المعروف هو الخير الذي فطر الله العباد على معرفته، وأما المنكر فإنما هو نقيض المعروف، فالمعروف إذن هو الأساس؛ فلا يكون نهي عن منكر إلا استنادًا إلى خير قد عُرف، ولما كان الإسلام فطرة الله التي فطر الناس عليها فقد جاء بالأمر بهذا الخير الذي تعرفه الفطرة وإشاعتِه؛ والنهي عن الشر الذي تنكره الفطرة وتقليصِه.
وقد يقول قائل: إذا كان المعروف هو الأساس وكان المنكر نقيضه؛ أفلا يكفي الإنسان أن يكون عارفًا بالمعروف؛ لأنه إذا عرف المعروف أنكر المنكر؟ ثم ألا يكفي أن تكون الدعوة دعوة إلى المعروف من غير تعرُّض للمنكر؛ لأن مجرد الدعوة إلى المعروف هي نهي عن المنكر الذي يضاده؟ وقد يقال أيضًا: إذا أمرت إنسانًا بالمعروف وامتثله تكون قد حصَّنته من الوقوع في المنكر فلا تحتاج إلى أن تنهاه عنه. أقول: كلاَّ؛ لأن النهي عن المنكر هو من مقتضيات الأمر بالمعروف، فإذا أمرت بمعروف ولم تنهَ عن المنكر الذي يضاده ويقابله لا تكون قد أعطيت الأمر بالمعروف حقه، ولا تكون قد حصَّنت من أمرته بالمعروف تحصينًا كاملًا.
ولأن النهي عن المنكر هو من مقتضيات الأمر بالمعروف صارا كالشيء الواحد في الهدي القرآني: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْـخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْـمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْـمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104]، {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْـمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْـمُنكَرِ} [الأعراف: 157].
وفي القرآن وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم نصوص كثيرة ترى فيها كيف أن الأمر بالمعروف مقرون بالنهي عن المنكر.
من ذلك في باب الإيمان: قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إلاَّ اللَّهَ} [آل عمران: 64] هذا أمر بمعروف {وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ} [آل عمران: 64] وهذا نهي عن منكر يناقض ذلك المعروف.
ومنها: قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ} وهذا أمر بمعروف {وَلا تُشْرِكُوا بِهِ} وهذا نهي عن منكر يناقضه.
والإيمان بالله يقتضي الكفر بالطاغوت
ومن أمثلة ذلك في باب الأخلاق: قوله تعالى: {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} هذا أمر بمعروف {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْـمُنكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل: 90] وهذا نهي عن منكر.
ومن أمثلته في باب الحياة الاجتماعية: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} [الأعراف: 31] أمر بمعروف {وَلا تُسْرِفُوا إنَّهُ لا يُحِبُّ الْـمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31] نهي عن منكر.
ومن أمثلته: أنه تعالى قال في الآية الثامنة والثمانين من سورة المائدة: {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ} [المائدة: ٨٨]، ثم قال تعالى في الآية التسعين منها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّمَا الْـخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90].
قلنا: إن الأمر بالمعروف يقتضي النهي عن المنكر، وذلك لأسباب منها:
أولًا: أن المأمور بالمعروف قد لا يكون مدركًا لكل ما يناقضه من أنواع المنكرات فيقع في بعضها مع ظنه أنه عامل بالمعروف، ولهذا كان من اللازم أن تبيِّن له أنواع المنكرات التي تناقض المعروف، خذ لذلك مثلًا لأكبر معروف وهو عبادة الله، فإنك تجد أن كثيرًا من الناس مع تسليمهم بأن الله تعالى هو وحده المستحق للعبادة يقعون في كثير من أنواع الشرك التي بيَّن القرآن والسنة أنها شرك، وفصَّلا في ذلك، وبيَّنا لهم فيما بيَّنا أن من الشرك أن يحب الإنسان شيئًا كحبه لله، أو أن يحكم بغير ما أنزل الله، أو أن يستغيث بغير الله، أو يذبح لغير الله.. وهكذا.
ثانيًا: إن الإنسان قد يكون محبًا للخير كارهًا للمنكر، لكن تناله حالات ضعف وجهل تجعله يقع فيه، فهو محتاج إلى من يعينه على الإقلاع عنه، والنهي عن المنكر هو من أحسن وسائل هذا العون؛ لأنه يذكره بقبح المنكر وتنافيه مع المعروف المحبوب له.
ثالثًا: النهي عن المنكر وجعله أمرًا مستقبحًا أمر مهم؛ لأن في الناس من يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف كما يبين لنا القرآن الكريم. فإذا اكتفى الصالحون بالأمر بالمعروف ولم ينهوا عن المنكر خلا الميدان للدعاة إلى المنكر، ولم يجدوا فيه من يصارعهم ويدفعهم، وربما صار صوتهم لذلك هو الصوت العالي، ولا سيما إذا كانوا من المشاهير في المجتمع، ولذلك تجد الناس في البلاد الغربية أكثر ما يقتدون بأهواء الممثلين والمغنين والرياضيين في كثير مما يرتكبون من منكرات.
رابعًا: كلما علا صوت الداعين إلى المنكر كان من الصعب على بعض الناس أن ينتهوا عنه؛ لأن للمجتمع ضغطًا عجيبًا على الإنسان، وهذه هي الآن المشكلة التي بدأتها الحضارة الغربية ثم جعلت تنتشر في العالم كله باسم الحرية.
خامسًا: في نصوص الكتاب والسنة آيات تبين الآثار السيئة لعدم إنكار المنكر: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 78 - 79].
وفي الآية الكريمة دليل على أن عدم تناهي هؤلاء القوم عن المنكر كان أحد أسبابٍ ثلاثة للعنهم على ألسنة هؤلاء الرسل الكرام.
والنهي عن المنكر واجب مهما شاع واستفحل قال تعالى: {وَإذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف: 164].
سادسًا: قال الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ».
في هذا الحديث دليل على أننا مأمورون ليس فقط بأن ننهى عن المنكر نهيًا باللسان، وإنما بمحاولة إزالته ومحوه بقدر الإمكان؛ لأن في الناس من يجرؤ على أن يسنَّ للناس سنن المنكرات التي لم تكن معروفة في المجتمع. وقد يكون هؤلاء المتجاسرون على سنِّ المنكرات في البداية قلة لا تُذكر، فإذا لم يأخذ الناس على أيديهم ويأطروهم على الحق أطرًا؛ فربما تبعهم فيما سنوا غيرهم ثم ينتشر المنكر فيصبح من الصعب على الناس أن يأمروا بالمعروف الذي يناقضه.
بقي أن نقول: إن بعض الناس قد ينهى عن المنكر بطريقة فيها غلظة وخشونة تُحرِج المنهي وتُغضِبه؛ فربما أساء إلى من ينهاه، وربما أصرَّ بسبب ذلك على المضيِّ في ارتكابه لما نُهي عنه. ويرى بعض الناس هذا فيخيَّل إليه أن كل نهي عن المنكر يؤدي إلى هذه النتيجة فيحجم لذلك عن إنكار المنكر ويكتفي بالأمر بالمعروف، لكنَّ في هذا خلطًا بين قاعدة النهي عن المنكر وطريقة النهي عنه، فالذي ينهى عن المنكر بطريقة تؤدي إلى زيادته يكون هو نفسه قد ارتكب نوعًا من المنكر، فلا يكون سوء طريقته سببًا لترك النهي عن المنكر، ومثل هذه الطريقة غير اللائقة قد تحدث أيضًا في الأمر بالمعروف، ولذلك قيل: فليكن أمرك بالمعروف أمرًا بمعروف.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: