إلى تفكيك المنظومة بكل أسلوب ثوري متاح، وليس بالضرورة بالدم أو بالسحل في الشوارع.
وأفحشت النقابة في المطلبية بعد أول حكومة منتخبة، وانساق معها الشباب الذي يحلم الآن بالشارع، دون وعي بأن المطلبية كانت عملا سياسيا موجها ضد طرف سياسي وصل للحكم بالانتخابات. كانت المطلبية المغرية بأجور ومنح وتشغيل تخفي أجندة سياسية يقودها الخاسرون في انتخابات 2011، ومنها قطاع واسع من كوادر حزب التجمع وشبابه الذين تحولوا فجأة من الشعب المهنية إلى نقابات قاعدية تغلق أبواب الإدارة وتفرض مطالب تضع من يحكم أمام خيارين أحلاهما مر: انهيار المسار السياسي المتفق عليه أو الاستجابة للمطالب التي لا تنتهي. وكان هذا الوضع هو الذي جعل أبناء الثورة يغفلون عن عودة المنظومة بالتدريج، حتى استفاقوا عليها تحكم بعد 2014. لقد عادت المنظومة على كتفي النقابة الثورية التي زعمت أنها أسقطتها، بما يجعل النقابة جزءا من المنظومة الفاسدة التي لا يراها الشباب المتحمس بعد.
هل يمكن للقائلين الآن بالعودة إلى الشارع؛ الانتباه إلى الدور التخريبي الذي قامت به النقابة ومن يتخفى داخلها؟ أجزم بأن الجواب: لا، فالنقابة تعرف كيف تجعل نفسها خارج النقد، بل كيف تحظى بقدسية، وما لم يبدأ الشباب من تحجيم النقابة وإعادتها إلى حجمها النقابي، فإن أي حديث عن الشارع هو لغو وأمنيات لم تتعلم شيئا من سبع سنوات من هدر الثورة باسم الثورة.
الطبقة السياسية مصابة بجرثومة السلطة
كل الطيف الذي مارس السياسة منذ الثورة مصاب بجرثومة الحكم، ويريد الحصول على قسط منه. وكانت النقابة تعرف ذلك، فهي تحمل نفس الجرثومة، غير أنها تتحرك من خارج الحكم، فملكت زمام المطلبية، فأغرت الجميع. وكانت بقية المكونات التي عارضت حكومة الترويكا ترى انهيارها تحت ضربات النقابة، وتشارك مستمتعة ومنتظرة الحلول محلها.
لقد ثبت بكل الأدلة أن الطبقة السياسية تخاف من النقابة، وتتجنب مواجهتها حتى باللوم الخفيف. جميعهم في المجالس الخاصة يقولون إن النقابة خربت الثورة وخربت البلد، ولكنهم يصدرون بيانات مساندة لكل تحركاتها، بما في ذلك تخريب المدرسة باسم إصلاحها.
إن ضعف الطبقة السياسية أمام النقابة متأت أساسا من رؤيتهم السياسية القاصرة، فالسياسة الناجحة عندهم هي التي تؤدي مكسب شخصي، ومواجهة النقابة تعني سقوطهم. والمنظومة القديمة تعرف نقطة الضعف هذه، فلا تردع النقابة، بل تحرضها بمزيد من الانسحاب أمامها، بل بإشراكها من موقع متقدم في القرار السياسي، ولذلك تدعوها للإمضاء على وثيقة قرطاج مثلا، لتمكنها من مزيد من القوة، ثم لا تعقد أمرا حتى تنظر فيها النقابة وتوافق.
في بلد تعين فيه النقابة الوزراء وتسقط الحكومات؛ لا تخسر المنظومة القديمة، بل تخسر الثورة؛ لأن مكونات المنظومة لا تخسر شيئا في المطلبية المجحفة. فطبقة رجال الأعمال الفاسدين (وهم عماد المنظومة وممولوها) لم يشهدوا إضرابا واحدا في مؤسساتهم ولا أزعجت النقابة حضراتهم، بل اشتغلت النقابة كآلية تعطيل للإدارة والمؤسسات العمومية بالأساس، وهو أمر لا يعني رجال المال الذين يدفعون الوضع لمزيد من التعفن. فكل تعفن سياسي يشغل الناس عن مطلب المحاسبة التي ترعبهم.
الهيئة آخر أوراق الثورة المهدورة
ليس للشباب خطة غير ما ترسمه أحزابهم، والباقون خارج الأحزاب قلوب كبيرة وأياد قصيرة. يرون أمامهم أن هيئة الحقيقة والكرامة هي آخر يتيم على مأدبة لئام، ويرون أنه قد تم إفراغ الدستور من مضامينه الثورية، رغم ما يبشرنا به المتفائلون الغفل من إنجاز الانتخابات البلدية. وأفرغت بقية الهيئات من دورها، فهي تخدم الآن مصلحة المنظومة رغم الخطاب الثوري الكاذب. ويجري الآن رفض التمديد لعمل الهيئة، رغم وضوح النص القانون الذي يحكم وجودها وعملها. ملفات الفساد جاهزة، وتمريرها إلى القضاء يعني بدء المحاسبة، وهذا لن يمر. فهو نهاية المنظومة، بما فيها النقابة ورجالاتها الوالغون في فساد كبير.
الثورة في قلة من أهلها وتحتاج لتوليد أمل من الصلد الشديد
وقفة مساندة للهيئة أمام البرلمان لم تتجاوز المئة شخص، وأصوات إنقاذ الهيئة من داخل المجلس تضيع في جعجعة أعدائها الوقحين، والخروج من الأزمة سيكون بثمن من العدالة الانتقالية. ولا ندري أين تجري مفاوضات الصفقة على مستقبل الهيئة، لكن المأزق أكبر من أن يحل ديمقراطيا (طبقا لقواعد العمل البرلماني).
من سيولد الأمل؟ وأين؟ وبماذا في غياب شارع يراقب ولا يتدخل، فإذا تدخل لم يتجاوز فيسبوك التونسي الكسول عن الشارع؟ أيام عسيرة تمر بها تونس وتمر بها الثورة، وتمر بها آخر مؤسسة من مؤسساتها. نراقب هدر الثورة وهدر فرصة النجاة بتونس من الدكتاتورية، ونرى مشوار صعود الربوة من جديد، ونقيس الشقاء القادم وثمن الألم والدم.
يمكننا أن نحوقل، ولكن كل كلام دون شارع جهير يتلاطم هو هدر آخر. لقد تخلى الفقراء عن ثورتهم.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: