البدايةالدليل الاقتصادي للشركات  |  دليل مواقع الويبالاتصال بنا
 
 
 
المقالات الاكثر قراءة
 
تصفح باقي الإدراجات
أحدث المقالات

مقالات منسية : دراسات عن ابن خلدون للأستاذ ساطع الحصري

كاتب المقال إبراهيم عبد القادر المازني   
 المشاهدات: 3471


 يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط


عرفت الأستاذ ساطع الحصري — أبا خلدون — في بغداد لمَّا زرتها أول مرة، وكان يومئذٍ هو المشرف على شؤون التعليم والفنون والمُوكَّل بها، وقد زرت بصحبته دار الآثار وبعض ما كشف عنه البحث والتنقيب في العاصمة وحولها، ومما أذكره لدلالته — ولا يسعني إلا أن أبتسم كلما تذكرته — أننا زرنا قصرًا منيفًا من العصر العباسي يزعم البعض أنه كان من قصور الخليفة المأمون، وهو غير صحيح، وكان الأتراك أيام حكمهم للعراق يتخذونه إسطبلًا!

وقد خرج الأستاذ أبو خلدون من العراق إلى الشام ولبنان، ولعله آثر الإقامة في بيروت، فقد جاءني كتابه منها، وأَعفى نفسه — أو أُعفِي — من الأعباء الرسمية التي كان يضطلع بها في بغداد بعد أن أسدى إلى هذا البلد الطيب يدًا ينبغي أن تُذكَر ولا تُكفَر، وأحسن الارتياد فيها لمواضع البُغيَة، بحَسِين تثبُّته في أوائل الأمور، ودقة استشفافه بعقله الكبير ونظره البعيد لما تجيء به العواقب، ولم أرَ يومئذٍ إلا ظواهر أموره المحمودة، غير أن الذين يعرفون بواطن أحواله زادوني إكبارًا له، فما كان وهو ببغداد يمتُّ إلى أهلها بغير حرمة العلم وذمام الإخلاص حتى لقد أفضى من ذلك إلى ما يجوز الأمنية ويفوت الأمل، وقد تبيَّنت من حديثه أنه بموضع رفيع من جمع الكتب ودراستها والنظر فيها والعكوف على تصفُّح عقول أصحابها من جميع الأمم، وأن الله قسم له من العقل والفهم حظًّا جزيلًا، وأنه لا يكتفي بذلك ولا يزال دأبه وكدُّه أن يزيد في عقله عقل غيره.

ومن كان كذلك، فتصور محنته وحسرته حين تقضي الأحوال بإقصائه عن كتبه وأوراقه، وتحرمه — كما يقول: «وسائل تحقيق أمنيتي (وهي دراسة مفصَّلة لمقدمة ابن خلدون) بالإحاطة التي كنت أستعد لها، والدقة التي كنت أتوخاها.»

ومع ذلك أبى أن تلحقه إضاعة أو يفدحه الحرمان، أو أن يستقبل حاله الجديد بالتضجع، فراض نفسه على تقاضي الزيادة من النقص، وتثمير الذاكرة، وارتاد لها مغرسًا تنمو فيه فروعها وتزكو ثمرتها، أو كما يقول: «ومع هذا رأيت أن أشغل أوقاتي بكتابة بعض الدراسات عن مقدمة ابن خلدون بقدر ما تسمح لي الذاكرة من جهة، وبقدر ما تساعدني المراجع التي أستطيع الحصول عليها في ظروفي الحالية من جهة أخرى، أملًا أن تكون هذه الدراسات مُمهِّدة للدراسة التامة التي لا أزال أُمنِّي النفس بها.»

وهو لا يرى أن ما كتبه الدكتور طه حسين بك والأستاذ عبد الله عنان وغيرهما يُغنِي عن دراسة جديدة لهذه المقدمة الجديدة؛ «لأني أعتقد — كما يقول — أن الطرافة في الدراسات لا تتأتَّى من جدة الموضوع وحده، بل قد تتولد من طرافة الطريقة والاتجاه أيضًا».

وله ملاحظة غاية في السداد، قال: «إن الذين يطالعون مقدمة ابن خلدون يقرأونها عادة كما تُقرَأ الكتب الحديثة وينتقدونها بوجه عام كما تُنتَقد المؤلفات العصرية، ومعظم الذين يكتبون عن المقدمة ينحون هذا المنحى نفسه، ويميلون إلى وزن الآراء الواردة فيها بموازين المكتسبات العلمية الحديثة، دون أن يلتفتوا إلى عدد القرون التي تفصل بيننا وبين تاريخ كتابة المقدمة، على حين أن قيمة المؤلفات القديمة، ومنزلة المفكرين القدماء — في تاريخ العلوم والأفكار — لا يمكن أن تقدر على هذه الطريقة، ذلك لأن كل عالم ومفكر يشترك — بوجه عام — مع معاصريه في معظم آرائهم فيشاطرهم أكثر أخطائهم، ولا يمتاز عليهم إلا في «بعض الآراء» التي يُوفَّق إلى ابتكارها و«بعض المعلومات» التي يستطيع اكتشافها، ولهذا السبب نرى أن منزلة الباحث والمفكر في «تاريخ العلوم والأفكار» لا تتعين بملاحظة «جميع الآراء الصائبة والخاطئة» المنبثَّة في كتاباته ومؤلفاته المختلفة، بل تتقرر بملاحظة «الآراء المبتكرة» التي يسمو بها على معاصريه، و«الحقائق الجديدة» التي يضيفها إلى المكتسبات الفكرية البشرية والخدمات التي يقوم بها بهذه الصورة في سبيل تقدم الأفكار والعلوم، كل ذلك بغض النظر عن الآراء الخاطئة التي يبقى فيها مشتركًا مع معاصريه بطبيعة الحال.»

وهذا هو دستوره في دراسة مقدمة ابن خلدون: أن لا ينسى أن ابن خلدون من رجال القرن الرابع عشر بعد الميلاد، وأن يرجع إلى تاريخ «العلوم والأفكار» وهو يقرأ كل فصل من فصول المقدمة، ويتأمل كل رأي من آرائه، ويعرض ما كان يقول به المفكرون في هذا الصدد في العصر الذي عاش فيه وفي العصور التي أتت بعده.

وقد ضرب مثلًا: أرسطو «المعلم الأول» وما وقع فيه من أغلاط وأخطاء كثيرة جسيمة في علوم الطبيعة وعلم الحياة والاجتماع، ثم قال: «وما قلته عن أرسطو يصح في غيره من العلماء والمفكرين، وليس من بين هؤلاء — من سقراط إلى كَانت ومن بقراط إلى فرويد — من يُعدُّ عظيمًا لأنه لم يخطئ في آرائه قط، بل إنهم يعدون عظماء على الرغم من الأخطاء التي وقعوا فيها.»

وملاحظة أخرى لا تقل عن هذه سدادًا وتوفيقًا، وتلك أن الأكثرين لا يطلعون على آراء القدماء من الغربيين إلا من خلال بعض المقتطفات والدراسات، فيتوهَّمون «أن كل ما قاله هؤلاء وكتبوه كان من ذلك الطراز، مع أن تلك المقتطفات والدراسات يراد بها بوجه عام إظهار نزعتهم العلمية؛ فهي لا تحتوي إلا على الجوهر المهم والزبدة المنتقاة من آرائهم وكتاباتهم الأصلية، بينما نحن نطلع على ما قاله ابن خلدون من قراءة مقدمته مباشرة، ونحيط علمًا بكل ما فيها من غَثٍّ وسمين، فالمقارنة التي قد تحدث في أذهاننا بين ابن خلدون وأمثاله الغربيين تكون بعيدة عن الحق، إن مثلنا في هذه المقارنات كمثل من يريد أن يقوم بمقارنة بين المناجم المختلفة فيقدم على الموازنة بين العنصر الطبيعي الموجود في أحدها، وبين المعادن الصافية والجواهر اللمَّاعة المستخرجة من غيرها، من غير أن يذكر أن تلك المعادن والجواهر كانت ممزوجة ومخلوطة بمواد ترابية وحجرية خسيسة، وأنها لم تظهر بمظهرها الحالي إلا بعد تصفيتها من النفايات، كما أن العنصر الطبيعي الموجود في المنجم الأول يحتوي على جوهر ثمين قد يبهر الأبصار مثل تلك الجواهر إذا ما عولج وصُفِّي مثلها».

وعلى مقتضى هذا الدستور المنصف كتب دراساته القيِّمة وأخرجها في جزأين ضخمين، ومهَّد لها بجولة في التاريخ والكهانة والنجامة والسحر وما إلى ذلك، ورأي ابن خلدون في هذه الأمور، ثم تناول حياة المؤلف وتاريخ كتابة المقدمة ولغتها ومكانتها من تاريخ فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع، وآراء الرجل ونظرياته في طبيعة الاجتماع ومنشأ الحكم، والقسر الاجتماعي والتقليد وطبائع الأمم والدولة وعلم النفس والتربية، ونظرية التطور، والحرب والدين واللغة والأدب إلى آخر ذلك.

وحسبنا هذا الوصف الإجمالي لتعريف القُرَّاء بالكتاب وقيمته على أن من حق الأستاذ أبي خلدون علينا أن نشهد بأنه ما ترك موضعًا إلا أقام فيه بإزاء كل شبهة دليلًا ومع كل خفيٍّ حجة ظاهرة، وأنه ما رضي بالأصول حتى تقصى الفروع، وأقام كل أمر على حدوده ونزله منازله بلغة سهلة متدفقة، وإن كانت لا تخلو من مصطلحات غريبة أدى بها معاني مألوفة في اللغات الأجنبية، ولا نظن أنه كان يعييه أن يهتدي إلى خير منها، على أن هذه قليلة لا تغضُّ من قيمة الكتاب، ولعل عدم الإشارة إليها كان أولى، فليس من العدل المحض والإنصاف الصحيح أن ندع الهنات اليسيرة تتجسم في رأي القارئ، ولهذا وجب التحذير من حمل هذه الملاحظة على غير محملها.

----------
جريدة البلاغ
٩ أبريل ١٩٤٤


 اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة:

الأدب العربي، إبراهيم عبد القادر المازني، ساطع الحصري، إبن خلدون، الفكر الإجتماعي،

 





تاريخ نشر المقال بموقع بوابتي 25-03-2016  

تقاسم المقال مع اصدقائك، أو ضعه على موقعك
لوضع رابط لهذا المقال على موقعك أو بمنتدى، قم بنسخ محتوى الحقل الذي بالأسفل، ثم ألصقه
رابط المقال

 
لإعلام أحدهم بهذا المقال، قم بإدخال بريده الإلكتروني و اسمك، ثم اضغط للإرسال
البريد الإلكتروني
اسمك

شارك برأيك
لوحة مفاتيح عربية بوابتي
     
*    الإسم
لن يقع إظهاره للعموم
     البريد الإلكتروني
  عنوان المداخلة
*

   المداخلة

*    حقول واجبة الإدخال
 
كم يبلغ مجموع العددين؟
العدد الثاني
العدد الأول
 * أدخل مجموع العددين
 
 
 
أكثر الكتّاب نشرا بموقع بوابتي
اضغط على اسم الكاتب للإطلاع على مقالاته
عواطف منصور، المولدي الفرجاني، محمود فاروق سيد شعبان، د- محمود علي عريقات، كريم فارق، أبو سمية، حسن الطرابلسي، أحمد بن عبد المحسن العساف ، محرر "بوابتي"، صفاء العراقي، سفيان عبد الكافي، سلوى المغربي، يحيي البوليني، منجي باكير، محمد علي العقربي، الهيثم زعفان، يزيد بن الحسين، سيد السباعي، أ.د. مصطفى رجب، محمود طرشوبي، رضا الدبّابي، د. ضرغام عبد الله الدباغ، حسن عثمان، أحمد النعيمي، مجدى داود، فهمي شراب، ضحى عبد الرحمن، فتحـي قاره بيبـان، العادل السمعلي، عمار غيلوفي، الناصر الرقيق، صفاء العربي، د. عبد الآله المالكي، فوزي مسعود ، محمد يحي، د. عادل محمد عايش الأسطل، صالح النعامي ، حسني إبراهيم عبد العظيم، وائل بنجدو، صباح الموسوي ، د. خالد الطراولي ، مصطفى منيغ، طارق خفاجي، محمد عمر غرس الله، جاسم الرصيف، د - محمد بن موسى الشريف ، د - عادل رضا، كريم السليتي، ياسين أحمد، رافع القارصي، محمد الطرابلسي، حاتم الصولي، عمر غازي، صلاح المختار، فتحي الزغل، عبد العزيز كحيل، د. مصطفى يوسف اللداوي، سلام الشماع، محمد العيادي، د. أحمد بشير، د- هاني ابوالفتوح، محمد اسعد بيوض التميمي، د - صالح المازقي، عراق المطيري، أشرف إبراهيم حجاج، د - شاكر الحوكي ، د. أحمد محمد سليمان، علي عبد العال، سامر أبو رمان ، د- محمد رحال، فتحي العابد، رمضان حينوني، د. صلاح عودة الله ، د. طارق عبد الحليم، أحمد الحباسي، بيلسان قيصر، نادية سعد، خبَّاب بن مروان الحمد، ماهر عدنان قنديل، د - المنجي الكعبي، د - مصطفى فهمي، الهادي المثلوثي، أحمد بوادي، عبد الله زيدان، د.محمد فتحي عبد العال، د - الضاوي خوالدية، محمد أحمد عزوز، مصطفي زهران، المولدي اليوسفي، عبد الغني مزوز، حميدة الطيلوش، تونسي، د - ‏أحمد إبراهيم خضر‏ ، محمد الياسين، أحمد ملحم، عزيز العرباوي، د. كاظم عبد الحسين عباس ، عبد الله الفقير، رشيد السيد أحمد، خالد الجاف ، صلاح الحريري، سليمان أحمد أبو ستة، إيمى الأشقر، أنس الشابي، إسراء أبو رمان، سعود السبعاني، طلال قسومي، أ.د أحمد محمّد الدَّغَشِي ، عبد الرزاق قيراط ، رافد العزاوي، محمد شمام ، مراد قميزة، د - محمد بنيعيش، علي الكاش، إياد محمود حسين ، رحاب اسعد بيوض التميمي، سامح لطف الله، محمود سلطان، د- جابر قميحة،
أحدث الردود
ما سأقوله ليس مداخلة، إنّما هو مجرّد ملاحظة قصيرة:
جميع لغات العالم لها وظيفة واحدة هي تأمين التواصل بين مجموعة بشريّة معيّنة، إلّا اللّغة الفر...>>


مسألة الوعي الشقي ،اي الاحساس بالالم دون خلق شروط تجاوزه ،مسالة تم الإشارة إليها منذ غرامشي وتحليل الوعي الجماعي او الماهوي ،وتم الوصول الى أن الضابط ...>>

حتى اذكر ان بوش قال سندعم قنوات عربيه لتمرير رسالتنا بدل التوجه لهم بقنوات امريكيه مفضوحه كالحره مثلا...>>

هذا الكلام وهذه المفاهيم أي الحكم الشرعي وقرار ولي الأمر والمفتي، كله كلام سائب لا معنى له لأن إطاره المؤسس غير موجود
يجب إثبات أننا بتونس دول...>>


مقال ممتاز...>>

تاكيدا لمحتوى المقال الذي حذر من عمليات اسقاط مخابراتي، فقد اكد عبدالكريم العبيدي المسؤول الامني السابق اليوم في لقاء تلفزي مع قناة الزيتونة انه وقع ا...>>

بسم الله الرحمن الرحيم
كلنا من ادم وادم من تراب
عندما نزل نوح عليه السلام منالسفينه كان معه ثمانون شخصا سكنو قريه اسمها اليوم هشتا بالك...>>


استعملت العفو والتسامح في سياق انهما فعلان، والحال كما هو واضح انهما مصدران، والمقصود هو المتضمن اي الفعلين: عفا وتسامح...>>

بغرض التصدي للانقلاب، لنبحث في اتجاه اخر غير اتجاه المنقلب، ولنبدا بمسلمة وهي ان من تخلى عن مجد لم يستطع المحافظة عليه كالرجال، ليس له الحق ان يعامل ك...>>

مقال ممتاز...>>

برجاء السماح بإمكانية تحميل الكتب والمراجع...>>

جل الزعماء العرب صعدوا ،بطرق مختلفة ،تصب لصالح المخطط الانتربلوجي العسكري التوسعي الاستعماري،ساهموا في تبسيط هدم حضارة جيرانهم العربية او الاسلامية عم...>>

مقال ممتاز
لكن الاصح ان الوجود الفرنسي بتونس لم يكن استعمارا وانما احتلال، فرنسا هي التي روجت ان وجودها ببلداننا كان بهدف الاعمار والاخراج من ح...>>


الاولى : قبل تحديد مشكلة البحث، وذلك لتحديد مسار البحث المستقل عن البحوث الاخرى قبل البدء فيه .
الثانية : بعد تحديد مشكلة البحث وذلك لمعرفة الا...>>


بارك الله فيكم...>>

جانبك اصواب في ما قلت عن السيد أحمد البدوي .

اعلم أن اصوفية لا ينشدون الدنيا و ليس لهم فيها مطمع فلا تتبع المنكرين المنافقين من الوها...>>


تم ذكر ان المدخل الروحي ظهر في بداياته على يد شارلوت تويل عام ١٩٦٥ في امريكا
فضلا وتكرما احتاج تزويدي ب...>>


الدين في خدمة السياسة عوض ان يكون الامر العكس، السياسة في خدمة الدين...>>

يرجى التثبت في الأخطاء اللغوية وتصحيحها لكي لاينقص ذلك من قيمة المقال

مثل: نكتب: ليسوا أحرارا وليس: ليسوا أحرار
وغيرها ......>>


كبر في عيني مرشد الاخوان و صغر في عيني العسكر
اسال الله ان يهديك الى طريق الصواب
المنافقون في الدرك الاسفل من النار...>>


وقع تصميم الموقع وتطويره من قبل ف.م. سوفت تونس

المقالات التي تنشر في هذا الباب لا تعبر بالضرورة عن رأي صاحب موقع بوابتي, باستثناء تلك الممضاة من طرفه أومن طرف "بوابتي"

الكاتب المؤشر عليه بأنه من كتاب موقع بوابتي، هو كل من بعث إلينا مقاله مباشرة

سياسة الخصوصية
سياسة استعمال الكعكات / كوكيز