التقيا صدفة فتصافحا، وضع كل واحد منهما على وجهه ابتسامة. أحدهما كان سعيدا بالصورة فنشرها، فردّ الآخر ببيان حربي. وأشعر الجميع من حوله أن تلك الصورة والمصافحة كانت عارا يجب محوه بالدم، وسمعنا تلك العبارة الجاهلية (بيننا دم).
إنها تونس السلام والديمقراطية، حيث الثارات الدموية لا تهدأ، فتوقظها مصافحة غير مرتبة بين زعيم إسلامي وآخر يساري، كأنهما ليسا من البشر، وإن ضمهما إطار احتفالي في سفارة أجنبية يستحسن فيه إظهار الاتفاق الوطني قبل فضح الصراعات الداخلية.
ولكن السؤال الأهم بعد الصورة، وأبعد منها، واستدلالا بها، هو: إلى متى تظل الشعوب العربية في مختلف الأقطار تتحمل كلفة هذا الصراع، بل هذه الحرب بين اليساري والإسلامي، وتتأخر تجاربها الديمقراطية وتفشل وتنهار بسببه؟
تراكم الوقائع يكشف قاعدة السلوك
نعم، يمكننا العثور على قاعدة مشتركة توجه سلوك الفريقين السياسيين الأبرز في الساحة العربية. لكني حتى اللحظة أرى اليساري العربي هو الذي يعلن الحرب على الإسلامي والوقائع أوسع من المقال.
مذبحة الإسلاميين في تونس منذ إعلان وجودهم قادها اليسار التونسي بشقيه ونفذها في الشارع وفي الإدارة وخاصة في دهاليز وزارة الداخلية والنتيجة كانت تمكن الطاغية بن علي من مفاصل الحكم وإجهاض مسارات البناء الديمقراطي الذي ناضل الكثيرون من أجله منذ عقود.
الانقلاب على الديمقراطية في الجزائر ومذابح الإسلاميين تحالف فيها اليسار الجزائري مع دولة الجنرالات الذين استحلوا القتل وأبَّدُوا وضع الدكتاتورية وحرموا الجزائر من سبق ديمقراطي، حيث إن وضعها السياسي الآن ماثل في صحة رئيسها.
الانقلاب المصري (وهو آخر الوقائع القادمة من الشرق) تحالف فيها اليسار المصري مع العسكر الخياني وأحرقوا الإسلاميين أحياء في الساحات، وعاد وضع مصر إلى ما قبل 25 يناير 2011، بل إنه الآن أشد وأنكى.
ويمكننا تعديد المزيد من الوقائع، لكن تكفي العينة للدلالة على الأصل. ولنطرح من خلال ذلك السؤال هل ربحت الديمقراطية في الأقطار العربية؟
البؤس السياسي العربي الراهن ناتج عن هذه المعركة
تأخرت كل تجارب الديمقراطية في البلدان العربية. فكلما انطلقت تجربة أو تراكم نضال يمكن أن يثمر بداية لعملية سياسية ديمقراطية طويلة النفس، استيقظت أو أوقظت شياطين اليسار فخربتها.
الوجه الآخر لهذه الجملة هي أن الإسلاميين ديمقراطيون، وأن الكلام ينتهي لصالحهم وهذا تأويل قاصر. منذ بدايات الدولة العربية المستقلة عن الاستعمار المباشر والإسلاميون في وضع الضحية.
ويمكن أن نحسب أعمارهم فنجد أنهم قضوا في سجون الأنظمة أكثر مما قضوا بين أطفالهم وكان سجانوهم ومعذبوهم، خاصة في التجربة التونسية التي أعرفهما من اليسار الذي زاملهم في الجامعات ثم علقهم من أرجلهم داخل الزنازين.
الإسلامي لم يحكم بعد وعندما أتيحت له فرصة أن يكون في السلطة لم يستعد للمعركة مع اليسار.
وهذا مهم لفهم المرحلة. الانتقام لم يكن على جدول أعماله. لكن اليساري العربي الذي وضعه الصندوق خارج الحكم منع الإسلامي من الحكم وأبد المعركة.
فعاد الإسلامي مرة أخرى إلى وضع الضحية (مصر) أو هرب إلى المنظومة القديمة (تونس) أو اختفى وتشتت (الجزائر)، وعاد اليساري إلى موقع المنتصر الغانم.
السؤال هنا ليس ماذا يربح اليساري العربي لنفسه، بل لفائدة من يحارب اليساري؟! فإسقاط الإسلامي في مختلف التجارب لم يجعل اليساري حاكما بل ملحقا بجهة أخرى ليس إلا.. المنظومات الفاشلة واللاشعبية التي كلما أسقطها الإسلاميون في الصندوق أعادها اليساري إلى السلطة بغير الصندوق.
اليساري المرتزق
كان يمكن أن تستمر تجارب الإسلاميين في الحكم (مصر وتونس خاصة) وكان يمكن لعامة الناس أن تقيّم هذه التجارب وتحكم عليها بالصندوق.
وقد بدت للناظر رغم قصر عمر حكومات الإسلاميين أن هؤلاء ليسوا عباقرة ولا يملكون حلولا خارقة ومؤسِّسَة، بل إنهم ساروا على خطى المنظومات التي أسقطتها الشعوب، وبدا هذا كفيلا بتعديل أحجامهم ورفع الغشاوة عن ملائكيتم المدعاة، التي تغذت من العذابات، وتعليمهم فنون الحكم أيضا.
وكان ذلك سيكون خطوة مهمة جدا في بناء تجارب ديمقراطية تضم الجميع. لكن النتائج الآن هي:
إسلاميون مضطهدون (وضع الضحية المريح والمنتج للتعاطف في مصر خاصة) أو منحازون إلى السلطة (تونس).
يساريون يخدمون المنظومات القديمة ويلتقطون فتاتها ويعتبرون تغييب الإسلاميين مكسبا لا يقدر.
منظومات قديمة ثابتة أو عائدة بقوة وتجازي خدامها بغنائم السلطة.. وما من خادم خدمها كما خدمها اليسار، إذ قضى على أهم منافس لها في الصناديق فقطع طريقا وفتح آخر لكنه لم يصبح صاحب السلطة وأنى له؟
ولم نر في هذا الدور الذي لعبه اليسار العربي لفائدة المنظومات أي اختلاف عن دور الجندي المرتزق في حروب ليست له، وكل ما همّه فيها أن يقبض واليسار يقبض من المنظومات القديمة في مصر وتونس والجزائر والمغرب.. ولا يحكم إلا كما تحكم الجارية في الحرملك.
لقد جمعتني صدف الحياة بيساريين شرسين ضد السلطة يعرفون مقتلها وقد أثخنوا فيها في معارك شريفة، ولكن هؤلاء أنفسهم ينقلبون إلى ذباحين محترفين عندما يتعلق الأمر بالإسلاميين.
كيف انتهت بهم التحاليل الفكرية ووجهت عملهم إلى هذه النقطة؟ يقتضي هذا العودة إلى أسس فكر اليسار العربي وهو أمر يتجاوز مساحة المقال. لذلك أعود إلى السؤال: ماذا ربحت الديمقراطية من هذه المعركة؟
خاسرون كثر ورابح وحيد
النظام العربي الرسمي قبل 2011 وبعده هو الرابح الوحيد من هذه المعركة. الإسلاميون لم يخرجوا من سجونهم الحقيقية والنفسية. واليسار لم يطبق برنامجه الاجتماعي الذي أسس عليه وجوده (نظريا وخطابيا)، والشعوب العربية لم تعرف كيف تخرج من هذه الدوامة.
فلا هي جربت الإسلاميين في الحكم فحكمت لهم أو عليهم، ولا هي تحررت من التعاطف معهم، ولا هي اختبرت أطروحة اليسار في الشارع، ولا هي تركت لنفسها لتخوض حروبها ضد أو مع هذا أو ذاك من طرفي الصراع. إنها شعوب رهينة في معركة ليست لها.
الديمقراطية خاسرة والإمكانيات مهدرة والطاقات مشتتة والمنظومات العميلة الخيانية رابحة دوما. الاتفاق على نقدها لا يعني عدم العمل معها. فهي السجان وهما السجينان في لعبة صفرية يقوم أحدهما دوما بإنقاذ نفسه على حساب السجين الآخر لفائدة السجان الحقيقي.
هناك وعي واسع بهذه الفخ/ المعضلة وخطاب الخروج منه يصطدم بالتخوين والمصافحة الحرام كشفت أن لا سبيل، كأن الإبادة هي البديل. ولقد حاول اليسار ولم يفلح لكنه لا يقدم قراءة أخرى تعطي أملا في أن جوهر الديمقراطية هو التعاون مع المختلف داخل الوطن.
قالت يسارية تونسية ضالعة في الإقصاء يوما: لقد دسنا على قلوبنا لنقبل العمل في حكومة فيها النهضة، لكن هذه اليسارية ورفيقاتها لم تدس يوما على قلبها وهي تطلب تدخل فرنسا عسكريا في تونس لإنقاذ الديمقراطية.
ولقد رأينا يسارا يصافح الصهاينة في باريس ولا يتورع عن قبول مال نفطي معاد للديمقراطية، لكن لا يقبل مصافحة إسلامي تونسي يقتسم معه الماء والهواء ووسائل النقل العام. ويتجاوران في السكن في الأحياء الشعبية ولا يتبادلان التحية.
هذه المعركة دمرت التجربة التونسية
تتهاطل نتائج الانتخابات المغربية صباح الثامن من تشرين الأول/ أكتوبر 2016. تقدم الإسلاميون وتراجع اليسار تراجعا مهينا. في التجربة الوحيدة التي لم يستطع فيها اليسار تسويق نفسه للسلطة لم يفلح في قطع الطريق على الإسلاميين.
انتهت وظيفته ولم يبق له إلا صلف التصريحات الموغلة في الغرور.
منجزات الإسلاميين على الأرض المغربية زادت من حجمهم البرلماني وهم على أبواب تشكيل حكومتهم الثالثة. سيثبتون قدرة على التعاطي مع فرقاء الوطن المختلفين. سيوصلون الشارع العربي إلى قناعة راسخة مفادها أنه يمكن العمل مع الإسلاميين ولا يمكن العمل مع اليسار.
توجد فوائد وطنية (فوق حزبية) في ذلك والحرية والديمقراطية كفيلتان بتعديل المشاهد المتطرفة والالتقاء على مصالح وطنية. قدرة الإسلاميين على التطور (النفعي لنقل الانتهازي) ستمكنهم من خدمة الشوارع المفقرة ولو بعد حين.
وستكون هذه السبيل الوحيدة لينام اليسار العربي نومته الأبدية في كتب التاريخ. كل ما يرجوه من كان مثلي خارج المعركة أن يكف الإسلاميون عن هدايتنا إلى ديننا فنحن اهتدينا إلى الله من غير سبيلهم. والديمقراطية ليست حرب الفتوح.
--------
وقع تحوير العنوان الأصلي للمقال
محرر موقع بوابتي
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: