أكتب مصرًا على أن التعامل السياسي مع حزب النهضة التونسي لم يخرج أبدًا من المنطق الاستئصالي الذي ساد قبل الثورة واستمر بعدها ولولا مناخ الحريات الذي فرضته الثورة لما سمح للحزب بالبقاء قيد الحياة السياسية. يقرأ البعض هذا الخطاب كدفاع عن النهضة وهي قراءة استئصالية تلح على أن من لم يكن ضد النهضة فهو بالضرورة وسيلة دفاع عنها، ولم يرتق الخطاب إلى أن العمل مع النهضة كمكّون أساسي وضروري في المشهد يطور الديمقراطية ولا يقلل من بقية المكونات السياسية المشاركة في مشهد تعددي محكوم بالتطور نحو القبول والتعايش ضمن الديمقراطية، فيوجد اتجاه سائد في السوشيال ميديا التونسية أن لعن النهضة مقدم على تمجيد الديمقراطية. وهذه الورقة تضع نفيها خارج هذا المنطق.
توزع السلطة بين مراكز كثيرة
أما لماذا تستأصل النهضة بعد الثورة على طريقة بن علي رغم السعي في ذلك من أطراف كثيرة شاركت بن علي جريمته السابقة للثورة فذلك عائد أولًا إلى أن قوة القمع تفتتت ووجد الاستئصاليون أنفسهم بلا بن علي وداخليته، وتوزعت السلطة في مواقع كثيرة ولم تعد على رأي واحد خاصة بعد انتخابات 2011 التي تقدمت فيها النهضة وفرضت بقوتها البرلمانية في المجلس التأسيسي جذور النظام البرلماني، وكان لمشاركة حزبي المؤتمر والتكتل ضمن ترويكا الحكم دور مهم في طرح احتمالات التعايش والصراع ضمن الديمقراطية، لم يكن ذلك التعايش أخويًا بل سادته خلافات وصراعات ككل تجارب التعدد السياسي في الحكم ولكنه انتهى بوضع دستور مجمع عليه وقطع مسافة طويلة لكي لا تتم العودة إلى عزل طرف سياسي بحجة عدم ديمقراطيته، لقد كشف أن الحزب الإسلامي المتهم في ديمقراطيته يمكن أن يأكل على قصعة الديمقراطية ولا يؤثر بها نفسه.
وثانيًا انقسم الاستئصاليون إلى شيع كثيرة يمكن إجمالهم في تيارين كبيرين: تيار يريد استعمال النهضة لصالحه وأسميه "الاستئصال الناعم" وجوهر فكرته عبر عنه السيد نجيب الشابي في مناسبات كثيرة أن تصوت له النهضة ليكون في موقع حكم ويتفرع إلى مواقف أخرى جوهرها أن للنهضة الحق في التصويت (أي المشاركة السياسية لكن عليها أن تكون خارج الحكم فهي أقل منه أو ليست كفؤًا له، وسميت هذا سابقًا استعمال النهضة كوسيلة نقل لمواقع القرار، وتصبح النهضة حزبًا ديمقراطيًا إذا منحت أصواتها لمرشح رئاسي أو إذا منحت وزارات لغير أبنائها في حكومات تشكلها دونهم لكنها تصبح غولًا يهدد الديمقراطية إذا تكلمت بمنطق نتيجة الصندوق الانتخابي أو وضعت تصويتها وسيلة لحمايتها.
وتيار ثان لا يقبل بالنهضة مهما تبدلت وتنازلت، عبرت عنه التيارات اليسارية التي خضعت لمنطق الديمقراطية ظاهرًا ولكنها تقيم ديمقراطيتها على إقصاء الإسلام السياسي فقط إخلاصًا لشعار قديم (لا ديمقراطية لادعاء الديمقراطية)، بزعم أن اليسار وحده من يملك أن يبني الديمقراطية ويقودها، ونفس هذا الفكر تقوده الآن وريثة بن علي عبير موسي المتخفية وراء صورة بورقيبة وتلتقي مع تيار الاستئصال اليساري في النتيجة.
الهدر الديمقراطي
كتب بعض رموز الاستئصال الناعم ليلة سقوط حكومة الحبيب الجملي في البرلمان حامدين الله أنه يمكن استبعاد النهضة بالوسائل الديمقراطية، فاثبتوا بذلك تناقضهم في أمرين مهمين: أولهما إتيقي أخلاقي سياسي مؤداه أن الإسلاميين (أعداء الديمقراطية) يخضعون لحكم الصندوق ويسلمون بقوة الأحزاب ضمن الديمقراطية ولا يتمردون ويدفعون إلى الفوضى إذا خسروا السلطة، وهو ما يسقط تلك الأدبيات التي روجت لمدة 40 عامًا أن الإسلاميين منافقون وسيتسللون عبر الديمقراطية إلى مفاصل السلطة ليكشفوا لاحقًا وجههم النازي (والمثل المستعمل دائمًا هو تجربة الحزب النازي الذي وصل إلى الحكم بالصندوق ثم انقلب عليه) لذلك وجب قطع الطريق عليهم وحرمانهم من الوجود. وقد أسس بن علي كل سياسته تجاههم على هذا التخويف.
وثانيهما تاريخي وهو أن إشراك النهضة ثم استبعادها من الحكم بوسائل الصندوق كان ممكنًا منذ سنة 1981 سنة إعلان الحزب عن نفسه (باسم الاتجاه الإسلامي) وإعلان رغبته في المشاركة ضمن مناخ سياسي تعددي وأن الفترة الزمنية من ذلك التاريخ إلى اليوم كانت حقبة طويلة من الهدر الديمقراطي، وقد دُفع فيها ثمن باهظ لم يدفعه الإسلاميون (الاتجاه الإسلامي/ النهضة) وحدهم بل دفعته البلاد وجميع مكوناتها السياسية حيث لا يجيب خصوم النهضة عن سؤال معلق بعد ماذا فعلوا للديمقراطية وللحريات خاصة كركيزة لها عندما غيب بن علي الإسلاميين لمدة ربع قرن.
هنا نعاين الهدر الديمقراطي ونكتشف عمق الأطروحات الاستئصالية، ونصل إلى سؤال آخر: لماذا لم يفلح الرافضون للإسلاميين في بناء أحزاب وكتل سياسية قادرة على اكتساح الصندوق بما يقلل من وجود الإسلاميين وقوتهم مهما كانت طبيعة فكرهم ونواياهم الخفية؟ وهذا السؤال بدوره يؤدي إلى سؤال آخر: ماذا لدى الديمقراطيين ليقدموه إلى الشعب ليصوت لهم ويريحهم من وجود الإسلاميين في طريقهم.
البدائل الهشة تدفع إلى الاستئصال والهدر
نحن في السنة العاشرة للثورة، ومررنا بمحطات انتخابية كثيرة وقرأنا برامج الأحزاب والمنظمات في كل المحطات ولم نجد فيها تنوعًا كبيرًا عما يطرح الإسلاميون، حتى إنه يمكن القول إن الجميع يقرأ من كراس واحد، ويغالي البعض في الشعارات ولكن الممارسة تنتهي إلى نفس المقترحات.
وفي غياب إبداع سياسي من أي جهة نجد أن الممارسات تجنح إلى مهرب مشترك، إبعاد الحزب الذي يفوز دومًا بالتصويت عن مواقع الحكم بغير وسائل الديمقراطية، مرة باسم الثورية في مقابل المهادنة ومرة باسم التقدمية في مقابل الرجعية.
لقد تابعنا المفاوضات الشاقة بشأن حكومة الحبيب الجملي بعد انتخابات 2019 ونتابع مفاوضات أخرى أشدّ عسرًا مع حكومة الفخفاخ ونعتبر أنها تدور كلها في مناخ استئصالي من علاماته أن الحزب الفائز لا يجب أن يترأس الحكومة وأن لا يدير حقائب السيادة الأربعة وتحرم عليه وزارة المالية والتربية والثقافة. وقد قيل له سابقًا إنه ليس عليه الترشح لمنصب الرئيس، وقد قبل الشروط المذلة ورضي أن يكون شريكًا ثانويًا غير مهيمن لكن رغم ذلك دفع إلى التنازل وهو يفاوض الآن كشريك لا كحزب أول.
كل هذا الوقت المهدر من عمر الديمقراطية ومن حياة الشعب التونسي سببه فئات سياسية تربت على أن ليس للإسلاميين حق في المشاركة ولكن الصندوق قال لهم منذ 2011 ما لا يرغبون، فهم الآن في وضع إسقاط نتائج الصندوق وليس لديهم إجابة عن السؤال لماذا.
إن الإجابة عن هذا السؤال ستنتهي إلى حقيقة واضحة وبسيطة وهي أن ليس هناك فرق حقيقي بين مكونات المشهد السياسي التونسي وأن الجميع متشابهون ويوشكوا أن يكونوا متطابقين، فليس بينهم عباقرة حكم وليس لديهم حلول عبقرية للبلد والعبقرية الوحيدة المطلوبة منهم هي أن يخرجوا البلد من هذه المعركة المدمرة للديمقراطية وأن يبدأوا الدرس الأول في التعايش تحت مظلة الديمقراطية، هنا ينتهي الهدر الديمقراطي.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: