لا أزعم الحكمة ولكني أستقرئ الوقائع وأجد بعض المعاني وأختم بأن الله أعلم. ولقد قرأت ما رأيت وأرى وأسمع، وأجد أن حزب النهضة التونسي قد حشر بعد سنتين من الشراكة مع المنظومة القديمة في زاوية ضيقة، فعزل عن الهامش المنتفض وفقد الصلة بالثورة ومشروع تأسيس بلد جديد بنخب جديدة.
وأعتقد أنه يحتاج الآن وهنا إلى تأمين خط رجعة. لكن تفككه أكثر فائدة من بقائه لكل من يحيط به.
فالسياسة في تونس ومنذ دروس الزعيم تحكمها غريزة الضباع لا أخلاق الفرسان.
حزب النهضة حزب ضروري في المشهد التونسي
أنا ممن يعتقد أن حزب النهضة ممثل الإسلام السياسي في تونس مكون ضروري في الساحة وليس فقط عنصرا من عناصرها العابرة. فهو الحزب الذي يستوعب ويؤطر ما يقارب المليون إنسان بين منخرط متحزب ومتعاطف مؤمن بقدرات الحزب ومستنكف عن غيره وإن لم يندمج في أطروحته. هذا المليون شارك بحماس في العمليات الانتخابية وله رأي ووجود فعال وفرضية انفلاته تفتح على احتمالات مؤذية للسياسة وللبلد. كما أن الأطروحة السياسية ذات الخلفية الإسلامية والتي عاشت بأشكال مختلفة في الأقطار العربية تمثل جناح/ مقترح الهوية في سياسات التحديث التي انحرفت عن الهوية باسم التحديث فأنتجت شعوبا متفسخة أو في أفضل حالاتها حائرة من تكون.
ولقد زعم كثيرون أن غيابه أفضل من حضوره لبناء الديمقراطية لكن تجربة تغييبه طيلة ربع قرن من حكم بن علي لم يقدم بالديمقراطية ولا بالتنمية، بل أنتج الدكتاتورية والفساد والسلفية المسلحة. وسيظل السؤال عما كان يمكن أن يقدمه في مقارعة دكتاتورية بن علي بلا إجابة فالذين بقوا في غيابه حولهم بن علي إلى أشياء أو أوضع من ذلك.
هل كان التوافق مع النداء بعد 2014 ضروريا؟
بعد تجربة الترويكا التي تصدى فيها حزب النهضة لإدارة البلد وفشل؛ طرح السؤال عن مصيره. لكن موقعه كحزب ثان في انتخابات 2014 سمح له بمناورة جديدة دخل بمقتضاها مع حزب النداء في حكومة شراكة. وبرر الحزب ذلك بأنه لم يفشل في إدارة البلد بل أُفشل وكان للنقابة دور كبير في الإفشال ومن يقول النقابة يقول باليسار التونسي الذي يملك سلطة قرار على النقابة فضلا على تجند ماكينة إعلامية مدربة ضده فغطت كل مكرمة محتملة قدمها.
لقد هرب الحزب من أمام هذه الماكينات فاختفي داخل الحكومة فخف عنه الطلب وخيل إلى قيادته أنها نجت من الإقصاء. بل لقد صدق بعضهم نفسه فظن أنه يحكم البلد فعلا وأن التبجيل الذي يلقاه زعيمه علامة قوة لا خدعة مرتبة ليصعد فوق شجرة السلطة ولا يترك تحته سلما للنزول.
يقف الحزب الآن على حقيقة مختلفة. إنه ليس شريكا في السلطة ولا حق له في المشاركة في القيادة الفعلية وتعتبر مباردة الرئيس إلى حكومة وحدة وطنية ضربة لرئيس الحزب بالذات. فقد سبق إعلان المبادرة لقاء بين الشيخين (الباجي والغنوشي) ولم يعلم الرئيس حليفه بأي مشروع. لكن بعد ساعات قليلة من اللقاء أعلن الرئيس المبادرة كأن ليس له شريك. ولم يتم تعويض صبر النهضة على هذا التجاوز بتعيينات وزارية تعادل حجم الحزب البرلماني ولا بتعيينات نوعية (وزارات سيادة) وتأكد الإقصاء في تعيينات الولاة (المحافظين) وسيزيد تعيين المعتمدين (سلطة محلية) في تأكيد هذه الحقيقة.
يتسرب الآن من الحزب شعور بالغ بالمرارة ويسود إحساس بالخديعة (لقد وقع الحزب في الفخ).. لقد استعمل كجسر للعبور من مرحلة صعبة أعقبت الانقسام والاستقطاب الذي حدث بعد الانتخابات. كانت مناطق كثيرة والجنوب منها خاصة قد صوتت للنهضة ثم سارت مع الدكتور مرزوقي وكان البلد على شفا انفجار مؤذن بخراب فلما دخلت النهضة الحكومة مع النداء هدأت نفوس كثيرة أو سكتت على مضض وتعزّت بأمل الخروج من المأزق، والآن يبدو أن المنظومة قد لحمت صفوفها وملكت زمام أمرها لتستغني عن الشريك النهضاوي، أو تنقل إليه أزمة تفكك أوصاله وهي تعرف مقدار حرصه على بنيانه الذي لم ينهر منذ تأسس رغم القمع المتواصل وفي هذه اللحظة يشعر الجميع أن الحفاظ على بنيان الحزب يقتضي البقاء في الحكومة في وضع التابع وهو ما يعني خسران مكاسبه من التحالف (أو التوافق).
الرجوع إلى نقطة الصفر
لقد فقد الحزب لسانه داخل التوافق دون أن يكون ملزما بالصمت والانسجام المطلق. لكنه أفرط في نوافل التوافق حتى ضيع فرض التميز. وهو من الضعف أمام المنظومة القديمة حتى أنه لا يستطيع الاعتراض الجدي على تلاعبها بالقانون الانتخابي وستجبره قريبا على القبول بقانون المصالحة مع الفاسدين الذين مولوا حملة الرئيس وينتظرون رد فضلهم. ولم يحقق الحزب الاختراق السياسي ليصير حزبا مقبولا شعبيا كما برر ذلك لمناصريه. وهو الآن أسير لا يمكنه التراجع أو التنصل. وكل تململ سيكون ثمنه غاليا. فالمنظومة تملك 122 مقعدا في البرلمان لتعيد توليف حكومة بدونه. فالجبهة الشعبية العدو اللدود تنتظر عند الباب كما كانت في فجر انتخابات 2014 لتقفز مكانه وتمارس دورها في إسناد المنظومة والتمعش منها وهو دور أتقنته ومكنها من محق الإسلاميين طيلة حقبة بن علي.
لقد تدبر الحزب فسحة للتنفس خارج غرف السجن لكنه يقف الآن في باحة سجنه الخاص ويرى أبواب غرف السجن مشرعة. وهذا القول أبعد ما يكون عندي عن الشماتة لكنها مقتضيات الحال.
هل كان لدى الحزب حل آخر ؟
يبدو المشهد التونسي سرياليا. فالحزب الأكثر تنظيما وتماسكا (النهضة) لا يحكم والحزب الأشد تشتتا وضياعا (النداء) يفرض عليه شروطه والحزب أو التيار الغائب في البرلمان (اليسار) يمسك فعليا ببوابات الغنم السياسي ويتسرب بذكاء إلى مفاصل الدولة. فكأنما الأقوى شكلا هو الأضعف موضوعيا.
لم يقدم حزب النهضة نقدا فعالا لتجربة الحكم وخاصة لميوعة حكومته الأولى التي تخلت بسرعة عن منطق التأسيس ومهدت للتعايش مع النظام على قاعدة الانتقال الديمقراطي باسم الحفاظ على الدولة، وفقد توازنه بسرعة أمام الاغتيالات السياسية والضربات الإرهابية وبالغ كثيرا في توهم الضغط الخارجي خاصة بعد الانقلاب المصري. ويبدو أنه اطمأن أيضا إلى وهم الإسناد الخارجي لما سمي بالاستثناء التونسي الذي يدمج الإسلام السياسي في الديمقراطية، ولم يقرأ بحصافة تصويت قواعده المفقرة للرجل الوحيد الذي بقي مرابطا في منطقة التأسيس قريبا من الهامش الاجتماعي، وقدم صورة سلبية عن أنصاره الذين يتحركون متماسكين كفيلق عسكري منضبط. لذلك فإنه ضيع في الطريق حلفاء كثيرين يقطنون الهامش الاجتماعي وقد صوتوا له بكثافة في 2011.. فقد منهم حوالي نصف مليون في سنتين وسيفقد أكثر من ذلك حتى 2019.
ولعله الآن ينظر فيرى أن كل تنازلاته (توافقاته) لم تجد، فكلما تقدم خطوة طلب منه المزيد. فيما يرابط مطالبوه بالتطور والانسجام في مواقعهم و"يدوسون على قلوبهم" إذا اضطروا للسلام عليه. لم تغير المنظومة من روحها ولا من وسائلها لتقبله، وتتعايش معه بصفته طرفا وطنيا ذا حقوق. وهو يكابر الآن فلا يقر أن المنظومة قد دجنته وأفقدته مشروعه المؤسس.
يدخل الحزب الآن في عزلة لا يكفيه فيها تماسكه الهش. وهو يرى ضباع السياسة تترصد التائهين من أنصاره لتضمه إليها وليست معنية بأن تمد له سلما لينزل من شجرة عزلته. فجثته التي تمثل مليون ناخب متحمس حلوة في صندوق الاقتراع.
من يكون أردوغان التونسي ؟
مجريات الوقائع داخل الحزب وحوله تفتح على سيناريوهات سيئة.. إما دفع الحزب إلى التفتت أو إلى التقوقع والقطيعة مع الواقع. والانتهاء في وضع حزب محفوظ نحناح (حركة مجتمع السلم) بالجزائر، حزب إسلامي صغير وإصلاحي لا يعيش إلا بالالتصاق بالسلطة دون التأثير فيها..
أو قد نسمع قريبا بأن جلباب الأب المؤسس قد صار ضيقا على جميع أبنائه، بما يؤدي إلى خروج جديد ومؤسس عن تاريخ الحزب الإسلامي ذي الطبيعية الإخوانية الإحيائية التي تسبق الطاعة على الاحتجاج. لكن هذا الخروج المؤسس يقتضي ممن يتململ الآن النظر في وجه الزعيم. ولكن النظرة الحاسمة تقتضي أطروحة مؤسسة جديدة ولغة وقحة مع منظومة وقحة.
في لحظة مشابهة لما يعيشه حزب النهضة الآن تمرد أردوغان على أربكان في تركيا وأعلن تأسيس العدالة والتنمية على فعل سياسي جديد، يقدم التنموي الاجتماعي على التعبدي، أي إنه يسبق مقتضيات السياسة الواقعية بوسائلها على تصورات شريعية سقطت أسانيدها التاريخية. السلم الوحيد المتاح للنزول من فوق شجرة التوافق ذات الثمر الزقوم، أن يصنع الحزب سلم نزوله من أغصانها. لكني أعتقد والله أعلم أن تربية الحركات الإسلامية العربية السنية لأبنائها منذ حسن البنا حتى الآن قد أنتجت متعبدين مهذبين يعرفون طرق المساجد ولا يهتدون إلى طرق الحكم.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: