كأننا نتابع نابليون الثالث يرمم ما أفسدته الجمهورية مع حفظ الفارق في القدرات، لكن محاولة تحويل اختلافات التأسيس الديمقراطي وصعوبتها إلى مجرد أزمة تصرف في موارد الدولة يحيلنا إلى نمط تفكير تسطيحي يعتقد أن العالم يتغير بمجرد وضع نص ترتيبي، وهو الداء العضال الذي يعانيه كل واقف عند شكل النص القانوني لا يرى أعمق منه، الصراعات التاريخية/الاجتماعية/الثقافية التي تشق المجتمعات وتدفعها إلى المرور بمراحل فوضى وعنت سياسي حتى الوصول إلى التأسيس التام لبدائل حكم ونموذج مجتمع. من هذه الزاوية نقرأ تكليف رئيس تونس لرئيس حكومة جديد موفى شهر تموز (يوليو ) 2020.
وضع النتائج في موضع الأسباب
الجميع يلهج الآن بفشل الأحزاب التونسية في إدارة خلافاتها السياسية ويبرر بذلك لرئيس الدولة تجاوزها في إدارة البلد ومنح نفسه صلاحيات أوسع مما خوله الدستور. حديث فشل الأحزاب التونسية الذي يتحجج به الرئيس وأنصاره الجدد (فقد صار أعداؤه القدامى هم أنصاره الجدد) يخفي أو يموّه سببا رئيسيا لفشل الأحزاب في هذه المرحلة هو القانون الانتخابي الذي منع الأحزاب من التشكل على قاعدة الكفاءة الفكرية والنضالية.
وضع السبب في موضع النتيجة هو عمل أيديولوجي مغالطي يتهرب من وصف الواقع الموضوعي وتفسيره ليصل إلى علاجه بنص مسقط عليه. فينصلح في رأس المشرع ولكنه يظل معوقا في الواقع. المعالجة القانونية لوضعيات اجتماعية وسياسية وإشكالية ينتهي دوما إلى ترقية الإداري على السياسي وتحويل الدولة إلى إدارة تفكر بالقانون وتتصرف على أن الواقع يستقيم فعلا بمجرد استقامته في النص وهذا هو قيس سعيد يكلف تلميذه القانوني بإدارة البلد.
نتفطن الآن ولكن بعد نفاد حسن النية أن الرئيس وفريقه كانوا من المستثمرين في الفاشية التي خلقت وضعا نفسيا معاديا لكل العمل الحزبي عبر ترذيل العمل البرلماني وقياد الناس الواقفين على حافة الفقر إلى أن الوضع الحزبي هو السبب في ما يصيبهم من أذى الطبقة السياسية. لا نجزم بأن هناك تقسيم أدوار مسبق ولكن النتيجة واحدة.
لم يتدخل الرئيس ولم يحكِّم في النزاع الحزبي باعتباره الشخصية الاعتبارية الأولى المخولة بذلك وانتظر أن يمل الناس وقد ملوا خاصة أن ماكينة إعلامية مدربة مهدت الطريق لذلك واستثمرت فيه بنجاعة فأسند الرئيس تجاوزه للأحزاب على فشل صنعته الفاشية وجهازها الإعلامي فاستقرت القناعة على أن الأحزاب هي من تقسم البلد ولذلك فإن تكليف إداري محترف قانون وغير متحزب صنع ماضيه المهني داخل مكاتب الإدارة يصير حلا مقبولا شعبيا وهذا ما يجري الآن.
كان هناك مستثمرون صغار في الفاشية تمتعوا بالمناكفات الموجهة ضد خصم سياسي دون أن يروا النتيجة الكارثية قادمة بهدوء لتركنهم على رف المتفرجين العاجزين عن الاقتراح والمشاركة (وليس غريبا أن أعداء الحياة الحزبية تاريخيا من أتباع قول القذافي من تحزب خان كانوا أول المستبشرين بإهمال الأحزاب البرلمانية وغيرها) إنهم يشهدون الآن مرحلة المرور إلى خطاب الديمقراطية المباشرة التي تنفذ بواسطة جنرالات الإدارة من ذوي التكوين القانوني خاصة (وربما تتم الاستعانة بجنرالات الأمن لوضع البلد في سكة جديدة لا مجال فيها لتأسيس فعل سياسي ديمقراطي طويل النفس).
كيف يمكن التوفيق بين القول بالديمقراطية المباشرة واعتماد الكفاءة الإدارية وحدها دون ماكينات حزبية فعالة؟ هنا نجد تصورا للدولة يقوم على تخيل نجاعة فعل النص القانوني وحده. فرض الهندسة الاجتماعية بقوة القانون كما يفعل كل حاكم يتخيل أنه نابليون الثالث أو الرابع لا فرق. تقوم الإدارة (الدولة) بالتحكيم بين الطبقات عبر فرض هدنة اجتماعية تحت مسميات الوحدة الوطنية أو مواجهة الأزمة الاقتصادية بروح جماعية أعلى من الصراعات وتكون روحا متوهمة يكفل النص القانوني سلامتها نظريا.
مصالحة السلطة مع الديمقراطية
خلف خطاب النجاعة القانونية أو الإدارية لا يظهر بوضوح ذلك القول اللاتاريخي بأن العرب ليسوا أهلا للديمقراطية. ولكن ينشر على الشاشة الأقرب للمتفرج الكسول القول بأن الرتب العليا (دولة المدراء) أكثر فائدة أو أصوب فعلا من النخبة السياسية/الحزبية. فيقوم ضمنا في الأذهان ثم في الواقع أن النخبة السياسية فاشلة ويجب إبعادها عن إدارة الدولة. صراعات البرلمان التونسي المصطنعة والمنفوخ فيها إعلاميا تقدم دليلا على ذلك. فتحول النتيجة إلى سبب. فتخرج الفاشية (روح بن علي) رابحة ويصير الانتماء الحزبي مذمة وعارا رغم أن الفاشية نفسها تعمل من خلال التنظم الحزبي طبقا لشروط الديمقراطية.
يمكن إعادة الصياغة من زاوية أخرى؛ حزب الإدارة ينتصر على الديمقراطية بما هي صراع يومي على فرض تصورات غير قانونية لإدارة بلد. تلك الصراعات توضع الآن موضع إدانة ويردد الإعلام الفاشي ماذا نفعل بالأحزاب؟
فكرة التأسيس ولو عبر عملية انتقال ديمقراطي متدرج وبطيء تنتهي الآن ليحل محلها نمط دولة إدارية مطابقة أو مشابهة إلى حد التطابق مع ما فعله بورقيبة بعد الاستقلال. إذ مر مباشرة بعد الاستحواذ على الموقع التنفيذي الأول إلى إلغاء الأحزاب وتجريم التعدد الحزبي تحت مسمى الوحدة القومية ثم تجميع السلطة بين يديه وقيادة الدولة حسب نموذجه المتخيل أو المستعار من كولبرت ونابليون ورجال الدولة الفرنسية بعد الثورة. وقد اعتمد في ذلك على رجال قانون طيعين لا يرفضون له طلبا.
لقد تراجعت الحياة السياسية حينها لصالح الرؤية الواحدة واشتغلت الإدارة في هندسة مجتمع صامت ومقهور. رغم ما أفرزت الفئات المثقفة بالتتابع من أفكار سياسية ديمقراطية لم يكتب لها الفلاح لأنها اصطدمت دوما بقوة الإدارة المحافظة (التي تحولت إلى حقيبة مكاسب لطبقة المديرين/ الجنرالات المدنيين الذين لا يخشون إلا محاسبا/ رقيبا واحدا يرضونه بتقديم الولاء والطاعة). نحن ذاهبون إلى هناك ثانية ولذلك نعزي أنفسنا في تأسيس مشروع دولة جديدة ديمقراطية.
هل يملك الرئيس تنفيذ مشروعه؟
يتبين الآن أن الرئيس كان كامنا في السيستام يفكر صامتا (فهو لم يكتب ولا يكتب) بطريقة محافظة ويعيد إنتاج تصوراته القانونية المستقاة من نموذج بورقيبة، وحتى تدينه المعلن في صلوات تحت الكاميرا على طريقة بورقيبة في الأعياد قد يؤول على هذه الروح المحافظة حيث التدين الشعبي منصوح به من قبل الإدارة نفسها.
لقد انتظر بصمت حتى نضجت ثمرة الصراعات وقبل أن تبذر ديمقراطية بذورها البطيئة النمو قطف الثمرة ليستولي على الفعل السياسي الأهم عبر فجوات التأويل الدستوري التي احترفها أي توجيه الدولة نحو دكتاتورية الإدارة.
مازال هناك من يمهد له الطريق. أولا خشية الإسلاميين من العزلة السياسية في الداخل والخارج ستجعلهم يرضون بالقليل مما يتكرم به أو يمنحه متفضلا.
وثانيا رغبة الحزيبات الناشئة العجولة بدورها على الحكم بقطعها الطريق على الحزب الإسلامي لتحكم دونه ستعطيه هامش مناورة واسع في توجيه إدارة الدولة بحكومة الرئيس فعلا لا قولا، أي ستفسح له مجالا واسعا لتشكيل حكومة على هواه يكون همها الأول تهميش الحياة الحزبية تحت مظلة النجاعة الإدارية.
إلى ذلك فإن الشتات البرلماني الذي أفرزه قانون فاسد يعيش رعب حل البرلمان وخسران الرواتب ومباهج وضع النائب. نفس الخوف سيمنع جميع التشكيلات الحزبية من تغيير القانون الانتخابي إلا على هوى الرئيس. (حل البرلمان الحالي يعطي للرئيس صلاحيات تعديل القانون الانتخابي وحده وتنظيم انتخابات على أساس قانون وضعه بنفسه ولا يعرض على برلمان منحل بما يعطيه لاحقا برلمانا مطيعا).
هكذا يصالح رجل القانون المحافظ الديمقراطية المطمح مع الإدارة الجامدة ولكن بإخضاع الديمقراطية لا بتطوير الإدارة وهو بعض ما قامت به الفاشية والنازية في تاريخ بلدانها إذ تصل عبر الديمقراطية التمثيلية ثم تحول السياسة بالقانون إلى مجرد إدارة تنفيذية لنوايا الرئيس. إنه ليس انقلابا واضح المعالم ولكنه يقدم نتيجة مطابقة لنتائج الانقلابات.
في تونس انتهى التأسيس وعدنا إلى دولة بورقيبة مع هامش واسع لداخلية بن علي. لكننا نذكر فالذكرى تنفع الجميع خطاب نصرة الفقراء الذي روجه نابليون الثالث لم ينطل على فيكتور هيجو.
-----------
وقع تغيير العنوان الأصلي للمقال
محرر موقع بوابتي
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: