يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
في زيارة أخيرة إلى ليبيا، قابلت عائلة تعيش في مأوى فقير في مخيم للنازحين شرقي طرابلس. كانت الأسرة المكونة من سبعة أفراد، والتي تمثل واحدة من عشرات آلاف العائلات الليبية التي شردتها الحرب، تعيش في غرفة بالكاد يبلغ طولها 20 خطوة وعرضها 10 خطوات. امتلأت الغرفة بحبل غسيل وكومة من المراتب وصحيفة ساخنة ورائحة الجسم القذرة. أما في الخارج، عانت العائلة من نقص في المياه الصالحة للشرب ومن تعليقات السكان المحليين الساخرة.
سيكون لانتشار فيروس كورونا الجديد تأثير مدمر على مجتمعات اللاجئين والمهاجرين في الشرق الأوسط. قد يسلط هذا الوباء أيضا الضوء على عجز شرعية وحكم أنظمة الشرق الأوسط التي تزداد اضطرابا. وعلى الرغم من أنه يمكن لهذه الأنظمة أن تغذي الحكم الاستبدادي عن طريق الاستجابة السريعة لقطاع الصحة العامة والاقتصاد، إلا أن هذا الوضع لن يستمر إلى أجل غير مسمى.
يتمثل الدرس الأساسي المستخلص من الانتفاضات العربية لسنة 2011، فضلا عن الاحتجاجات التي اندلعت السنة الماضية، في أنه دون حكم أكثر شمولية، وفساد أقل، ومزيد من العدالة الاقتصادية، فإن الأدوات التكنوقراطية والقسرية لا تمثل سوى تدابير مؤقتة. من المرجح أن تتزايد مطالب المواطنين في الشرق الأوسط في أعقاب الجائحة، كما ستظهر التأثيرات الفورية والمدمرة للوباء في الحروب النشطة في المنطقة، أي في ليبيا واليمن وسوريا.
كانت الهياكل الأساسية الطبية في ليبيا في عهد العقيد معمر القذافي ضعيفة بالفعل. في السنوات التسع التي تلت سقوطه، دُمرت ليبيا بسبب الفساد والإهمال والجولات العديدة للحرب. بدأت المرحلة الأخيرة من الحرب في نيسان / أبريل 2019 عندما هاجم أمير الحرب والحاكم العسكري لشرق ليبيا، خليفة حفتر طرابلس العاصمة للإطاحة بحكومة الوفاق الوطني المدعومة دوليًا بقيادة رئيس الوزراء فايز السراج.
شهد القتال الذي عقب ذلك عشرات الهجمات على المرافق الصحية وموظفي الطوارئ من قبل قوات حفتر. والجدير بالذكر أن العنف في ليبيا تفاقم منذ تفشي الوباء، حيث استغلت الأطراف المتحاربة وأنصارها الأجنبيين انشغال الدبلوماسيين بهذه المشكلة.
في المقابل، اتخذت السلطات السياسية المعارضة في هذه الأرض المقسمة بعض الخطوات المتواضعة، مثل حظر التجول والتجمعات الكبيرة. لكن واجهت هذه الخطوة عقبات بسبب المشاكل الاقتصادية المتزايدة الناجمة عن انخفاض أسعار النفط والحصار المفروض من قبل حفتر على موانئ النفط فضلا عن رغبة النخب في كلا الجانبين في الاستمرار في دفع أجور مقاتليهم.
تعتمد السلطات السياسية على الجماعات المسلحة التي بإمكانها الاستفادة من أزمة الصحة العامة لتعزيز سلطتها. بالفعل، هددت ميليشيا حفتر الأطباء في شرق ليبيا. من المحتمل أيضا أن يعترض قادة الميليشيات المساعدات الطبية الخارجية وأن يوجهوا المعدات إلى مقاتليهم أو أن يخزنوا الإمدادات للبيع في السوق السوداء الليبية. قد يؤدي تفشي الفيروس في بلدة واحدة أو مجتمع ما إلى زيادة الوصم وأعمال العنف.
يعد الآلاف من المهاجرين غير الشرعيين، الذين ينتمي معظمهم إلى أفريقيا وكانوا يحاولون الوصول إلى أوروبا، مستضعفين بشكل لم يسبق له مثيل في ليبيا. يعيش المهاجرون في مراكز احتجاز تديرها الميليشيات، ويتحملون جميع أشكال العذاب على غرار التعذيب والاغتصاب والأشغال الشاقة، ناهيك عن فيروس مميت يجعلهم يشعرون بمعاناة لا توصف.
في الواقع، تعد أزمة ليبيا هينة بالمقارنة مع اليمن، أكبر كارثة إنسانية من صنع الإنسان في العالم. لقد كشفت الحرب في اليمن بالفعل الطبيعة التكافلية للحرب والمرض. كان تفشي الكوليرا، الأسوأ في التاريخ الحديث، نتيجة عن الهجمات التي شنتها قوات التحالف بقيادة السعودية على المستشفيات ومرافق المياه والصرف الصحي.
كما أفضى القتال عن حدوث مجاعة مرعبة، تاركا معظم الناس في البلاد يعتمدون على واردات الغذاء والوقود القادمة من بلدان أجنبية. لم يبلّغ اليمن عن أي حالات إصابة بالفيروس التاجي، وذلك بسبب عدم وجود اختبارات وعدم استعداد الفصائل للإبلاغ عن العدوى. فانتشار جائحة فيروس كورونا المستجد في اليمن سيُجبر الكثيرين على اتخاذ قرار وجودي؛ إما التقاط العدوى أو الموت جوعا.
تجدر الإشارة إلى أن جهود تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار المبرم بين الأطراف المتحاربة ومؤيدوها الأجانب في اليمن تعثّر. وهذا ما أدى إلى اندلاع اشتباكات بشكل متصاعد. كما هو الحال في ليبيا، يبدو أن الوسطاء الخارجيين أكثر تركيزًا على تأجيج حرب بالوكالة أكثر من اهتمامهم برفاهية المواطنين.
من جانب آخر، جعلت ويلات الحرب على القطاع الصحي، والتي تشمل نقص الأدوية والعاملين الطبيين الفارين من البلاد، اليمن أكثر عرضة للخطر. في حال تُرك الأمر على حاله، فإن انتشار الوباء في جميع أنحاء اليمن، والذي من المحتمل أنه سيتضخّم بسبب كثافة السكان في البلاد، سيزيد من عزلة اليمن وتفككه، وينقل المزيد من السلطة إلى المتمردين والميليشيات.
في المقابل، يمكن أن يكون تأثير تفشي فيروس كورونا مروعًا حقًا، خاصة بالنسبة لملايين النازحين في البلاد، ذلك أن الغارات الجوية التي شنّها نظام الأسد وداعميه الروس دمّرت كامل المرافق الصحية في مناطق المعارضة. تجدر الإشارة إلى أنه في محافظة إدلب الأخيرة التي يسيطر عليها المتمردون، يوجد 153 جهاز تنفس اصطناعي لثلاثة ملايين نسمة. تبعا لذلك، يضاعف النقص المتكرر في المياه وكثافة سكان المناطق الحضرية في سوريا، أكبر عددا من سكان مدينة نيويورك، من حجم الخطر المحدق بالمنطقة. من المحتمل أن يموت أكثر من مئة ألف شخص في إدلب وحدها.
في الحقيقة، ينبغي ألا يعتمد المواطنون في جميع أنحاء البلاد على قادتهم. لطالما استخدمت الفصائل المتحاربة تدخلات الصحة العامة كعملة سياسية وأسلحة حرب. في الوقت الراهن، يعد آلاف السجناء السياسيين الذين اعتقلهم نظام الأسد في خطر شديد. مما لا شك فيه أن الاقتصاد السوري في حالة من السقوط الحر، حيث انخفضت الليرة السورية لتصل إلى معدلات كارثية. قبل تفشي المرض، اندلعت الاحتجاجات في المناطق التي يسيطر عليها النظام بسبب الظروف الاقتصادية وعدم توفير الرعاية الطبية. من المرجح أن يتفاقم هذا الوضع أكثر.
علاوة على ذلك، سوف يتحدى الفيروس قدرات الحكومات التي تبدو مستقرة. يمكن أن تصمد الممالك الخليجية الثرية أمام الأزمة، لكن الرحلة قد تكون مليئة بالعقبات. فإلى جانب القيود المالية التي يفرضها انخفاض أسعار النفط والغاز، تعثّرت محاولاتهم للتنويع في القطاع غير النفطي، من السياحة والتجارة وحتى الخدمات اللوجستية، بسبب التراجع الاقتصادي العالمي.
في الواقع، لن تقدّم الممالك الخليجية المساعدة إلى الأنظمة الأكثر فقراً التي اعتمدت عليها سابقا، على غرار مصر والأردن والمغرب، والتي واجهت موجات احتجاجات قبل تفشي المرض حتى. ومع إخلاء الشوارع من المتظاهرين ردا على تدابير الصحة العامة، قد تمنح أزمة فيروس كورونا هذه الحكومات نوعا من الهدنة. لكن، يعيد المتظاهرون تجميع صفوفهم ويستعدون لجولة أخرى من الاضطرابات، والتي قد تؤدي إلى تفاقم الأوضاع نحو الأسوأ.
في سياق متصل، تتضاعف المخاطر في تونس بدرجة كبيرة، الدولة الديمقراطية الوحيدة في العالم العربي: فكيف قد تتمكن الحكومة التونسية، التي تصارع انتشار البطالة وارتفاع تكاليف المعيشة وغضب الشعب بسبب الفساد، من التعامل مع التداعيات الاقتصادية المترتبة على اندلاع الأزمة التي يمكن أن تكون اختبارًا محوريًا للديمقراطية العربية؟
في جميع أنحاء المنطقة، ومع استنزاف الدولة للخدمات، من شأن الحوكمة غير الرسمية التي تشمل المجتمع المدني أو ذوي القربى أو الميليشيات أن تسد الفجوة. كانت هذه العملية جارية منذ عقود في لبنان، ولكنها تنتشر إلى مناطق النزاعات المتعددة في المنطقة، وإلى المناطق الحدودية وبعض المدن.
بعبارة أخرى، تعتبر هذه الأزمة مختلفة وأكثر حدة بالنسبة للشرق الأوسط بسبب حقيقة أن الدول لن تتمتع بالمساعدات المعتادة، التي تقدمها مثلا دول الخليج، أو المنظمات الدولية، أو القوى العظمى. ربما ما زالت المؤسسات الدولية تلعب دورًا، ولكن مواردها المحدودة تُستنزف بسبب انتشار الجائحة على الصعيد العالمي. لقد تضررت أوروبا بشكل كبير بسبب الفيروس، حيث تستمر حالات العدوى وأعداد الوفيات في الولايات المتحدة في الارتفاع بسرعة، مما دفع إدارة ترامب إلى التركيز على شؤونها الداخلية.
أصبح قادة العالم العربي بمفردهم، وإذا كان بإمكاننا الاعتماد على الماضي لإرشادنا، فهو أساسا لا يبعث على التفاؤل على نطاق واسع. يمكن أن تكون للتغيرات الهائلة بدايات صغيرة، خاصة في منطقة يعيقها الركود الاقتصادي والتصلب السياسي والحروب بالوكالة والثقة التي لا أساس لها في استمرار الوضع الراهن. وكما يقول المثل العربي القديم "حتى البعوضة يمكن أن تجعل عين الأسد تنزف".
-----------
المصدر: نيويورك تايمز
-----------
فريدريك وهري
كبير مستشاري برنامج الشرق الأوسط في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي
----------
ترجمة وتحرير: نون بوست
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: