الهجوم الشديد ومتعدد المستويات، الذي شنته جماهير الأمة العربية والإسلامية على الموقف المصري الرسمي تجاه أحداث غزة، والذي ظهر من خلال المظاهرات التي عمت العالم العربي والإسلامي بل والعالم كله، والتي أعلنت استياءها من إغلاق مصر لمعبر رفح وعدم سماحها بدخول الإمدادات الغذائية والطبية لقطاع غزة، هذا الهجوم لم يكن هجومًا مخططًا له ضد مصر كما يقول النظام ولم يكن مؤامرة، بل كان رد فعل شعبي منطقي تجاه موقف مصر الرسمي المنسق مع اليهود والأمريكان والكاره لحماس والراغب في إسقاطها.
هذا الهجوم الشعبي أيده الغالبية العظمى للخبراء العسكريين وخبراء القانون الدولي والسياسيون، فهؤلاء جميعًا، من أرضية التخصص والخبرة، استهجنوا وأدانوا الموقف المصري لأنه يستحق الإدانة لافتقاده الأسس المنطقية والأخلاقية.
ما نشرته صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية مؤخرًا وقالت فيه إن الرئيس حسني مبارك قال خلال لقاء مغلق مع وفد "الترويكا" الأوروبي بشرم الشيخ برئاسة وزير خارجية التشيك كاريل شوترزنبرج، الذي تترأس بلاده الاتحاد الأوروبي في دورته الحالية: إنه لا ينبغي السماح لـحماس بكسب الحرب الدائرة بينها وبين إسرائيل، ويجب ألا تخرج من هذه الحرب وهي صاحبة اليد العليا.
هذا الذي نشرته الصحيفة الإسرائيلية والذي لم ينفه الرئيس مبارك، يؤكد أن ما قاله جماهير الأمة في مظاهراتهم، وما قاله الخبراء والمختصون عن الموقف المصري لم يكن تجنيًا عليه، وإنما هو حق.
المبادرة التي أعلنت عنها مصر لوقف إطلاق النار، تؤكد من منظور آخر هذه الاتهامات التي تطال صانعي القرار المصريين، فهي توفر الغطاء السياسي للموقفين الأمريكي والإسرائيلي، وتغطي أيضًا الموقف العسكري الصهيوني.
المبادرة المصرية واضح أنها جاءت بإيحاءات أمريكية وإسرائيلية، ولذلك رحيب ها الطرفان وقبلاها وأيداها.
المبادرة جاءت لإعطاء الضوء الأخضر للعدو الصهيوني لتكثيف الغارات الجوية على الحدود المصرية الفلسطينية (محور صلاح الدين) لفرض واقع على الأرض يُحْكم السيطرة الإسرائيلية على طول هذه الحدود، حتى لو حدثت تهدئة واتفاق يكون هناك واقعًا جديدًا.
المبادرة المصرية تمت دون أي تنسيق مع حركة حماس وفصائل المقاومة الأخرى في القطاع، فهي أعلنت وكان وفد حماس مازال يجري المباحثات مع رئيس المخابرات عمر سليمان. هذا عيب خطير في المبادرة لأنها راعت وجهات النظر الأمريكية والإسرائيلية ولم تلتفت إلى مطالب حماس.
المبادرة المصرية، بالتعاون مع أمريكا وإسرائيل، أرادت أن تلتف حول الصمود الفلسطيني والانتصار الميداني الذي حققته حماس على الأرض والذي استمر لاثني عشر يومًا أحرج خلالها إسرائيل وحلفاءها في الغرب، وحشد الرأي العام العالمي في معظمه ضدهم، وفضح كل الادعاءات الكاذبة حول الديمقراطية الغربية، ومبادئ حقوق الإنسان، وهم يرون صور الأطفال القتلى وصور المدارس المدمرة وصور العائلات التي أبيدت بالكامل، المبادرة إذًا تقدم طوق نجاة لإنقاذ إسرائيل من مأزقها العسكري والسياسي والإعلامي.
الموقف الرسمي المصري استحق كل هذا النقد، وكانت المكالمة الهاتفية من الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن مهنئا بمواقفه المتميزة والمقدرة تجاه العدوان الإسرائيلي الحالي على قطاع غزة، كانت هذه المكالمة وهذا الشكر وهذا الإعجاب دليل إدانة جديد، لأنها جاءت من عدو الأمة الأول الذي دمر العراق وأفغانستان والذي دعم مشروع شارون الصهيوني دعمًا غير مسبوق.
جاءت المبادرة المصرية لتمنع وتلتف حول منع انعقاد أية قمة عربي، لأن انعقادها سيوفر الدعم لأهل غزة وسيطالب بفتح المعبر، وهذا ما لا ترضاه مصر.
توقيت المبادرة المصرية يثير الشبهات، فقد جاءت بعد نجاح المقاومة في غزة في امتصاص حالة الصدمة الأولى، ثم ردها المذهل على العدوان البري ومنعه من الاختراق ونجاحها في إيقاع الخسائر به، وهذه كله التفاف على المقاومة وعلى جهد حماس.
توقيت المبادرة المصرية يثير الشبهات أيضًا، حيث أرادت أن تلتف على المبادرة التركية، التي جاءت بنكهة تركية، والتي تعرض شروطًا أفضل تحفظ مصالح المقاومة والشعب الفلسطيني.
أسوأ ما في المبادرة المصرية أنها تعرض وقف إطلاق النار وفق الشروط والرؤية والأهداف الإسرائيلية، على الرغم مما تحمله الصهاينة من خسائر، وهذا يعتبر في نفس الوقت التفافًا على نجاحات حماس، ورغبة في إزاحتها.
ثم إن لمصر هدف آخر، تلتقي فيه مع الرؤية الإسرائيلية، وهو إبعاد حماس عن أن تكون طرفًا في أية تسوية قادمة، وتسعى مصر ليكون صديقها محمود عباس هو الطرف الرئيسي في هذه التسوية المرتقبة.
وهكذا فإن الموقف المصري تعبير عن حالة العجز التي وصل إليها النظام العربي الرسميَّ، الذي فشل في إدارة الصراع مع عدونا الصهيوني، لأن مصر، منذ توقيع اتفاقية كامب ديفيد، نجحت في أن تقود ما يسمى "محور الاعتدال" والذي ينطلق من تبعية للموقف الأمريكي الإسرائيلي، وشيئًا فشيئًا أصبح هذا المحور هو الأوسع والأكبر في العالم العربي، بينما أصبح محور "المقاومة" صغيرًا محدودًا.
وإذا كانت مصر كامب ديفيد قد أشاعت ثقافة التفاوض والاستسلام والتفريط، فإن انتصار المقاومة في غزة إنما هو تأسيس لثقافة جديدة وروح جديدة ستسري إن شاء الله في الأمة وهي ثقافة وروح المقاومة والمواجهة والاستشهاد.
المقاومة التي تقودها حماس في غزة أكدت أن رجال العقيدة الذين يحرصون على الموت كما يحرص غيرهم على الحياة، هم الأجدر بقيادة وإدارة الصراع مع عدو عقائدي، ينطلق من أسس توراتية، وأنه آن الأوان لتيار كامب ديفيد وتيار أوسلو أن يختفيا ويتواريا عن الأنظار.
لكن تياري كامب دافيد وأوسلو لن يختفيا بسهولة، فهما يحظيان بدعم هائل من أمريكا وإسرائيل والاتحاد الأوروبي ومن النظام الرسمي العربي، لكننا نراهن على حركة الوعي واليقظة التي دبت في الأمة نتيجة أحداث غزة، ونأمل أن تكون هذه اليقظة وهذا الخروج الجماهيري للشارع هو أسلوبنا في فرض إرادة الأمة حتى يقودها تيار المقاومة والجهاد من أرضية الإسلام الحنيف.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: