حتى كتابة هذه السطور، مازال الرئيس التونسي يشكل لغزا محيرا لكثير من التوانسة فضلا عن العرب الذين راقبوا فوزه العام الماضي في الانتخابات، رغم عدم انضواء الرجل تحت مظلة أي حزب، وعدم امتلاكه لأي خبرة سياسية سابقة، وافتقاده لأي قدر من الكاريزما.
وعقب الجولة الأولى التي تقدم فيها سعيد مطيحا بعبد الفتاح مورو مرشح حزب حركة النهضة الأكبر في البلاد، ونبيل القروي المحسوب على الدولة العميقة، كان واضحا أن ثمة شيئا غامضا يكتنف تقدم سعيد وفوزه الساحق، مع استمرار تأكيده أنه لا يتلقى أي دعم لا من تيار، ولا من دولة، ولا من أي جهة سياسية.
صعود سعيد المفاجئ، شكل زلزالا سياسيا، فتونس رغم عبقرية تجربتها هي ليست فرنسا أو بريطانيا حتى نقول أن صعود الرجل يشبه غضب الفرنسيين من تيارات اليمين واليسار وبالتالي البحث عن خيار ثالث، كما أن سعيد نفسه لا يمثل تيارا ثالثا فالرجل كان أستاذا مغمورا للقانون في عهد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، ولم يعرف عنه الانتماء أو التنظير لأي بديل سياسي، أو مشروع ثالث، بل كان طيلة حياته مدرسا بالجامعات التونسية واشتهر أخيرا بتفسيراته القانونية للدستور.
وكما كان قيس سعيد مفاجئا في ١٥ سبتمبر ٢٠١٩ بتقدمه في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية، فإن أداءه الضعيف المرتبك كان مفاجئا كذلك في ٢٠٢٠، من خطابات تتسم بالحشو اللغوي، وضبابية المعنى، إلى حمل كيس الطحين ومحاولة عمل دعاية بأسلوب قديم، إلى المشهد الضعيف والمهزوم أمام ايمانويل ماكرون "المستعمر القديم"، عندما فاجأ "أستاذ القانون" شعبه وطلابه بلي عنق القانون وتبرير الاحتلال الفرنسي، أو حتى وصفه بأن لم يكن احتلالا، بل عملا خيريا كانت تقوم به باريس خدمة للتوانسة!!؟
بدأ التاريخ التونسي تحت الحكم الفرنسي في عام 1881 بفرض الحماية الفرنسية في تونس وانتهى في عام 1956 بإعلان استقلال تونس، فهل يعتقد سعيد أن الذكاء السياسي يكمن في مغازلة المستعمر وإعفائه المجاني من تسديد فاتورة عقود من الاستعمار والاستعباد وسرقة البلاد المستعمرة، عوضا عن مطالبته بالاعتذار والتعويض؟
وفي سياق الارتباك المشار له أعلاه، كان مفاجئا كذلك استدعاء الرئيس المدني للجيش، أو مغازلته، إذ يبدو أمرا مستغربا أن يستدعي رئيس منتخب مدني الجيش، والغريب أن هذا الرئيس كان أستاذا للقانون.
وفي سياق الغموض الذي كنا نتحدث عنه سابقا والذي لم يفك سره حتى الآن، ففي الغالب يبدو أن من انتخب قيس سعيد لم يصوت لشخصه بل ما حصل عليه كانت أصواتا عقابية للأحزاب القائمة، لكن أداء الرجل يثبت أن السياسة مهنة مثلها مثل غيرها من المهن، ومن يمارسها يجب أن يكون متمرسا من قبل في حزب سياسي، ففي الغرب يقضي السياسي عمره في الحزب قبل أن يتحصل على منصب رفيع، فما بالك برئيس دولة.
تقديري أن الرئيس سعيد يشعر بالضعف أمام حركة النهضة، ليس لقوتها أو لموقف أيديولوجي خاص منها، بل لأنه أصلا لم ينتم يوما لحزب سياسي، وأقنع نفسه بما روجه نظام المستبد المخلوع بن علي بأن الأحزاب السياسية مفسدة، وأن الحزب الوحيد المشروع هو حزب النظام، كما أن عدم انتماء الرجل لحزب سياسي وعدم ممارسته أي عمل سياسي يفسر هذا الضعف في الأداء والارتباك في المواقف، فالسياسة ليست خطابات، الخطابات هي أداة من أدوات السياسة، وليست السياسة، كما أن الخطابات السياسية لها أصولها وقواعدها ورسائلها، ليس منها الصراخ بلغة متقعرة غير مفهومة.
بطبيعة الحال لا يمثل ما أوردته آنفا نقدا شخصيا لقيس سعيد، فهو كشخص قصة نجاح وعصامية واعتماد على النفس، كما أن موقفه من الاحتلال الإسرائيلي متميز ولو حتى على الصعيد النظري، لكنه سياسيا ليس الرئيس الذي تريده تونس الثورة، التي يتداعى على تجربتها الخصوم، ويحيط المتربصون بتجربتها الديمقراطية الناجحة من كل مكان، فأمام دول إقليمية تدعم وتخطط وتمول الثورات المضادة، وبالنظر لوجود عزم على تخريب التجربة التونسية، تحتاج البلاد لباجي قايد سبسي آخر، بحنكة السياسي وحكمة الشيوخ، وتجربة العمل الوطني، لا برئيس يساوي بين رئيس البرلمان المنتخب وحزبه السياسي الأكبر، وبين متمردة داخل قبة البرلمان، ما يدفع بالشك بأجندته، وهل يعتقد أن إذكاء هذه المشاكل من شأنها أن تخلصه من خصومه؟ وأن انقلابا سياسيا أو عسكريا يمكن أن يكون فرصة له؟ هو بالضرورة مخطئ، الانقلابات بكل أشكالها وباء ووصفة لتدمير الدولة، والديمقراطية، والمدنية.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: