فن "التنصيبة "وتفاعل المتلقي بين فضاء الاحتواء واحتواء الفضاء
سامي القليبي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 7606
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
تعريف التّنصيبة:
هي بحسب الباحث دافيد أوليفيي لارتيغو "ممارسة فنّيّة مُعاصرة مُتعدّدة الأشكال، عادة ما تكون عرَضيّة/زهوقة Ephémères تحْبِك علاقة معقّدة بين مكوّنات الفعل الفنّي وفضاء عرضه والمتلقّي" .
ومع التّمفصلات التي يُفرزها مع ما هو معماري وسينوغرافي والتّجلّيّات Performances، تُعتبَر التّنصيبة عملا مفتوحا وهجينا، تمتدّ من الغرض إلى المحيط، عبر استكشاف التّركيبة الفضا-زمنيّة / dispositif spatio- temporel والحسّيّة المتنوّعة.
بين فضاء الاحتواء واحتواء الفضاء :
في مدى تقبّلها كشكل فنّيّ راهن، يشيع استعمال مصطلح تنصيبة Installation خلال السّبعينيّات من القرن العشرين، وتجد التّنصيبة أُصولا في ممارسات الطّلائعيّين عبر تاريخ الفنّ على غرار المعرض الدّولي الأوّل لحركة دادا،وأعمال كورتشويتّرز/Merzbau أو فضاءات Proun للفنّان El Lissitzy، وهي لم تتأكّد كممارسة فنّيّة فعليّة إلاّ في غضون السّتّينيّات من القرن العشرين، من خلال ممارسات فنّيّة رمزيّة مثل أعمال الفنّان ، مؤسّس فنّ"الحدثيّة" Happening ، الفنّان Allan Kaprow، حيث ملأ ساحة رواق فنّيّ بطبقة سميكة من العجلات المطّاطيّة ، يُدعى فيها الزّائر (المتلقّي) للتّنقّل بينها / Yard1961.
ورغم اعتبار الفنّان Kaprow عمليّة تكديس ومُراكمة الأغراض بمثابة "الحدثيّة" ، فبإمكاننا أن نكتشف بعض الخصائص المفاهيميّة لفنّ التّنصيبة ، مثل تملّك المكان واستدراج المتلقّي في فضاء العمل.
وقْع بصريّ وحسّيّ يتلقّف المتفرّج ليُدرجه ضمن المنطق الوظيفي للعمل الفنّي.
لقد تعدّدت التّدخّلات التّشكيليّة التي تتقارب وتتوازى مع فنّ التّنصيبةن مثل Fluxus و"الواقعيّون الفرنسيّون الجدد" Les nouveaux réalistes français وخاصّة رُوّاد الفنّ الحركي البصري Les artistes cinétiques ،إن لم تقتصر عليهم.
ولكن مع الفنّ"المينيمالي" ،وجدت هذه الممارسة الجديدة إشكاليّاتها الأساسيّة ، إذ يحلّل الفنّان D.Judd في مقالته بعنوان "أغراض خاصّة" لسنة 1965 "ظهور أعمال فنّيّة ليست تصويريّة ولا نحتيّة، بل وبكلّ بساطة أعمال ثلاثيّة الأبعاد" ، أعمال يرى الفنّان R.Morris أنّها بحاجة إلى تصميم مُسْبق، إذ يجب :" تصميم الغرض-الفنّيّ على أنّه عنصر يحبك علاقة ما، بين عوامل مختلفة من ضمنها تنوّعات الظّلّ والضّوء في مساحته، وتسجيله في مكان ما، وعلاقة سُلّم قياساته مع المتلقّي" .
بهذا يكون المجال الفكري للفنّ المينيمالي ذا أهمّيّة بالغة في نشأة مفهوم التّنصيبة، حيث لم تعد مجرّد غرض مستقلّ يُعرض في فضاء "الرّواق المكعّب"، بل تسائل مكان العرض(يستعمل الفنّان D.Burin عبارة In Situ ليؤكّد بأنّ أعماله تمثّل إعادة صياغة المكان) وتغيّر العلاقة المعتادة للمتفرّج مع "الأثر الفنّي" ، إنّها إعادة النّظر والتّشكيك في المفهوم التّقليدي للعمل الفنّي، كما جعلت حركة Arte Povera من فنّ التّنصيبة في السّتّينيّات من القرن العشرين إحدى وسائلها التّعبيريّة ، ليطوّر "فنّ الأرض" شكلا أقصى لفنّ التّنصيبة مع تدخّلاته الفنّيّة خارج الجدران، وبمقاييس مهولة أحيانا تتطلّب توريطا أقصى للمتلقّي الذي يُجبر على التّنقّل بعيدا عن رفاهيّة الأروقة والمتاحف، ليعيش التّجربة الفنّيّة كُلّيّا وبلا تحفّظ. كما أقحم بعض الفنّانين الطّابع السّمعي على فنّ التّنصيبة( مثل Dream Houses de la Monte Young et Marianne Zazeela منذ 1963) .
أصبحت التّنصيبة إحدى الممارسات المفضّلة في الفنّ المعاصر، مدعومة بطلب مؤسّساتيّ متناقض نوعا ما مع رغبات فنّانيّ السّتّينيّات والسّبعينيّات من القرن العشرين، في الانعتاق من المفهوم التّقليدي لمسألة العرض، وبتعاملها الجوهري مع المحيط، تستجيب التّنصيبة استجابة مثاليّة لحاجيّات المراكز الفنّيّة والمتاحف التي تحتاج فضاءاتها وباحاتها الشّاسعة للتّعمير، ممّا يثير أحيانا انطباعات مزعجة مفادها أنّ العمل الفنّيّ ثمرة فضاء العرض لوحده، مُقلّصة بذلك المقترح الفنّي وسياق الإبداع ودور الفنّان في إنشاء الفكرة الجنينيّة.
تنصيبات الفيديو Installations Vidéo:
نشأت التّنصيبة الفيديو في بداية السّتّينيّات من القرن العشرين، تنهل من الصّورة الألكترونيّة لتجعل منها خامة فنّيّة ولما تتميّز به من خصائص تشكيليّة وبصريّة Cinétiques ، تُستعمل صورة الفيديو لأنّها تسمح أيضا بإجلاء تفاعلات ذات دلالات ومعان، ونأخذ على سبيل المثال تنصيبات الفنّان Nam June Paik باستعمال شاشة الفيديو كوحدة متكرّرة في وضعياّّت مختلفة، وتنصيبات لفنّانين آخرين تعتمد البثّ عاى حوامل مختلفة (أغراض/ معمار...)، مثل تنصيبات B.Nauman لسنة 1969-1970 أو تنصيبات الفنّان Dan Graham لسنة 1974 « Past(s) » التي تستغلّ وتوظّف إمكانات الالتقاط المباشر أو الأشرطة المسجّلة التي تُدمج المتلقّي وتورّطه في مسار زمنيّ مربِك ومرتبك.
إنّ ما يسمّى بالتّنصيبات التّفاعليّة يستعير بعض خصائص تنصيبات الفيديو، ولكنّها تتفرّد بتأسيسها لحوار بين المتلقّي والصّورة ، عبر الإعلاميّة.
لقد أصبح وبصفة عامّة، من الممكن التّعامل مع المتلقّي بوسائط إعلاميّة مألوفة مثل الحدود أو "الفواصل المشتركة والمعيّرة" Interfaces Standards (مثل لوح مفاتيح وفأرة الحاسوب ) أو في جلّ الأحيان وسائط مثيرة (مثل الدّرّاجة الشّهيرة the legible city لـ Jeffrey shaw حيث يجد المتلقّي نفسه مجبَرا على امتطائها ليتنقّل في رحم فضاء ما) .
ويؤكّد J.L.Boissier على أنّ " مسألة الفاصل المشترك في قلب التّنصيبة التّفاعليّة، بما أنّها تسمح للصّورة والصّوت بربط علاقة ما مع المتلقّي"
لقد بحثت بعض الممارسات التّنصيبيّة على الانعتاق من غرض الحدّ المشترك l’objet-interface بُغية توريط المتلقّي بطريقة مخالفة ،وعلى سبيل المثال: إدماج عناصر التقاط متعدّدة، مخفيّة أحيانا على الجمهور ومتوزّعة في مكان ما وتقوم بدور تحليل العوامل المحيطة بالفضاء ومن فيه(مثل تحرّكات وتنقّلات الزّوّار)، لتحوّل فضاء العرض إلى معطيات حركيّة، وكعنصر مفعِّل للتّنصيبة، يصبح المتلقّي مُبْصَرا من طرف العمل الفنّي ذاته ن ولكنّ بعض التّنصيبات المسمّاة"حقيقة افتراضيّة" Réalités Virtuelles ، ترنو إلى دعم الإحساس بالانغماس في الصّورة بعزل المتلقّي في وضعيّات سينوغرافيّة شاملة جاملة، ففي تنصيبة " Cave " مثلا، يلج المتلقّي بشبه مكعّب من الشّاشات، تمثّل واجهاته أجزاء لـ "صورة توليفيّة"Image de synthèse ،كما يتدعّم "الإحساس المجسامي" La sensation stéréoscopique ، بالنّتوء والبروز بواسطة "نظّارات تصفية" Lunettes Filtrantes.
تتحدّد التّنصيبة التّفاعليّة بعروض وإسقاطات أو صور على "منبّهات" Moniteurs ، ويستوحي كثير من فنّانيّ التّنصيبة من المبادئ الرّوبوتيّة لإنجاز اقتراحات "مُتألّيّة" Propositions Machiniques.
----------------
سامي القليبي / أستاذ مساعد للتّعليم العالي بالمعهد العالي للفنون والحرف بصفاقس
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: