مهما تقادم الربيع ومهما جرف النسيانُ وهجَ الثورة وصخب الآلاف ثم الملايين من الجماهير الهادرة في مختلف الميادين والشوارع والساحات فإنّ الثورات الأخيرة تبقى أهمّ الحركات التاريخية التي عرفتها الأمة منذ قرون. تونس مهد الزلزال الكبير الذي ضرب أطراف الأمة الهامدة وهي لا تزال إلى اليوم تتحسس طريقها إلى تثبيت التجربة الانتقالية رغم كل المصاعب والتهديدات.
صحيح أنّ المسارات التالية للثورات هي مسارات طويلة زمنيا وقد تحتاج عقودا من الزمن لأن الانتقال من طور الاستبداد إلى طور الحرية ومن طور الدكتاتورية إلى طور التعدد يحتاج منظومة ثقافية كاملة ويتطلّب وعيا جديدا يحتاج إرساؤه زمنا ووقتا. إن الانتقال من طور القمع إلى طور الاختلاف يتطلب أكثر من جيل أو جيلين حتى يستقر مبدأ أصيلا في الكيان الاجتماعي والثقافي الفكري والسلوكي لشعب ما.
ما تشهده تونس اليوم ليس إلا جولة جديدة من جولات الصراع بين طورين تاريخيين جاءت الثورة لتفصل بينهما: طور ثابت قديم متجذّر في الدولة والمجتمع لكنّه بلغ آخر مراحله ويرفض الرحيل، وطور جديد حادث يبحث عن مكانه في الدولة والمجتمع ويأبى الانكسار.
هزيمة النخب التونسية
قد لا يُجمع اثنان في تونس على شيء مثل إجماعهما على فشل النخبة السياسية في إدارة المرحلة الانتقالية رغم أنّ المسار التونسي لم ينزلق إلى ما انزلقت إليه مسارات عربية أخرى. عقد من الزمن قد مرّ على هروب الجنرال الطاغية بن علي ولا تزال الساحة السياسية كالمرجل يغلي دون أن يهدأ إلا على أزمة هناك أو فضيحة هنا دون أن يحقق المسار الانتقالي تقدما حقيقيا.
فاجأت الثورة الجميع بما فيها نخب تونس ومن بينهم كل الوجوه السياسية التي تصدرت أو تتصدّر المشهد اليوم من الغنوشي إلى المرزوقي وصولا إلى الرئيس قيس سعيّد. ما كان أحدٌ منهم يتصور ولو في أكثر أحلامه جنونا وانفلاتا أن يصير وزيرا أو رئيسا وهو الأمر الذي يفسّر الارتجال الذي غلب على الأداء السياسي لهذه النخب التي قامت بالسطو على مُنجز ليس مُلكا لها. أمام غنيمة السلطة وأمام رغبة جامحة في اقتطاع نصيب من الكعكة سَدّا لشهية قديمة واعترافا بتاريخ نضالي لمْ يُحقق ما حققته الجماهير التلقائية، فقدت النخب التونسية الإحساس بخطورة المرحلة وهو الأمر الذي مهّد لعودة الدولة العميقة ولتراجع شعارات الثورة.
المشكل الأساسي في تونس مشكل سياسي وهو المرفق الذي يعطّل بقية المرافق الحيوية من الاقتصاد إلى المجتمع إلى كل مفاصل الدولة. إن الأزمة السياسية التي تعصف بتونس هي نتاج طبيعي وحتمي لتنافر النخب التونسية وعجزها عن الاتفاق على الحدّ الأدنى المشترك لمنع الانزلاق في الفوضى والإفلاس مما سيُعجّل حتما بعودة الاستبداد في حُلّة جديدة تغذّيه الأطماع الخارجية.
لقد بات من المُسلّم به اليوم في تونس أن النخب والقيادات المعارضة لنظام بن علي بمرجعياتها الإسلامية والليبرالية واليسارية والقومية هي في الحقيقة جزء من النظام نفسه وعليها أن تغادر المشهد مع مغادرة النظام. لا يعني ذلك خروج المرجعيات الفكرية وإنما خروج الأشخاص والقيادات التي ترفض المغادرة وتتشبث بالسلطة والقرار كما فعل بن علي نفسه وإن بطريقة مختلفة.
إن ما يتميّز به أداء الجيل الشاب من السياسيين والبرلمانيين الجدد في تونس من كفاءة ووطنية وثبات وقدرة على الإرباك يؤكد أنّ الجيل الجديد وحده قادر على بناء المسار الانتقالي وإنقاذ المُنجز الثوري بخلاف الجيل القديم بأياديه المرتعشة.
حقيقة الانقلابات
كل التسريبات والتسريبات المضادة في تونس تنطق بوجود نيّة جديّة للانقلاب على النظام السياسي الذي خطّه الدستور. إن شطحات الرئيس الأخيرة حول صلاحيات الرئاسة وتشبثه المرَضي بالقوة المسلّحة والقوات الحاملة للسلاح في سطوٍ معيب على الدستور وعلى مقام الرئاسة نفسها يرجّح صحّة التسريبات ويكشف نوايا المنظومة المختبئة في قصر قرطاج.
صحيح أنّ شعبية الرئيس قد تراجعت وانهارت بعد أن خيب كل الآمال التي كانت معقودة به وبعد أن تنكّر لكل الشعارات الثورية التي رفعها خلال حملته الانتخابية من أجل الوصول إلى السلطة. تحوّل الرئيس فجأة من صف الثورة إلى صفّ الدولة العميقة وصارت كل خطاباته باعثة على الانشقاق داعية للتصادم مع خصوم أشباح لا يذكرهم لكنّه يلمّح إليهم ويقصد بهم التيار المحافظ من الإسلاميين أساسا.
الانقلاب ليس وهما لأنّ القوى الإقليمية الداعمة للفوضى قد وضعت التجربة التونسية منذ سنوات نصب أعينها سعيا منها لإفشال المنوال الذي قد يُغري دولا عربية أخرى بالنسج عليه. التجربة التونسية لا تزال تمثل تجربة مزعجة للنظام الرسمي العربي خاصة من طرف القوى المعادية لما تسميه الإسلام السياسي المُحرّم عربيا حسب رأيهم.
من جهة أخرى يتساءل كثيرون عن معنى الانقلاب في بلد لا تزال الدولة العميقة تُمسك فيه بكل مفاصل الحكم متحكمة في الثروة والقضاء والإعلام والأمن والإدارة، فلِمَ الانقلاب؟ ماذا ستجني القوى الانقلابية أكثر مما جنته؟
الأرجح في تونس أنّ الانقلاب لا يعمل على المنوال المصري بل يسعى فقط إلى إرباك المشهد وإفشال التجربة التونسية بإسقاطها في الفوضى والعدم والإفلاس. هذا الهدف يمثّل أسمى غايات الغرف الانقلابية في مصر والخليج والضفة المقابلة للمتوسط لأنه يسمح بالانقلاب الناعم على مهد الثورة ويفتح الباب أمام الإقرار بأن الديمقراطية ليست نبتة عربية وأن الاستبداد وحكم الفرد هو قدَر هذه الشعوب.
بناء على ما تقدّم يكون الصراع في تونس بين قوى الثورة أو ما بقي منها وقوى الثورة المضادة صراعا رمزيا أكثر منه صراعا على المآلات المادية، لأنّ انتصار الثورة وتثبيت المسار الديمقراطي بكل أخطائه سيشكل نواة خلاص عربي يقطع نهائيا مع إمكان تجدد شروط الاستبداد. كما كانت تونس مهد الربيع فستكون حتما مهد التجربة الديمقراطية العربية ولو بعد وقت ليس بالقصير.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: