الدكتور المنجي الكعبي في حديث الذكريات في مؤسسة التميمي:
تونس حسب الاتفاقيات الثنائية لا يمكن أن تفك ارتباطها عن الاتحاد الفرنسي
نوفل سلامة - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 2874
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
الشهادة التي قدمها الدكتور المنجي الكعبي في مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات في لقاء يوم السبت 2 مارس الجاري كانت مهمة للغاية، وقيمتها في كونها متعددة الأبعاد والاستفادة منها حاصلة خاصة بالنسبة لمن لا يعرف هذا الرجل، ولمن لم يعش مرحلة الاستقلال ولم يواكب أحداث فترة حكم الرئيس بورقيبة. وهي شهادة مختلفة عن الكثير من الشهادات الأخرى التي قدمها أصحابها في مؤسسة التميمي لكونها قد جمعت بين الذاتي والموضوعي، ولاعتنائها بالحديث عن مسيرة الرجل العلمية إلى جانب تناولها لجانب من التاريخ والعلاقة ببعض الفاعلين فيه، مع شيء من الحديث عن المناخات التي كانت تعيشها تونس في السنوات الأولى بعد الاستقلال. وهي في الأخير شهادة مفيدة لكشفها الكثير من الحقائق ودقائق الأمور التي يحتاج إليها المواطن حتى يقترب من الحقيقة ومن التاريخ الصحيح. وما قاله الدكتور الكعبي في شهادته يصلح مادة للحديث عن وضع الجامعة التونسية بعد الاستقلال وموضوع البحث العلمي وقضية النقد والترجمة، ومادة أخرى لفتح ملفات مهمة تخص مسألة الاستقلال الذي تحوم حولها اليوم الكثير من الشكوك بعد أن طرحت مؤسسة التميمي مسألة إعادة قراءة وكتابة التاريخ التونسي في بعض أحداثه ومطالبة بعض المثقفين نشر وثيقة الاستقلال والاتفاقيات التي أبرمتها تونس مع فرنسا الاستعمارية والتي لا تزال إلى اليوم تثير الكثير من الأسئلة والحيرة.
تناول الدكتور المنجي الكعبي في مفتتح هذه الشهادة مسيرته العلمية التي بدأت بطرده في زمن الاستعمار الفرنسي من المدارس التونسية بعد مشاركته وهو تلميذ في المرحلة الابتدائية في مظاهرة تطالب باستقلال البلاد، الأمر الذي منعه من إجتياز مناظرة السيزيام، مما اضطره إلى تخطي هذه العقبة بإجراء الامتحان بصفة فردية، ليلتحق بعد ذلك بالفرع الزيتوني بمدينة القيروان وبعد أن تمكن من التحصيل العصري وتحصل على الشهادة العلمية كانت له محطة علمية أخرى بمعهد ابن رشد اختصاص فلسفة إثر ذلك كان الاتجاه نحو الالتحاق بالجامعة التونسية، التي تعذر الدخول إليها إلا بعد أجراء مناظرة تطلبت الخضوع إلى دروس خصوصية لدى أساتذة كلية الآداب، ولكن المفاجأة أن لا أحد من الذين أجروا هذه المناظرة قد نجحوا ليتأجل الالتحاق بالجامعة التونسية. وقد فهم بعد ذلك أن الأمر لا يعدو أن يكون إلا مقصودا حتى لا يلتحق أي طالب بالجامعة مما اضطر المجموعة التي أجرت المناظرة إلى الاحتجاج أمام وزارة التربية، وقد نتج عن هذه الحركة الاحتجاجية والرافضة لهذا الأسلوب في التعامل إلى توجيه جزء منهم إلى الدراسة بالعراق وجزء آخر إلى الدراسة في سوريا. فكان أن التحق المنجي الكعبي بدولة العراق وبعد فترة قضاها في هذا البلد كشفت فيها عيناه على جمال مدن العراق وتعرف على الكثير من الشخصيات الفكرية والثقافية واطلع على الكتب والمخطوطات النادرة وربط علاقات متينة مع الكثير من العلماء، قرر المغادرة نحو القاهرة وقد كانت وقتها مقصد كل الطلبة وقبلة العلم لكل راغب في المعرفة فكان أن وضعت قدماه مدينة القاهرة. وفي سنة 1965 وهي السنة التي حصلت فيها القطيعة السياسية بين بورقيبة وجمال عبد الناصر بسبب الموقف التونسي من القضية الفلسطينية، فاضطر إلى العودة إلى تونس بعد أن طلب منه ذلك ولم يبق طويلا في تونس ليعود مرة ثانية إلى مصر عبر التراب الليبي، وفي القاهرة تمكن من إتمام رسالة الماجستير غير أن الأمن المصري قد كشف أمره واعتبرته السلطة المصرية شخصا غير مرغوب فيه وأنه لا مبرر لبقائه، فتم ترحيله من جديد إلى تونس.
يضيف الدكتور المنجي الكعبي: إن الغريب في الأمر أنه في كل هذه الأسفار وكل هذه التنقلات التي قمت بها يتم فيها سحب جواز سفره ويتم توجيه إتهامات لي إما بالعمل لحساب المخابرات التونسية كما حصل لي مع الأمن المصري لما كنت في القاهرة أو بمخالفة القوانين والتراتيب الجاري بها كما هو الشأن مع البوليس التونسي، ونتيجة لكل ذلك تم سحب إسمي من قائمة المدرسين بالجامعة التونسية. والمسألة الثانية التي أتعبتني هي أن الحصول على المنحة الدراسية لم تكن أمرا سهلا بالمرة، ويحصل ذلك بعد اتعاب كثيرة وقد بقيت لي ذكريات سيئة مع وزراء التربية الذين تداولوا على الوزارة، والذين رفضوا منحي المنحة الدراسية. ولم ينفرج الوضع إلا مع تولي السيد محمد مزالي مقاليد وزارة الدفاع عام ١٩٦٩ فكان تدخله حاسما في تمكيني من مواصلة دراستي الجامعية حيث يعود له الفضل في استرجاعي لجواز السفر بعد وساطة قام بها صلاح الدين بالي كاتب عام الوزارة، أن عدت مرة أخرى إلى مصر وهناك تم إيقافي من جديد بتهمة الجوجسة بعد أن تساءلوا عن سبب عودتي.. وبعد أن تدبرت أمر التحويل البنكي والحصول على المال اللازم لمزاولة الدراسة من معهد الدراسات العليا بجامعة الدول العربية لم توافق السلطات المصرية على ذلك.، قررت تحويل وجهتي نحو فرنسا بعد أن تركت مخطوطا كنت قد حققته ولكني لم أتمكن من نشره وقد علمت بعد ذلك أن عميد الأدب العربي طه حسين قد نوه به ونصح بنشره وكان ذلك خلال سنة 1968.
وفي فرنسا لم تنته الأتعاب فبعد أن شاءت الأقدار أن ألتقي بالوزير أحمد بن صالح وقد كان وقتها وزيرا للتربية وجاء في زيارة إلى باريس فشكوت له متاعب الدراسة في فرنسا وضرورة حصولي على منحة دراسية، فوافق على تمكيني من المطلوب وحصل ذلك بعد أيام قليلة غير أن الأمر لم يدم طويلا ليتم إعلامي بعد سنة بعدم تجديد المنحة ومطالبتي بالعودة إلى تونس. وما إن عدت حتى أخذوا مني مرة أخرى جواز سفري وكنت على مقربة من مناقشة رسالة الدكتوراه ولم أتمكن من استرجاع الجواز إلا بشق الأنفس لأعود مرة أخرى إلى فرنسا، وهناك ناقشت رسالة الدكتوراه، ومعها تبدأ رحلة أخرى من المشاق والأتعاب في الجامعة التونسية ويبدأ السؤال الذي ظل يرافقني لسنوات، لماذا يحصل معي كل هذا؟ ولماذا أعامل بمثل هذه المعاملة وأنا أول طالب يحصل على دكتوراه الدولة في مادة الآداب؟ هل لكوني قادم من رافد زيتوني؟ أم لأني قد زاولت دراستي بالخارج من دون أن أكون من ضمن البعثات الرسمية التي ترسلها الجامعة التونسية؟
بعد هذه الجولة التي أخذنا فيها الدكتور المنجي الكعبي إلى جانب من مسيرته العلمية وما تعرض له من عقبات في طريق النجاح العلمي والإصرار الكبير على التفوق في زمن كان فيه الحزب والدولة مسيطران على كل شيء، وفي زمن كان فيه التفوق غير ممكن من خارج منظومة الحكم، ولكن المنجي الكعبي بكثير من الإصرار والتحدي والعزيمة استطاع أن يتجاوز كل العقبات الواقعية والسياسية ليصل إلى ما وصل إليه ولكنه يعترف أن كل ذلك ما كان أن يحصل له لولا دخول القدر في حياته ولولا مساعدة بعض الشخصيات التي وقفت إلى جانبه لتحول حياته نحو الأفضل، وهنا لا بد من التنويه على الاقل بشخصيتين مؤثرتين في حياته الوزير محمد مزالي والوالي والمحامي الطاهر بوسمة.
بعد هذه الوقفة القصيرة مع مسيرة حياته العلمية انتقل بنا صاحب الشهادة إلى الحديث عن قضيتين مهمتين الأولى تهم مناظراته ومعاركه الفكرية والثانية اهتمامه بالتأليف والترجمة.
بعد إلتحاقه بالجامعة التونسية قسم اللغة العربية بكلية الآداب بتونس في خطة مدرس مساعد تفرغ إلى جانب التدريس إلى كتابة المقالات في النقد الأدبي، فنشر الكثير من الورقات النقدية في الصحافة التونسية دخل بها في معارك فكرية مع شخصيات معروفة في ميدان الفكر والثقافة، بلغت أكثر من عشرة معارك. وأولى هذه المعارك مقالات ست، نشرت في جريدة الصباح في بداية السبعينات من القرن الماضي كتبها في نقد لكتاب نشره عبد القادر المهيري (1934- 2016) وكان حينها عميد كلية الآداب هو جزء من رسالة في الدكتوراه حول مخطوط قديم لسهل بن هارون، عنوانه " النمر والثعلب " وهو أول كتاب يتناول مواضيع سياسية على لسان الحيوان قبل كتاب كليلة ودمنة، قام المهيري بتحقيقه بعد أن وضع له مقدمة وقام بترجمته إلى الفرنسية وقد صدر ضمن منشورات الجامعة التونسية سنة 1973. غير أن مقالاتي النقدية للكتاب التي صححت من خلالها الكثير من الأخطاء قد أغضبت المهيري بعد أن حظيت بانتباه القراء والمهتمين بالشأن الأدبي، فكان أن تشدد في موقفه مني وأصر على أن لا أضع قدمي في الجامعة وبقيت أستاذا مساعدا قبل أن تسوّى وضعيتي بعد سبع سنوات، بتعييني أستاذا محاضرا بتاريخ رجعي من عام 1971.
المعركة الثانية المهمة كانت مع الدكتور جعفر ماجد ( 1940 - 2009) الذي نشر مخطوطا في علم العروض بعنوان "صنعة الشعر" نسبه إلى أبي سعيد السيرافي، وكان يتباهي بهذا الانجاز الأدبي وقد قرّضه الدكتور عبد القادر المهيري وأثنى على هذا العمل من دون تدقيق ولا مراجعة فكتبت مقالا نشر بجريدة الصباح انتقدت فيه جملة من الأخطاء وقع فيها جعفر ماجد وعبد القادر المهيري، أولها عدم التدقيق في اسم صاحب المخطوط الذي يعود في الأصل إلى أبي الحسين العروضي وليس إلى أبي سعيد السيرافي كما ذكر جعفر ماجد وأخطاء أخرى لم يقع تلافيها من سقطات في الكتاب وعدم التدقيق في المراجع والمصادر، فما كان، بعد نشر مقالي إلا أن ثارت ثائرة كلية الآداب ضد جعفر ماجد لأنه بكتابه عن العروض قد أساء إلى الجامعة وقلل من مهنيتها ونزاهتها وأظهر أن الجامعة التونسية لا تتوفر على المنهجية العلمية حيث كان من المفروض أن يعود جعفر ماجد في تحقيقه لهذا المخطوط إلى أكثر من مرجع لمعرفة اسم صاحب المخطوط وهذا كان متيسرا حيث كان يكفي العودة إلى المكتبة الوطنية حتى يتعرف على أصل هذا المخطوط. وهذا ما أوضحته في مقالي بعد الإشارة إلى وجود أكثر من 40 مخطوط بالمكتبة الوطنية يخص الكتاب.
المعركة الأدبية الثالثة كانت مع الشاذلي بو يحي (1918 - 1997) بسبب كتاباتي حول الأديب والنحوي القزاز القيرواني (365 هـ - 386 هـ) منها كتاب عنوانه "القزاز القيرواني حياته وأثاره " وتعريفي بهذا العلم التونسي من مدينة القيروان، الذي عاش خلال القرن العاشر ميلادي وتقديمه إلى الجمهور التونسي وإلى الثقافة العربية خاصة ما أوضحته على ما كان عليه المجتمع القيرواني في عهد الدولة الأغلبية من ازدهار وحياة مرفهة غنية وما بلغته الدولة من نجاح اقتصادي مكنها من أن ترسل خراجا عاليا إلى الخلافة في بغداد وما وصلت إليه القيروان من ازدهار علمي وانتشار المكتبات وتوفر المرافق الصحية والاجتماعية الباهرة وقد كانت وقتها قبلة الزوار من كل مكان، وكان الرحالة منبهرين بما وصل إليه فن العمارة في القيروان في مساجدها وأسواقها ومستشفياتها وحماماتها وغير ذلك من أوجه من وصلت إليه من حضارة وثراء مادي ومعنوي.
المعركة الرابعة كانت مع الدكتور رشاد الحمزاوي (1934 - 2018) وكان وقتها مديرا لمعهد بورقيبة للغات الحية، وقد جاء من المشرق بكتاب قال أنه قد ألفه سماه "معجم المفاهيم الحضارية والقانونية والإدارية والاجتماعية والسياسية من خلال الرائد التونسي" تناول فيه مسألة دخول بعض المفردات إلى المعجم التونسي، ونشره وقد وجدت بعد الاطلاع عليه أخطاء معجمية وأخطاء في ذكر السياق كما هو الحال عند الإشارة إلى اليهود، حيث وقع في خطأ سببه أنه حينما يذكر أن اليهود قد حضروا مجلسا يسميه تارة المجلس اليهودي ومرة مجلس اليهود، وكأن لهم أكثر مجلس والحال أن السياق واحد في الموضعين، والتعبير كالآتي : "حضر المجلس اليهودي إيلاه المليّح" فالمعنى لا يقتضى تسمية مؤسسة بهذا الاسم وإنما مجلس تقاض حضر فيه المعني بالأمر .. وقد كان نشر هذه المقالات منطلقا لسجالات بيني وبينه في الصحافة المكتوبة انتهت بجمعها في كتاب تضمن كل تفاصيل هذه المعركة.
القضية الثانية التي جاءت في شهادة الدكتور المنجي الكعبي تهم مسألة التأليف والكتابة في الصحافة التونسية وكتابة المقالات في النقد الأدبي، والتي حولها فيما بعد إلى كتب، غير أن الكتابين المهمين اللذين نشرهما للدكتور الكعبي مؤخرا ولم يلقيا من الاهتمام ما يستحقان على أهميتهما وقيمتهما العلمية وراهنيتهما ضمن القضايا المطروحة اليوم بعد الثورة هما كتاب الاتفاقيات بين تونس وفرنسا الصادر سنة 2018 والثاني كتاب في تفسير القرآن، وهو مخطوط شيخ زيتوني هو الصادق بالخير السياري الباجي ولكل كتاب قصة وحكاية.
أما الكتاب الأول فعنوانه " الاتفاقيات بين تونس وفرنسا الممضاة بباريس في 3 جوان 1955 في ضوء المداولات البرلمانية بمجلس النواب والشيوخ " فقصة تأليفه كان الحديث الذي ظهر بعد الثورة حول ما حوته وثيقة الاستقلال من مضمون يديم الاستعمار أو يبقي عليه ولكن بشكل جديد والأسباب التي حالت دون نشرها بعد الرائد الرسمي وكل التشكيك الذي رافق هذا الحديث حول استقلال البلاد في علاقة بكل الاتفاقيات المكملة لوثيقة الاستقلال والتي يقول عنها البعض بأنها أخطر من وثيقة الاستقلال. فمسألة اتفاقيات الحكم الذاتي هو موضوع حسب الدكتور المنجي الكعبي لم يأخذ حظه من الحديث بما يستحق فهذه الاتفاقية لا زالت سارية المفعول وقد أبقت العمل بكل ما اتصل بها من اتفاقيات مثل اتفاقية الحماية واتفاقية المرسى واتفاقية باردو وحتى البند التي ينص على امكانية المراجعة والتعديل لا يحيل إلى إنهاء فك الارتباط النهائي مع فرنسا وإنما التعديلات والمراجعات في اتجاه مزيد من تدعيم الحضور الفرنسي.
واهتمامي بهذا الموضوع بدأ يوم دخلت قبة مجلس نواب الشعب بفضل الطاهر بوسمة والي القيروان آنذاك الذي رشحني لهذا المنصب، حينها اكتشفت أنه يمكن أن أفيد في مجال التشريع والتقنين بفضل تكويني الشامل وخاصة تخصصي في مجال اللغة العربية فطالبت بالحصول على الاتفاقيات السابقة للاستقلال فقيل لي أنها غير متوفرة، وكل ما هو موجود هو الاتفاقيات المنشورة بالرائد الرسمي بداية من سنة 1956 .. تركت الأمر جانبا وانشغلت بأعمال المجلس ولكن الموضوع بقي يخامرني إلى أن صادف أن كنت مارا ذات يوم من بطحاء معقل الزعيم فوقعت عيني على متحف للرئيس بورقيبة فدخلت ألقي نظرة على ما فيه فوجدت في أول الباب غرفة فارغة بها دفتر قديم ملقى فوق طاولة، قلبت الدفتر فإذا بي أمام كراس كبير يحتوي على كل الاتفاقيات التي أبرمتها تونس مكتوبة بخط جميل جدا حبر بنفسجي كالذي كنا نستعمله في المدارس الابتدائية. فحز في نفسي أن يبقى هذا الأثر المهم وهذا المرجع الفريد في هذا المكان فاتصلت بمدير الآثار وأعلمته بوجود هذا الدفتر في هذا المكان وطلبت منه أن ينقذه ويحفظه في مكان آخر يمكن الاستفادة منه أكثر، فتم ذلك ولكن منذ ذلك التاريخ اختفى هذا الدفتر ولم نعثر له على أثر .
لم يتوقف هاجسي بخصوص الاتفاقيات المبرمة بين تونس وفرنسا إلى أن ذهبت بعد انتهاء مدة نيابتي إلى مجلس نواب الشعب من جديد وحاولت الحصول على الرائد الرسمي والمداولات لكل الاتفاقيات التي أبرمتها تونس. فتم إعلامي بتعذر الاستجابة لطلبي ولكن بعد إلحاحي في الطلب تم توجيهي إلى غرفة موجود بها دفتر قديم حوى على كل الاتفاقيات ولكن نظرا لحالة أوراقها البالية منعت من تصويرها فلم أجد من حيلة إلا تصويرها من خلال الهاتف الجوال وبعد إعادة كتابتها ودراستها ومراجعتها نشرتها في هذا الكتاب الذي جاء في ألف صفحة.
