تشكيلية الصورة عبر فن الشارع من خلال تجربة أيمن بالشيخ
نسرين غربي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 8203
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
تعتبر التصورات الفنية رؤية جديدة تفتح المجال للتجارب و ممارسات فنية مواكبة لكل التغيرات فالفن يؤثر و يتأثر و ذلك عبر عملية أخذ و عطاء تتجلى داخل المجتمعات ووفق تغيرات و تحولات .
فالفضاء الإجتماعي يمثل فاعلا يقدمه الفن عبر تصورات و خيارات و إنتقادات تمثل رؤية تشكيلية تصل إلى الكشف عن شكل فني معاصر يتجلى في ماهية الصورة التشكيلية المتمركزة في الفضاء عبر دلالات و معاني تخترق قواعده و هياكله و تغوص في مضمونه مشكلا بذلك جسر للتواصل مع مسألة الأصالة و المعاصرة في ذات الحين و لعل هذا ما أكدت عليه تجربة "أيمن بالشيخ" بإعتبارها سجلت ثراء الفنان و إمتداد الذات البشرية عبر تصورات تشكيلية تستغل على التراث و تجعله وسيلة لتعبر عن رؤاه المركبة على المرجعية التراثية المدرجة في المجال التشكيلي لما له من أبعاد تحاول الكشف عن تطورات ذاتية تقدم لغة بصرية و تشكيلية تنطلق من أسس فنية و تحمل في طياتها أبعاد عميقة نبعت من قرية الرياض بمدينة جربة التونسية .
فهذه المدينة حمل رؤية تكشف عن الظاهر و الباطن و تجد المرئيات و اللامرئيات على حد سواء و بذلك تؤسس لقيمة التراث العربي و دوره في التعبير حيث أنه يمثل لغة و خطابا يتجاوز الكلمة ليبلغ التشكيل في رؤية إنفتاحية تقدم العمل الفني في فن متحرر و حاملا لرسالة يتفاعل فيها المتلقي مع الفضاء العمومي و يكشف بذلك عن التغيرات التي شهدها فن الشارع في البلاد التونسية خاصة في الفترة الأخيرة وهو ما يكشف عن الإبداع بما هو أداة خلق تعبر عن فعل إنشائي يتواصل مع التراث. ""إتجه الفنان إلى إستغلال فضاءات المصانع المهجورة مثلا و هي أمكنة ليست لها صبغة ثقافية و إتخذها لإنشاء العمل الفني و عرضه في الآن نفسه فصار جمهور الفن متصلا بإبداعية الفنان و إبداعه و أضحى المكان الجديد فضاء يوحد بين الفن وعرضه(1)
حيث ينشد الفنان هنا إحداث علاقة تجمع بين الفن و التراث في آن واحد و تكشف عن أبعاد تأملية تراثية تعبر عن مميزات فنية و تشكيلية تقدم تثاقفا في فضاء يشمل الكل، فهي تعبر عن معاني ذات صلة بالهوية العربية و تحتل أهمية جمالية تدرك منهجا فنيا يستعمله "بالشيخ" في نطاق تشكيلي يبسط أرائه و يقدمها بطريقة إبداعية إنشائية يكون فيها الأسلوب الأدائي وسيلة لطرح قضايا العصر الراهن من خلال أعمال محملة بمضامين جمالية و فكرية لا تخلو من أبعاد إستيتيقية لمقاربات تشكيلية و تبين علاماتها الفنية و هذا ما يتأكد في هذا العمل التالي
هذا العمل هو "بدون عنوان" وهو عبارة عن صورة تشكيلية تستحضر أحداث تاريخية تعبر عن جدلية فنية حيث أن الفنان إعتمد على تشكيل صورة لمحاربين مرو بهذه البلاد ليكون معبرا عن نشأة تشكيلية تتميز بالحرفية و تتمثل في السعي إلى توسيع الأبعاد الجمالية التي تمزج بين البعد الدلالي للصورة و المعنى الفني للعمل فهنا يظهر التسلسل الفني الذي وظفه الفنان بطريقة فنية تستحضر أحداث تاريخية و أبعاد دلالية تدل على الهوية الفنية لمدينة جربة حيث أنها تعبر عن واقع تراثي مزج بين الذاكرة و الخيال و جعل من الأسلوب التشكيلي أداة رمزية لبلوغ إدراكاته التشكيلية كما نلاحظ مزج بين الألوان الحارة و الباردة و هو ما يشكل واقعا فنيا يؤثر في رؤى الفنان و يكشف عن أهمية المرجعية التراثية لندرك بذلك نوعية الفضاء و أهميته داخل العمل الفني فهي أفكار جمالية تعطي هامشا من الحرية التي تنحت خصوصية فردية تتمحور حول هوية جمالية تضفي صبغة شخصية على ثنايا رؤيته و تصوراته الإبداعية وهو وسيلة لإبراز التأويل المنفتح و المختلف على فضاء منفتح يكون فيه فضاء العرض.
من هنا تظهر لنا أوجه الإختلاف في تجربة بالشيخ لكونه ينفرد بتصوير مدلولات تراثية تدخله في مجالات وظيفية و لونية توهمه بالأبعاد البصرية المتنوعة على فضاء العرض,حيث أنه إقتبس من الموروث التراثي وجعله وسيلة لنحت أعماله المرتكزة على رموز و إشارات تستدعينا إلى تأمل الأشكال التي تراوح بين الظاهر و الباطن وفق نسق إبداعي ينتج عملا تشكيليا يؤشر بأبعاد رمزية و دلالية تظهر لنا أوجه الإختلاف و التنوع الذي يحمل جماليات تعكس الجانب الفني للفنان, حيث أنها تدخله في علاقة إبداعية تكشف عن أسرار الخيال مما ساهم في نضج التجربة للفنان ولعل هذا ما أكد عليه إيميل في قوله " العمل الفني لايتطلب مكان, المكان أيضا هو عمل فني".(2)
لذلك تمثل الأبعاد التشكيلية لأعمال بالشيخ بعدا أثريا يساهم في خلق علاقة تواصلية بين الأثر و البنية حيث أن المادة المشكلة لأعماله تبرز هواجسه و ميولاته عبر تشكيلات متنوعة و تطورات و رؤى ترتكز على المرجعية التراثية النابعة من جزيرة جربة, فهي مدينة تتميز بقيمها و عاداتها و تحمل هوية إبداعية تكشف عن إزدواجية جمالية تنهل من الماضي لتتوغل في الحاضر و لعل هذا ما يؤكده هذا العمل المصاحب
يمثل هذا العمل رؤية تشكيلية تكشف عن واقع تراثي تقليدي للمرأة في جربة و تدل عن حضارة جمالية تحمل أصالة و تقدم عملا فنيا يحمل التراث في ذاته حيث أننا نشاهد حضوره داخل العمل بإعتماد اللباس التقليدي للنسوة في جربة و توظيف مقومات تشكيلية تؤثر في المجتمع و تبرز تغييراته و تحولاته هذا من الناحية الموضوعية أما من الناحية التشكيلية فنشاهد إزدواجية لونية تبرز تفاعل التقنية و الأسلوب و تبين طريقة توظيف الفنان للإبداع التشكيلي حيث أنه إستغل الفضاء المفتوح ليشكل جسرا تواصليا مع الأصالة كهوية تقليدية تعبر عن واقع فني يحمل في طياته أبعاد جمالية تمس ذوق الجمهور وتراهن على تطويع العمل الفني المعبر عن صبغة جمالية معاصرة تستمد قيمتها من الإبتكارالجديد للتراث الحامل لأبعاد وظيفية ذات قيم معنوية و مادية.
بالتالي يصبح العمل الفني منفعلا بالقيم التشكيلية التي تمنحه القدرة على القراءة الجمالية المعاصرة و التي تبرز الإنفعالات في نطاق التعبير التشكيلي و الذي يمنحه تأويل يساير العصر.
إن فضاء العرض يساهم بطريقة تشكيلية في خلق فضاء فني يمثل فيه الشكل و اللون و الخط أبعاد أساسية تغوص في فن الشارع و تعتبر وسيلة يتحول من خلالها الفضاء المفتوح إلى أداة عرض تبحث في الأثر الإبداعي المتحرر و الحامل لرسالة يتفاعل فيها مع تركيبته الشكلية حيث نجد التركيبة الخطية المكونة للعمل ترسم حالة فنية يعيشها الفنان و حاملة لتغييرات ثقافية و إجتماعية و سياسية, حيث أن بالشيخ ينشد إحداث مقاربة فكرية تجمع بين الواقع و الفن و تدفعه إلى خلق بعد تعبيري يتأمل في التراث وخاصة بمدينة جربة نظرا لما يحمله من خصوصيات تساهم في الكشف عن الحوار و التثاقف في فضاء يشمل الكل, خصوصا و أنه ذو معان تعبيرية ترتبط بالهوية و تعرف بمكان تقليدي يحمل مميزات تبعده عن غيره من الفضاءات ولعل هذا ما يكشف عن تلك الجدالية التي تراوح بين الداخل و الخارج بإعتيارها تساهم في التحول الفني الذي يحدثه الفنان, ولعل هذا ما أكد عليه خاصة بشلار في قوله "يشكل الداخل و الخارج إنقساما جدليا(...) لهذا الجدل حده جدل النعم و الا التي تحسم كل شيء"
حيث أنه يبين لنا إبداع فكري الذي يظهر ضمن ثنائية الداخل و الخارج و الذي يتجلى في تعامله مع الفضاء حيث تجده يساهم في التحول الذي يولد رؤية تشكيلية تبدع تناقضات فنية تحتل مكانة هامة تغوص في التراث التقليدي لجربة بإعتبارها تمثل واقع فني يتجلى عبر الأسلوب و التقنية كإشكالية لتوظيف فن الشارع في الإنتاج التشكيلي خاصة و أن الفنان قام بتأسيس العمل الفني على أسس تراوح بين تطويع الهوية العربية و صياغتها بأسلوب و تقنية جديدة و يتجلى لنا ذلك في أغلب أعماله التي جسدها في الشارع لكونه يبرز حلمه بالتحرر وهو في الآن ذاته يكشف عن مشروع تشكيلي يحمل هدف فني يراوح بين الأصالة و المعاصرة .
نجد حضور الهوية عبر الفضاء التشكيلي تتجلى في أغلب أعماله خاصة هذا العمل المصاحب الذي يمثل رؤية تشكيلية تحقق أبعاد إستيتيقية و جمالية تكشف تلاقح بين الماضي و الحاضر.
إن هذا العمل يمثل أبعاد تشكيلية و دلالية تعبر عن مزاوجة فنية بين فن الشارع و التراث مما يولد تلاقح بين الفنون و يكشف عن خطاب تشكيلي يقتحم الماضي ليؤسس علاقة تفاعلية تشكل التجديد و ترسخ هوية فنية تحرر التراث و تبدع التوظيف الخيالي الذي يراوح بين ماضي عتيق و حاضر تشكيلي جديد, إنه تناسق لوني و شكلي يكون محور لقاء بين ذوق الفنان و المتقبل الذي يدمج الهوية اللونية في علاقة تفاعلية, تواصلية تعبر عن زمن الخلق حيث يندمج الفنان مع الصورة الخيالية في نطاق حرية كاملة و ينجر عن ذلك نوع من الإندماج بين الصورة الخيالية و السطح المادي للعمل الفني و هذا ما يتأكد خاصة في هذا العمل
350*600 صم
إن تشكيلات مهدي لفن الشاارع تجسيد لرؤية تواصلية تكشف عن عوامل الإتصال القائمة بين المتقبل و الفنان مما يطرح مسألة يقوم على أساسه سياق جمالي بصري يحدثه في تشكيلات توهم بالأبعاد الفنية و التشكيلية المختلفة, خاصة و أن الفنان ملتصق بالجمهور وذلك لما يحمله من تقديم مباشر لأعماله تدرك عبر خصوصية ذاتية مفتوحة على الثقافات التقليدية و التراثية في آن واحد وهذا ما يمثل الرهان الأساسي الذي تحمله منظومة بالشيخ الفنية بما هي تشد المتقبل إليها ضمن تأثير التراث.
----------
الإحالات:
1- نزار شقرون, الإبداع الفني و الفضاءات التواصلية , منشورات المعهد العالي للفنون و الحرف بقابس, تنسيق الزارعي محمد محسن, 2003, ص81
2- « L’œuvre d’art n’est pas posé dans un lieu, le lieu même est l’œuvre d’art » Michael Heizer ; Michael Lailach : Land Art , Uta Grosenick – 2007 page 56
----------
المراجع
- نزار شقرون, الإبداع الفني و الفضاءات التواصلية , منشورات المعهد العالي للفنون و الحرف بقابس, تنسيق الزارعي محمد محسن, 2003.
- Michael Heizer ; Michael Lailach : Land Art , Uta Grosenick – 2007.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: