البدايةالدليل الاقتصادي للشركات  |  دليل مواقع الويبالاتصال بنا
 
 
 
المقالات الاكثر قراءة
 
تصفح باقي الإدراجات
أحدث المقالات

"إنتفاضة الخبز"... وليّ عنق الحقيقة

كاتب المقال محمد المختار القلالي - تونس    من كتـــــّاب موقع بوّابــتي
 المشاهدات: 4232


 يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط


لم أرغب في العودة إلى الحديث عن ‘انتفاضة الخبز’ (جانفي 1984 ) بعد أن قيل بشأنها ما لا حاجة إلى المزيد عنه، و لاقتناعي بأنّ ما يواجهه مجتمعنا اليوم من تحدّيات مصيريّة هو أحرى بالاهتمام من أحداث جرّ عليها الزّمان ذيل العفاء. و في أمثالنا ‘الاشتغال بغير المهمّ إعراض عن المهمّ’ لولا حرص بعضهم على الدّعوة إلى ‘أخذ العبرة من هذه الحادثة’ كلّما شهدت السّاحة الوطنيّة حالة من التوتّر الاجتماعي على غرار موجة الاحتجاجات التي شهدتها بلادنا أخيرا.

لنبدأ، قبل تقصّينا ‘الحدث ‘ بالتذكير في عجالة بالملابسات التي حفّت بـ ‘ أحداث الخبز’ .قرّرت السلط ، أمام ضغط صندوق الدّعم على ميزانيّة الدولة ، و أمام ما شيع وقتئذ من اتّساع ظاهرة التبذير لمادّة الخبز، مضاعفة سعر الرّغيف، ما دفع بالجماهير ، وقد أحسّت بأنّها تضرب في قوتها اليومي ، إلى الخروج محتجّة على هذا الإجراء المجحف بحقّها.
و بدل أن يتمّ الاستماع إلى صرخة المهدّدين في قوتهم، و التعاطي مع الحالة بحكمة و أناة، بادرت السّلط ، شأن الأنظمة القمعيّة ، إلى مواجهة مواطنيها العزّل بالحديد و النّار ، فقتل من قتل ، و جرح من جرح ، و طال الحبس و التعذيب مئات الأبرياء، حتّى إذا ما أنذرت الحالة بدخول البلاد في المجهول بادر الرّئيس الرّاحل بورقيبة إلى الإعلان عن التراجع في قرار الزّيادة ليعود الهدوء إلى النّفوس بل لينقلب الأمر مائة و ثمانين درجة كما يقولون ، أي من حال التنديد بظلم الحاكم إلى اللّهج بعدله و فضله ، و المناداة بحياته. و مَن من جيلنا لا يذكر تلك الجموع التي خرجت تطبّل لـ’ سيّدها’ ، و تقفز فرحا بـ’ النّبإ السّعيد’ فيما دماء الضّحايا لا تزال تنشخب ...في مشهد لا يمكن إلاّ أن يبعث على الرّثاء لحال وعينا الجمعي؟

و منذ ذلك الوقت إلى اليوم و نحن نسمع و نقرأ لمن يحرصون على الجعل من هذه الحادثة الأليمة مثالا يضربونه في ‘ حكمة الحاكم ‘ ، و تماهيه مع نبض الشّارع ، و عبقريّته في الخروج من المآزق و الأزمات ، فيما أنجح السّاسة ، على حدّ علمنا ، أقدرهم على الاستشراف و عدم التورّط في قرارات من شأنها أن تعود بالضّرر على العباد.

جاء في كتاب الأستاذ الطاهر بوسمّة ‘ مذكّرات وال’ ( وهو بالمناسبة وثيقة حافلة بالملابسات الدّقيقة التي حفّت بأبرز أحداث تاريخنا المعاصر، وثّقها ‘ الشّاهد’ بأمانة نادرة و حياد استثنائي) : ‘ كنّا في خريف 1983 و علمنا أنّ الرّئيس قرّر تضعيف ثمن الرّغيف و مشتقّات الحبوب، إذ أقنعوه بـأنّ ثمنه المنخفض كان سببا في رميه في القمامة و اتّخاذه علفا للحيوان ...رأيت بورقيبة بنفسي و كنت مدعوّا مثل غيري من المسؤولين لتوديعه بالمطار وهو يسافر لألمانيا صحبة السيّدة وسيلة ، و كان يقول ذلك جهرا و يشير بأصابعه بذلك التضعيف، و من وقتها أخذ الوزير الأوّل الأمر بجدّ ، و أخذ في تنفيذ تلك الأوامر الرّئاسيّة’ .

نفس المعلومة يوردها المرحوم محمّد مزالي في كتابه ‘ نصيبي من الحقيقة ‘ حيث يذكر أنّ الرّئيس ، و هو بالمطار يوم 19 سبتمبر 1983 أعاد أكثر من مرّة أمام مودّعيه قوله : ‘ يجب مضاعفة سعر الخبز ‘ ، مع الإشارة إلى ذلك بإصبعيه . هل يعني ذلك غير أنّ الرّئيس بورقيبة هو من كان صاحب الدعوة الرسميّة إلى اتّخاذ قرار الزّيادة الخطير حتّى و لو تمّ ذلك بتأثير من بعض المحيطين به؟

ليس غريبا من بورقيبة أن يتّخذ من غيره ‘ كبش فداء ‘ كلما استشعر اهتزاز شعبيّته ، فقد فعلها الرّجل من قبل مع بن صالح لمّا أشرفت البلاد على الإفلاس جرّاء تجربة التعاضد ، و فعلها بعد ذلك مع المصمودي لمّا سقطت معاهدة الوحدة مع ليبيا ، فلماذا لا يفعلها هذه المرّة مع وزيره الأوّل مزالي ، وهو ‘ العبد المأمور ‘ كيما يورّطه في أحداث الخبز الدّامية؟ و لكنّ الغريب أن نجد إلى اليوم من يشيد بقرار بورقيبة التّراجع عن الزّيادة في سعر الخبز متّخذا من ذلك مثالا على عبقريّة ‘ المجاهد الأكبر ‘ و بعد نظره ، متغافلا عن كون ‘ المجاهد الأكبر ‘ هو من أصدر الأمر بإتّخاذ الإجراء الذي كان سببا في سقوط مئات الضحايا ( 83 قتيلا و 590 جريحا حسب الإحصائيّات الرسميّة ) بله الأضرار الماديّة الجسيمة. و الأشدّ غرابة من ذلك كلّه أن تنخرط في هذه المغالطة أسماء محسوبة على المتنوّرين الّذين أتمنّى بالمناسبة زوال الغشاوة عن أبصارهم فيتوقّفوا عن المضيّ في الإساءة إلى وعي مواطنيهم .

لو كان لبورقيبة ما للسّاسة في الدّول الدّيمقراطيّة من جرأة على الاعتراف بالخطإ و صراحة في التواصل مع شعوبهم لأعلن على الملإ تحمّله المسؤوليّة عمّا حدث، و لتعهّد بالتّعويض للضّحايا، ولاعتذر للشّعب عمّا حلّ به . و للشّعب بعدئذ أن يغفر أو لا يغفر له. إمّا أن يكتفي بالتّراجع عن القرار بعد أن وقعت الفأس في الرّاس ليوهم الرّأي العامّ بأنّه براء ممّا حصل، و بأنّه المدافع الأمين عن قوت الشّعب ، و راعي المستضعفين في البلد، فتنّصل من المسؤوليّة، و التفاف على الحقيقة، و ضحك على ذقون المواطنين .
و يقيني أنّه لو حصل ذلك في هذه الأيّام لما انطلت الحيلة على شباب اليوم الذي يبدو أكثر وعيا من جيلنا، و أشدّ منه مضاء في الدّفاع عن حقوقه .

ليس في نيّتي إطلاقا محاسبة ‘ الزّعيم ‘ بعد أن صار إلى رحمة اللّه تعالى لعلمي أنّ ذلك لن يفيد في شيء ، و لقناعتي بأنّه بشر يصيب و يخطئ كغيره من البشر، مع إقراري بأنّ ما شاب أداءه من هنات لا يقلّل في شيء من أهميّته ما قدّم لتونس من خدمات .
إنّ الغاية الوحيدة من حرصي على تسليط المزيد من الضّوء على ‘ انتفاضة الخبز ‘ هي التنويه الى ضرورة ‘ لَجم العاطفة ‘ حين النّظر في ‘التّجربة البورقيبيّة ‘، و العمل على تناولها بعقل بارد ، لا يمجّد و لا يفنّد . إني كثيرا ما أسمع مَن يقول : أنا أحبّ بورقيبة، و مَن على العكس أسمعه يقول : أنا أكره بورقيبة ، و هو ما يشي بأنّنا لا نزال نقيم أحكامنا على الأحاسيس لا على المقاييس .

فهل نأمل في أن يرتقي الوعي يوما بشعبنا فنتحرّر من ‘ هوى الأشخاص ‘ لكن دون التجرّؤ على الحطّ من أقدارهم، و أن نتوخّى في نقد من نتناولهم بالنّقد التركيز على أدائهم لا على أشخاصهم ، مع التحلّي بالنّزاهة في ذلك ما استطعنا الى النّزاهة سبيلا. ذلك ما نأمله على أيّ حال .
و بعد ، قد يضيق البعض ممّن يتسمّون بالبورقيبييّن بظاهرة تنامي الاهتمام بنقد ‘التّجربة البورقيبيّة’ بعد وفاة صاحبها، و الحال أن ذلك من طبيعة الأشياء، فالرّجل، سامحه الّله ، لم يكن يسمح طيلة سني حكمه الطويلة بكلمة حقّ واحدة تقال في حقّه ، أمّا و قد دخل التّاريخ فلا عاصم له من الخضوع لحكم التّاريخ و سلطانه.

-----------
محمد المختار القلالي
عضو اتّحاد الكتّاب التّونسيّين


 اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة:

تونس، ثورة الخبز بتونس، ذكرى أحداث الخبز 1983، أحداث 83، بورقيبة،

 





تاريخ نشر المقال بموقع بوابتي 21-02-2016  

تقاسم المقال مع اصدقائك، أو ضعه على موقعك
لوضع رابط لهذا المقال على موقعك أو بمنتدى، قم بنسخ محتوى الحقل الذي بالأسفل، ثم ألصقه
رابط المقال

 
لإعلام أحدهم بهذا المقال، قم بإدخال بريده الإلكتروني و اسمك، ثم اضغط للإرسال
البريد الإلكتروني
اسمك

شارك برأيك
لوحة مفاتيح عربية بوابتي
     
*    الإسم
لن يقع إظهاره للعموم
     البريد الإلكتروني
  عنوان المداخلة
*

   المداخلة

*    حقول واجبة الإدخال
 
كم يبلغ مجموع العددين؟
العدد الثاني
العدد الأول
 * أدخل مجموع العددين
 
 
 
أكثر الكتّاب نشرا بموقع بوابتي
اضغط على اسم الكاتب للإطلاع على مقالاته
عبد العزيز كحيل، محمد يحي، محمد عمر غرس الله، طلال قسومي، خبَّاب بن مروان الحمد، د. صلاح عودة الله ، سفيان عبد الكافي، د- جابر قميحة، منجي باكير، مجدى داود، صفاء العراقي، د. ضرغام عبد الله الدباغ، د - محمد بنيعيش، أحمد النعيمي، المولدي اليوسفي، محمد علي العقربي، رحاب اسعد بيوض التميمي، محرر "بوابتي"، سيد السباعي، عواطف منصور، سليمان أحمد أبو ستة، الناصر الرقيق، محمد اسعد بيوض التميمي، علي الكاش، سلام الشماع، أبو سمية، محمود سلطان، ماهر عدنان قنديل، فتحـي قاره بيبـان، محمود فاروق سيد شعبان، كريم السليتي، عبد الغني مزوز، صلاح الحريري، خالد الجاف ، عمر غازي، مصطفي زهران، د. طارق عبد الحليم، د. عبد الآله المالكي، يحيي البوليني، د - الضاوي خوالدية، د - ‏أحمد إبراهيم خضر‏ ، د - المنجي الكعبي، نادية سعد، د.محمد فتحي عبد العال، إيمى الأشقر، صفاء العربي، د - محمد بن موسى الشريف ، مراد قميزة، حسني إبراهيم عبد العظيم، المولدي الفرجاني، أ.د أحمد محمّد الدَّغَشِي ، أشرف إبراهيم حجاج، ياسين أحمد، يزيد بن الحسين، سامح لطف الله، محمد شمام ، رشيد السيد أحمد، أنس الشابي، حسن عثمان، د. أحمد بشير، عبد الرزاق قيراط ، فهمي شراب، أحمد الحباسي، أحمد بن عبد المحسن العساف ، صباح الموسوي ، طارق خفاجي، أحمد بوادي، حاتم الصولي، رضا الدبّابي، د - عادل رضا، محمد العيادي، د - مصطفى فهمي، محمد الطرابلسي، د. كاظم عبد الحسين عباس ، إسراء أبو رمان، ضحى عبد الرحمن، عراق المطيري، بيلسان قيصر، د- محمد رحال، أحمد ملحم، سعود السبعاني، العادل السمعلي، صلاح المختار، سامر أبو رمان ، د - صالح المازقي، أ.د. مصطفى رجب، فوزي مسعود ، سلوى المغربي، عمار غيلوفي، فتحي الزغل، إياد محمود حسين ، حسن الطرابلسي، عبد الله الفقير، محمود طرشوبي، د- محمود علي عريقات، جاسم الرصيف، عزيز العرباوي، حميدة الطيلوش، صالح النعامي ، رمضان حينوني، د. مصطفى يوسف اللداوي، الهادي المثلوثي، عبد الله زيدان، محمد أحمد عزوز، د. أحمد محمد سليمان، كريم فارق، د. خالد الطراولي ، مصطفى منيغ، وائل بنجدو، رافد العزاوي، تونسي، علي عبد العال، د - شاكر الحوكي ، د- هاني ابوالفتوح، الهيثم زعفان، د. عادل محمد عايش الأسطل، رافع القارصي، محمد الياسين، فتحي العابد،
أحدث الردود
ما سأقوله ليس مداخلة، إنّما هو مجرّد ملاحظة قصيرة:
جميع لغات العالم لها وظيفة واحدة هي تأمين التواصل بين مجموعة بشريّة معيّنة، إلّا اللّغة الفر...>>


مسألة الوعي الشقي ،اي الاحساس بالالم دون خلق شروط تجاوزه ،مسالة تم الإشارة إليها منذ غرامشي وتحليل الوعي الجماعي او الماهوي ،وتم الوصول الى أن الضابط ...>>

حتى اذكر ان بوش قال سندعم قنوات عربيه لتمرير رسالتنا بدل التوجه لهم بقنوات امريكيه مفضوحه كالحره مثلا...>>

هذا الكلام وهذه المفاهيم أي الحكم الشرعي وقرار ولي الأمر والمفتي، كله كلام سائب لا معنى له لأن إطاره المؤسس غير موجود
يجب إثبات أننا بتونس دول...>>


مقال ممتاز...>>

تاكيدا لمحتوى المقال الذي حذر من عمليات اسقاط مخابراتي، فقد اكد عبدالكريم العبيدي المسؤول الامني السابق اليوم في لقاء تلفزي مع قناة الزيتونة انه وقع ا...>>

بسم الله الرحمن الرحيم
كلنا من ادم وادم من تراب
عندما نزل نوح عليه السلام منالسفينه كان معه ثمانون شخصا سكنو قريه اسمها اليوم هشتا بالك...>>


استعملت العفو والتسامح في سياق انهما فعلان، والحال كما هو واضح انهما مصدران، والمقصود هو المتضمن اي الفعلين: عفا وتسامح...>>

بغرض التصدي للانقلاب، لنبحث في اتجاه اخر غير اتجاه المنقلب، ولنبدا بمسلمة وهي ان من تخلى عن مجد لم يستطع المحافظة عليه كالرجال، ليس له الحق ان يعامل ك...>>

مقال ممتاز...>>

برجاء السماح بإمكانية تحميل الكتب والمراجع...>>

جل الزعماء العرب صعدوا ،بطرق مختلفة ،تصب لصالح المخطط الانتربلوجي العسكري التوسعي الاستعماري،ساهموا في تبسيط هدم حضارة جيرانهم العربية او الاسلامية عم...>>

مقال ممتاز
لكن الاصح ان الوجود الفرنسي بتونس لم يكن استعمارا وانما احتلال، فرنسا هي التي روجت ان وجودها ببلداننا كان بهدف الاعمار والاخراج من ح...>>


الاولى : قبل تحديد مشكلة البحث، وذلك لتحديد مسار البحث المستقل عن البحوث الاخرى قبل البدء فيه .
الثانية : بعد تحديد مشكلة البحث وذلك لمعرفة الا...>>


بارك الله فيكم...>>

جانبك اصواب في ما قلت عن السيد أحمد البدوي .

اعلم أن اصوفية لا ينشدون الدنيا و ليس لهم فيها مطمع فلا تتبع المنكرين المنافقين من الوها...>>


تم ذكر ان المدخل الروحي ظهر في بداياته على يد شارلوت تويل عام ١٩٦٥ في امريكا
فضلا وتكرما احتاج تزويدي ب...>>


الدين في خدمة السياسة عوض ان يكون الامر العكس، السياسة في خدمة الدين...>>

يرجى التثبت في الأخطاء اللغوية وتصحيحها لكي لاينقص ذلك من قيمة المقال

مثل: نكتب: ليسوا أحرارا وليس: ليسوا أحرار
وغيرها ......>>


كبر في عيني مرشد الاخوان و صغر في عيني العسكر
اسال الله ان يهديك الى طريق الصواب
المنافقون في الدرك الاسفل من النار...>>


وقع تصميم الموقع وتطويره من قبل ف.م. سوفت تونس

المقالات التي تنشر في هذا الباب لا تعبر بالضرورة عن رأي صاحب موقع بوابتي, باستثناء تلك الممضاة من طرفه أومن طرف "بوابتي"

الكاتب المؤشر عليه بأنه من كتاب موقع بوابتي، هو كل من بعث إلينا مقاله مباشرة

سياسة الخصوصية
سياسة استعمال الكعكات / كوكيز