ما يمكن الخروج به من هذه الاتفاقيات التي قمت بتجميعها وتحليلها أنه لا يمكن فهم تاريخ تونس المعاصر من دون الاطلاع على هذه الاتفاقيات وأن أحداث تونس والكثير من القضايا يمكن فهمها بالرجوع إلى هذه الاتفاقيات كما أن الكثير من المواضيع التي هي اليوم مدار خلاف وتقسيم للشعب يمكن أن نجد لها أجوبة واضحة في هذه الاتفاقيات. ومن أهم النتائج التي يمكن أن نصل إليها بعد الاطلاع على هذه الاتفاقيات أن تونس حسب اتفاقية الاستقلال الداخلي لا يمكن لها أن تلتحق بأي منظمة عربية أو إسلامية أو أي تجمع آخر ثقافي أو ديني من دون موافقة واستشارة فرنسا وأن تونس لا يمكن لها أن تنضوي إلا تحت الاتحاد الفرنسي الذي أنشأته الجمهورية الفرنسية الرابعة ليحل محل التنظيم الاستعماري الفرنسي القديم، ولتنظيم الدول التي أنهت الاستعمار الفرنسي وحصلت على استقلالها، وهي منظومة غايتها الإبقاء على المستعمرات الفرنسية القديمة تحت نظام التبعية الفرنسية كما يكتشف القارئ للكتاب وللاتفاقيات بمداولاتها مدى حرص فرنسا على إنسلاخ تونس من قوميتها ودينها وإدماجها في المحيط الأوروبي.
المسألة الثانية الخطيرة في هذه الاتفاقيات وخاصة الاتفاقيتين الثقافية والاقتصادية أن الأولى اعتبرت اللغة الفرنسية ليست بلغة أجنبية وإنما لها نفس المقام والمرتبة مع اللغة العربية، وأنها لغة أصلية متطوّرة عن لاتينية الفترة المسيحية بالشمال الافريقي وأما الاتفاقية الاقتصادية فقد أوجبت أن تتم كل المعاهدات التي تبرمها تونس في مجال النقل والتجارة والاقتصاد تحت رعاية فرنسا. فهل بدأنا اليوم نحقق استقلالنا الفعلي بعد أن بدأنا الحديث عن الاستقلال ومناقشة كل الاتفاقيات التي أمضيت عليها تونس مع فرنسا؟ فهل يبدأ اليوم الاستقلال الحقيقي بعد توفرت الحرية للحديث عن الاستقلال من دون خوف؟
الكتاب الثاني قصته بدأت مع اتصال ابنة الشيخ الصادق بالخير السياري، أصيل مدينة باجة وهو أحد الشيوخ الزيتونيين كان قد كتب مخطوطا في تفسير القرآن الكريم، وحاول نشره إلا أنه وجد كل الأبواب موصدة، ولم يتحمس إليه أحد من الجهات الرسمية إلى أن عدل عن الفكرة والتفت إلى فلاحته، وقد توفى وبقى ما كتبه عند العائلة إلى أن اتصلت بي ابنته وطلبت مني أن أنشر ما كتبه والدها فأعلمتها إني عادة لا أنشر إلا ما أكتبه ولكن لا بأس من الاطلاع على ما تركه المرحوم. فقدمت لي عدة كراسات مكتوبة بخط زيتوني حديث، فأخذت كراسا واحدا واطلعت عليه فوجدت أن الرجل قد كتب هذا التفسير بعد تأمل وروية وبعد إطلاع وعلم ولكن ميزته أنه جنس مختلف في ميدانه ويتميز بكونه يمكن اعتباره ينضوي ضمن التفسير الاصلاحي الذي لا نجد منه كثيرا بما يعني أن ما كتبته الشيخ يستحق أن نلتفت إليه ليطلع عليه المهتمون بالتفسير وعندها طلبت من العائلة أن تسلمني باقي الكراسات وكانت في حالة سيئة، فقمت بالاعتناء بها وترتيبها وتنظيمها. غير أني وجدت كراسا مقطوعا منه بعض الورقات، تهم تفسير بعض السور الطويلة التي على ما يبدو قد أخذها أحد المريدين للشيخ، وكان ناشطا في مجال حقوق الإنسان على ما أعلمتني به العائلة وكان قد تسلم كامل المخطوط للاطلاع لكنه أعاده منقوصا، وبعد أن استحال استرجاع الأوراق المنقوصة قررت أن أكمل النقص بمفردي بعد أن فهمت مقصد ونهج الشيخ في التفسير مع التنبيه إلى ذلك حتى يعلم القارئ أن بعض الآيات هي من تفسيري .
وبعد أن أكملت رقن الكتاب تحت عنوان "تسهيل التفسير" مع إكمال النقص وتحقيق وتقديم للمخطوط وبعد أن خصصت جزءا كاملا للحديث عن سيرة صاحبه، قررت نشره بعد استئذان عائلة الشيخ فذهبت إلى وزارة الثقافة حتى أتبين عدد النسخ التي يمكن أن أطبعها بعد معرفة حصة وزارة الثقافة، فتم إعلامي بأن الوزارة يمكن أن تقتني 400 نسخة فسرني ذلك، وقررت طبع 1000 نسخة ولكن إلى اليوم لم تقتن الوزارة ولو نسخة واحدة. وفي الأثناء اتصل بي بنك الزيتونة وأعلمني أن البنك يرصد أموالا للأعمال الدينية الجديدة وأنه قد علم أني بصدد نشر تفسير جديد وطلب مني أن أسلمه نسخة للاطلاع.. ومضت 3 أشهر من دون أن يرجعوا إليّ المسودة الأولى التي كتبتها، وبعد الحاح أعلموني بأنها عند الشيخ الحبيب السلامي. المفتي الأسبق للديار التونسية، وهو موجود بالسعودية ولم أتمكن من استعادتها إلا بعد عودة الحبيب السلامي وشرعت في الطبع. وبعد أكثر من سنتين من نشر هذا الأخير لتفسير للقرآن، كان يشتغل عليه لأكثر من عشرة أعوام ومن باب الفضول قمت بالاطلاع على تفسيره لأجد فيه أشياء قابلة للنقد، منها أنه لم يذكر في مقدمة كتابه الشيخ السياري ولم يتعرض إلى تفسيره بالرغم من أنه قد اطلع عليه، كما ذكر أنه لم يكتب أي تفسير بعد تفسير التحرير والتنوير للشيخ الطاهر بن عاشور والحال أنه قد اطلع على مخطوط المرحوم السياري، وقد بان لي أنه استفاد من هذا التفسير من دون أن يشير إلى ذلك. فكتبت نقدا في تفسير السلامي، ذكرت فيه كل مآخذي الذي قلتها في مقال مطول عنونته بـ "تصحيح على الشيخ السلامي في تفسيره للدكتور المنجي الكعبي" نشر على حلقات أسبوعية بجريدة الصباح خلال شهري أفريل وماي من سنة 2016، فما كان من السيد المفتي إلا أن قابل كلامي بشتم وتهجم عنيف وإساءة لشخصي والتشكيك في شهائدي العلمية. ونشر كل ذلك في مقالات ثلاث تحت عنوان "الكشف المنبي عن زيف الدكتور الكعبي" نشرت بجريدة الصباح في شهر جوان 2016. وكعادة الكعبي بعد كل معركة، بادر بجمع ردود الشيخ السلامي والمقال الأول الذي كتبه هو عن تفسيره وألحق بذلك كله مراجعات على جميع ما في تفسير "نهج البيان" من تفسيرات ذكر السلامي أنه خالف فيها المفسرين قبله أو رجح رأيه على آرائهم، ونقدها الدكتور الكعبي بكل تفصيل ودقة، ونشر الكل في كتاب في أكثر ٣٠٠ صفحة، سماه "تقويم (نهج البيان) تفسير الشيخ السلامي". وأردف بهذا الكتاب كتابا ضمنه دراسة نقدية أعدها بالمناسبة نفسها عن مقدمات الشيخ ابن عاشور بنقد أحد معاصريه، كان أشار اليه السلامي في السجال الذي أثاره مع الكعبي وقلل من أهميته تشبيها بنقد الكعبي لتفسيره هو. هذا الكتاب الثاني الذي نشره الكعبي في نفس الوقت عنوانه "مقدمات الشيخ الطاهر ابن عاشور بنقد الشيخ عثمان بن منصور"، بين فيه الدكتور الكعبي أهمية هذه الدراسة النقدية وإغفال ذكر جميع الباحثين والدارسين لتفسير الشيخ ابن عاشور لها أو جهلهم لوجودها أًصلاً.
-----------
نوفل سلامة
03/03/2019
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: