جاء تعيين لطفي براهم على رأس وزارة الداخلية رغما عن رئيس الحكومة يوسف الشاهد، لذلك لم تكن العلاقة بين الرجلين ودية بل مشوبة بالحذر وعدم الثقة المتبادلة، بل وحتى عدم التعاطي في أغلب الأحيان، وخاصة عندما وصل الأمر إلى إيقاف أحد مستشاري رئيس الحكومة داخل وزارة الداخلية، احتجاجا من لطفي براهم على الرقابة الإدارية والسياسية التي يريد رئيس الحكومة ممارستها عليه، لذلك لم يكن عزله مفاجئا ولا محتاجا لحملة إشاعات حول محاولة انقلابية فاشلة...
قرر رئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي إقالة وزير الداخلية السابق، السيد الهادي المجدوب، بسبب عدم تعاونه مع مصالح رئاسة الجمهورية ورفضه الاستجابة لما اعتبرها طلبات غير قانونية، سواء بالتنصت على أشخاص أو مراقبتهم أو حتى اعتقالهم، كما قطع الوزير على أصحاب النفوذ من العائلة الرئاسية ومحيطها من اللوبيات النافذة؛ ما اعتادوا عليه من مزايا وامتيازات في ظل سابقه السيد ناجم الغرسلي، لذلك لم يجد الرئيس أمام الضغوطات من حوله سوى إقالة هذا الوزير.
ورغم أن ذلك يخرج عن صلاحياته الدستورية، إلا أن اختلال التوازن السياسي بين رأسي السلطة التنفيذية منحه فرصة ليمارس نوعا من السلطة الرئاسوية الواسعة.
لكن مثل هذا القرار ما كان ليمر بسهولة أمام معارضة حركة النهضة لهذا التغيير، وهي التي رأت في الهادي المجدوب الوزير التكنوقراط المحايد والملتزم بالقانون والبعيد عن الطموحات السياسية، خاصة وأن هذا الوزير كان على رأس الطاقم الإداري المحيط بوزيري داخلية الترويكا المتعاقبين.
ولقد كان الرئيس يفكر بالفعل في إقالة المجدوب وأن يتولى الوزارة رئيس الحكومة اضافة لخطته الأصلية. طبعا كان مفهوما سبب هذا الاقتراح: فحجم الثقة في الشاهد حينها كان كبيرا، واستعداده لخدمة العائلة الرئاسية وحمايتها آنذاك كان واضحا.
إلا أن ذلك لم يزد شريكه في الحكم إلا توجسا، وهو الذي عايش من قبل خطورة الجمع بين السلطة السياسية والسلطة الأمنية في ظل تهرم رئيس الجمهورية وظهور بوادر ضعفه. لذلك تصاعد رفض حركة النهضة لمثل هذا التغيير إلى ما يشبه الفيتو.
ولم يكن أمام رئيس الجمهورية من بد غير الأخذ بحل وسط: إقالة المجدوب دون إلحاق وزارة الداخلية برئيس الحكومة.
وهنا جاء التدخل الرشيق لمستشاره السياسي المكلف بالعلاقات ليقترح عليه السيد لطفي براهم، آمر الحرس الوطني حينها. والرجل الذي يمكن التعويل عليه حسب رأيه، في الأوقات الصعبة، ليتولى مهمة الوزير الجديد للداخلية.
ربما لم يكن يوسف الشاهد منسجما مع المجدوب، وربما لم يكن ممانعا لتغييره، أما أن تتم أقالته وتعيين وزير جديد خارج إرادته، فإن ذلك لم يكن سهلا عليه تقبله، لكنه مع ذلك تعامل مع الأمر الواقع وحاول احتواء براهم منذ الأيام الأولى لتعيينه.
أما حركة النهضة، فلم يكن باستطاعتها أن تستمر في الرفض إلى ما لا نهاية، رغم أن قبولها بتعيين براهم كان بمثابة تجرعها للسم، في ظل خوفها المزمن وجزعها من تولي مسؤولين أمنيين أو عسكريين مسؤوليات سياسية في الدولة.
تكليف لطفي براهم لم يكن المسحة الأولى من العناية الرئاسية التي شملته، فحتى توليته قيادة جهاز الحرس الوطني كانت أيضا برعاية من مستشار الرئيس وبحرص منه شخصيا. لذلك بدا تعيينه على رأس وزارة الداخلية منذ اليوم الأول مثيرا للريبة، خاصة وأن الرجل جسور إلى حد التهور، ولا يزال يحمل بين طيات دفاتره حرارة عملياتية تتناقض مع واجب التحفظ، وما يستلزمه من برودة وجدانية وابتعاد عن الانفعالية عند المسؤول السياسي.
لقد فرض التكوين الأمني والتجربة المهنية على لطفي براهم طابعا مزاجيا خاصا، جعله يبدو قائدا عملياتيا، جلب له النجاح في بعضها سمعة معتبرة عند صناع القرار، غير أن ممارسة القيادة السياسية تستلزم شيئا آخر عصيا على براهم، لذلك لم يكن بمقدوره أن ينسجم مع الجهاز الحكومي منذ يومه الأول.
بل إن هذه العلاقة المتوترة لم تقف عند حدود مجلس الوزراء، إذ طبعت أيضا أداءه داخل وزارته. فإصراره على تغييرات هيكلية على رأس إدارة الأمن الوطني قوبلت برفض تام، مما جعله في شبه قطيعة مع منظوريه. فلا إدارته التي نشأ فيها كانت تنظر له بعين الرضى لاقتناعها بوجود من هو أكفأ منه لقيادتها، ولا بقية مصالح وزارته قابلين بالتعاطي معه، ولا رئيسه القانوني (الشاهد) يثق به ويتواصل معه.
وبالمقابل، لم يكن لطفي براهم يعترف بسلطة أخرى عليه غير سلطة رئيس الجمهورية، فكان يتلقى أوامره من الرئاسة ويختزل علاقاته بالدولة التونسية في هذه المؤسسة. ورغم أن ذلك يعتبر تمردا على سلطة رئيس الحكومة، إلا أنه أيضا أدى في نهاية المطاف إلى عزلته وعجزه عن إحداث أي تغيير داخل وزارته. فرئيس الحكومة نجح في أن يتدخل ويفرض عديد المرات خياراته، ولعل أهمها التعيينات التي فرضها على وزيره إبان زيارته الملتبسة للسعودية.
وفي الحقيقة لم تشهد وزارة الداخلية منذ الثورة وحتى الآن؛ وزيرا على قدر من الاضطراب والتوتر بمثل لطفي براهم، كما لم يعش يوسف الشاهد تحديا أمام عمله مثلما حصل مع وزير داخليته السابق.
ولئن يربط البعض اليوم إقالة وزير الداخلية بحادثة قرقنة، فإن رصد تاريخ علاقته بالشاهد يبين بوضوح أن قرار الإقالة يعود إلى ما هو أخطر من هذه الحادثة، على أهميتها. لكن ومع ذلك، لا يتعلق الأمر بما يروج حول انقلاب مزعوم تم فضحه، فما أعجز الرجل عن ذلك تخطيطا وإنجازا. ورغم أن ما يروى عن فصول الإعداد لمثل هذا الانقلاب لا يتعدى كونه نسجا من خيال ضعيف، إلا أن ما يرتسم على ملامح الرجل من غطرسة وانفعال، وما يحيط به نفسه من رذالة لفظية وعدم احترام للآخرين.. كل ذلك قد يكون أثار مخاوف حول نواياه.
إلا أن التحول الحقيقي الذي حصل نراه في الضفة الأخرى، أي في القصبة. فلقد أضحى يوسف الشاهد الشخصية الأقوى بعد الدعم الخارجي والداخلي أمام دعوات إقالته. ولقد استفاد رئيس الحكومة من هذا الدعم ليحسن من صورته، ولكن أيضا ليصفي خصومه وعلى رأسهم وزير الداخلية لطفي براهم.
فبعد أن كان حديث الساعة هو كيفية الإطاحة برئيس الحكومة، اعتبر الشاهد أن في استمراره حتى الآن انتصارا له، وبادر بإقالة براهم عند أول فرصة سانحة.
ولم يتمسك رئيس الجمهورية بلطفي براهم لسببين:
أولا، لأن أصداء ما يردده براهم من ادعاءات التمرد على الجميع قد وصلت إلى أذني الرئيس، ما اعتبره مسا برمزيته ووضعه الاعتباري، من جهة، وطيش ولا مسؤولية الوزير من جهة ثانية.
ثانيا، لأن براهم الذي بدأ يحس بخطورة وضعيته في موقعه، أخذ احتياطات لحماية نفسه من أية متابعة قضائية في حال عزله، ما أغضب الرئيس واعتبر ذلك خيانة لعهده معه ومع عائلته. فلطفي براهم استفاد من تجربة ناجم الغرسلي، وزير الداخلية الأسبق الذي نجا حتى الآن من الاعتقال بسبب ما يحوزه من ملفات تدين شخصيات بارزة حصل عليها خلال مباشرته لمهامه، وكذلك فعل لطفي براهم.
وبغض النظر عن تفاصيل كثيرة لا يتسع المقام لذكرها الآن حول مرحلة لطفي براهم في وزارة الداخلية، فإن الدرس الأهم في هذا الموضوع أن منظومة الفساد السياسي تنخر الدولة التونسية. فالتعيينات في المناصب القيادية في الحكومة وفي رئاسة الجمهورية؛ هي منطلق كل الفساد الذي نراه في الدولة. ولذلك، فإن أية عملية اصلاح إذا لم تنطلق من هناك فإنها حتما ستفشل.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: