النظام والعصابة كيان واحد حين لا يتم الفصل بين الثروة الضخمة وبين الحكم
د.مصطفى سالم - العراق
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 4958
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
التطورات التي تعيشها عدد من دول العالم لا تبدو انها نجحت في إحداث نقلة في بنية الأنظمة العربية، بل جعلها تتبنى بقوة اسلوب العصابة في إدارة البلاد معززة ذلك بالحرب على الارهاب الذي هو ممارسة بشعة للدول أكثر منه من المنظمات.
ومنذ غزو العراق 2003 والاحتجاجات في تونس ومصر والتي فشلت ان تتحول الى ثورة، وانتقال ذلك الى سوريا واليمن، وبدء حرب الغاز وانابيبها تبنت معظم الانظمة اسلوب العصابة من قتل واختطاف واعتقال، والتصرف بالثروات حتى باتت الدول بالنسبة لها مجرد استثمار خاص.
والآن تقاد الانظمة – العصابة الى حرب ضد الارهاب الذي صنعته واشنطن، فيما يقتل الشعب العراقي منذ عام 2003 والسوري منذ اربع سنوات على يد حكومات وتنظيمات موالية لواشنطن وايران وهي شيعية في معظمها، بينما تم صناعة عصابة الحوثي الشيعية من اجل ترتيب جديد لليمن. في الوقت نفسه تبدو المشاريع لتقسيم الدول العربية الأهم تجد اسبابها للنجاح والعصابات الكردية هي جزء اخر في هذه المشاريع.
منذ تسعينات القرن الماضي كان الدراسات الأمريكية تشدد على ضرورة شطب دور العرب لصالح إسرائيل وإيران وتركيا، ويبد ذلك سهلا في دول انظمتها أتخذت موقفا ضعيفا امام الخارج سواء كان النظام قد صغر ليتحول إلى عصابة، أو العصابة تضخمت وصارت نظاما لأن الاساليب واحدة.
ولأن العصابة لا تقبل النقاش، لا يستطيع حتى مثقفي، او الحركات السياسية في هذه البلدان من السؤال عن معنى زج العباد ومقدرات وثروات البلاد في معركة الاستثمار الامريكي هذه دون وجود تهديد ارهابي سوى من واشنطن ودول الناتو ومن تتحالف معه في العراق وفلسطين وسوريا ولبنان (إيران والميلشيات الشيعية).
ان ظهور التيارات الاسلامية المتشددة في العراق كان بعد الاحتلال الامريكي 2003 ولم يكن نتجية لتراكم حركي في مجتمع تم تنصيب اتباع ايران على رأس حكمه في بغداد من قبل قوات الاحتلال، ويجد تنظيم الدولة في العراق وسوريا التأييد باعتباره منقذا من بطش حكومتي بغداد ودمشق ومن الميلشيات الشيعية والشبيحة. ولن يكون هناك تأييد لو لم يكن هناك مثل هذا البطش. وعندما يتعرض المرء للظلم لن يسأل عن هوية من ينقذه، ولن يدقق في تفكيره، لكن ذلك سيكون حتما لاحقا مع الحاجة لنظام تدار به البلاد وشؤون العباد.
الانظمة العربية لم تكن تطورا للقبيلة، بل إن اعتمادها على القبيلة كان أساسا لانها تمارس فعلا إدارة الأمور من خلال اسلوب العصابة، وكذلك في اعتمادها على العسكر والدين والاحزاب سواء كانت ملكية أو جمهورية.
وتوسع أدوات الحكم لا يعني أن الدولة قد تحققت، بل في التجربة العربية هو محاولة لتكريس العصابة كقائدة للدولة دون النظر الى شرعية الحكم التي لا تتوافق دوما مع العصابة، ودون النظر إن كانت الدولة في معظم الدول العربية دولة حقا.
عندما يرتفع مستوى البطش والقمع ويحتل الجهلة والانتهازيين المناصب الحكومية نتأكد ان الدولة لم تكن استكملت بناءها أو انها في طريق الانهيار.
والجدل لم يحسم إن كانت الشرعية ناتجة من خلال طريقة الوصول الى الحكم، أو من خلال المنتج الفعلي للحكم، فالشرعية التي تاتي من الانتخابات، أو من الوراثة او حتى البيعة لن تلغي الشرعية التي يحصل عليها الحكم من عدالته بغض النظر عن طريقة وصوله للسلطة.
وفي معظم الدول العربية لا يمكن السؤال عن شرعية الحكم فهي أصلا غير موجودة، والبرلمانات هزيلة بشكل يثير الاشمئزاز فيما يبقى الملك أو الرئيس ‘مقدسا’ بقدر بطشه.
و من خلال دساتيرالعالم يمكن الاستنتاج بأن الثورة ليست شرعية، لكن تحقيق العدالة أهم من كون الثورة غير شرعية، لكن وجود الدساتير أيضا لا يعني الشرعية لو كان المقياس هو العدالة التي تعني كيفية وصول من هو في الحكم إليه، وعادلة توزيع الثروة ، والقضاء العادل كنصوص واعضاء.
وكل ذلك ليس موجود عربيا، فالأنظمة لم تتطور في ممارسة للحكم، وأبقت اسلوب العصابة لتتعامل مع دورها على مساحة واسعة من الارض، وكأن هذه العصابة كيفت إدارتها لتكون نظاما، وتعامل معها المجتمع وفق ذلك، واستطاعت عبر ممارسات من قتل حتى الخيال لدى المواطن العربي هذا الخيال الذي قال عنه البرت اينشتاين (1879- 1955) انه أهم من كل الحقائق في العالم.
مثلا ، العصابة في العراق التي هي شيعية عقيدة وممارسة للحكم تم تكليف رئيس الحكومة فيها حيدر العبادي عام 2014م داخل السفارة الامريكية، وهو ما يجب فهمه على أن العصابة المحلية أضعف من البقاء دون ارتباط بالولايات المتحدة الامريكية (تدير علاقتها مع الدولة الضعيفة كعصابة كبيرة) التي وفق مقاييس الغرب هي دولة ديمقراطية، ومعنى ذلك ان كل الحروب التي شنت على العالم من قبل واشنطن كانت فعلا شعبيا وفق المقياس الغربي.
لم تنهض حركات تواجه فكرة العصابة لدى الأنظمة، وحتى على المستوى الديني ظهرت الحركات السلفية وقد تبنت مبدأ إن الأفراد يجب أن يفكروا بطريقتها، وأن يكون تفكيرهم متشابها.
فيما كان ذلك تجاهلا لحقائق الاختلاف التي قال عنها القران الكريم والذي تعامل معها الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم (571م / 53 ق هـ - 632 م / 11 هـ) وخليفته الثاني عمر بن الخطاب ( خلافته 634م / 13 هـ - 644م/ 23هـ ) حين بدأ فعلا خطوات بناء الدولة الاسلامية التي توسعت خارج جزيرة العرب.
وحتى التطور الذي زرعه الخليفة الفاروق لكيفية تعيين الخليفة والذي كان الحدث الأهم في اسلوب الحكم الإسلامي، من الوصية (التي جاءت به ثان خليفة للمسلمين) الى التعيين عن طريق الانتخاب ضمن نخبة من الصحابة لمن سيأتي بعده، لم تستطع كل الانظمة العربية الوراثية القبول بها، أو تطويرها، بل تم أحباطها منذ النهاية الدموية للخليفة الرابع علي بن أبي طالب ( خلافته 35هـ / 656 م - 40 هـ / 661 م ) الذي كان حكمه أكبر صراع في تحديد اولويات الخليفة: بقاءه في السلطة، او معاقبة قتلة الخليفة عثمان ( خلافته23 هـ / 644 م - 35 هـ / 656 ).
وعي الشعب والعصابة
مما لاشك فيه إن وعي الشعب له علاقة ببقاء العصابة في الحكم، فالوعي هو الخطوة الأولي للتغيير في اللحظة المواتية لذلك، ولكن مصادر اكتساب الشعب للوعي في الوطن العربي تحتاج هي اصلا للوعي.
لهذا يمكن تفسير انتخاب السياسي الكبير في السن والذي ينحدر من اصول مملوكية من سردينيا الباجي السبسي (1926- .. ) في تونس كتعبير عن رغبة الخارج الامبريالي والرجعي فيمن يحكم تونس، وانسجمت قوى المعارضة في ذلك لانها اصلا قوى ليست ثورية، ويقينا لا يمكن تحقيق تحولات ثورية في مجتمع قيادته غير ثورية. فهل كان الشعب التونسي على وعي عميق بكيفية مقاومة العصابة في الحكم؟ بمعنى إنه يريد تحولات على مراحل، أم ما حدث بعد الاحتجاجات التي أسقطت زين العابدين بن علي (في وقت تخلت المؤسسة العسكرية عنه) كان كفيلا بالتعايش مع النظام- العصابة دون السعي لتحقيق ‘دولة الدولة’، بعد ان كانت المرحلة الانتقالية فوضى تم اعدادها من العصابة وحلفاءها الخارجيين؟
إن الدولة كما يجب أن تكون حتى تتحقق يجب التحرر قبلها من نظام العصابة، ولا يمكن إنجازها بنفس الانظمة.
لم يجد المفكر المغربي العروي في الدولة الحالية شكل العصابة، لكنها ليست كما يجب ان تكون (مفهوم الدولة 1981). وقد يبدو ذلك دقيقا لو تم النظر للمسألة من خلال الدول وليس النظام. النظام في ظل التهديدات التي لاحقته خلال السنوات الاربع الاخيرة كانت كفيلة بتعريته، لنصل لحقيقة كون الدولة تدار من قبل النظام- العصابة في الوطن العربي وهي من نتعايش معها.
وبدون شك، إن دول اخرى استطاعت ان تحول النظام والدستور بما ينسجم مع أصحاب الثروة والنفوذ مع بقاء اسلوب العصابة في التخلص من الخصوم الذين يهددون مصالحها ونقوذها خارجيا كما في الولايات المتحدة الامريكية ، فيما بقى النظام عربيا كعصابة تخشى الفصل بين الثروة الضخمة وبين الحكم. خذ مثلا العلم لا يعتبر استثمارا عربيا مثل الفنادق والمطاعم والأسواق والمنتجات (التي عليها طلب) والتي أنتجت محليا في مصانع خاصة لأفراد الحكم والمحسوبين عليهم.
ومعظم الدول العربية لا تستطيع ان تفصل بين ثروات الملك أو الرئيس وثروات الدولة والامثلة كثيرة حد يبدو الاستثناء أشبه بالحلم.
لا يوجد تماسك لفكر العصابة في الوطن العربي لانه لا يوجد مشروع اصلا غير البقاء في الحكم، مع ان الجميع عليه الاعتراف بان الحداثة كما نفهمها (بشكل يتوافق مع طريقة تفكيرنا وحياتنا) تستوعب نموذج الانظمة - العصابة. وهذا ليس سابقة، أو فيه شيء من الغرابة لو تم النظر الى ما يقوم به المثقف كمهرج لدى الحكم.
كان هناك لمحات تريد الخروج من العصابة لم تنجح في تونس ومصر بسبب فشل الجماهير والنخب في معرفة معنى الثورة والفرق بينها وبين الاحتجاجات مع التاكيد على دور الامبريالية والرجعية في المساهمة في سحق التجربتين، لنعيد التذكير بمقولة الشابي ‘ومن يتهيب صعود الجبال يعش ابد الدهر بين الحفر’ وهنا مسؤولية الشعب.
الجماهير المصرية لم تستطع ان تخرج من بنية النظام-العصابة فعادت خائبة ومسحوقة للعسكر. وكذلك فعل الشعب التونسي وعاد لداخلية بن علي.
ومن الخطأ ان يعتقد البعض ان الخروج من نظام- العصابة الى نظام الدولة يتطلب فقط شهداء، أو احتجاجات وليس تحولات كبرى حتى في طريقة تفكير الشعب.
خلال تلك الفترة، كان من المثير اعتماد البعض أسلوب الرسائل الموجهة من اجل المطالبة بالاصلاح كما في السعودية والكثير منهم في السجون حاليا عقابا على هذه المطالبة.
العصابة استخدمت المثقف للترويج كما استخدمت الاعلام للدعاية لها وعلى خصومها، و لا يوجد انتقال للسطلة فيها الا وفق مقياس الوراثة، أو رجل التسوية حتى عبر الانتخابات ولبنان خير مثال لذلك وهو دولة العصابات الصغيرة التي تسمي نفسها قوى سياسية.
ومن الاخطاء الشائعة للحركات السياسية العربية المعارضة أنها تعاملت مع الانظمة العربية كانظمة حقيقة وليس كعصابات تضخمت لتقدم نفسها قائدا للدولة.
العصابة هي التي تقرر وتنفذ الحكم وما يحصل لدينا ان الشرطة والقضاء تحول لاداة لشرعنة العصابة ومعاقبة وملاحقة من يخرج عليها.
المجتمعات العربية ليست قادرة على مواجهة نظام العصابة دون أن تفرز القوى التي تعمل على إحداث التغيير والذي سيقضي على تبعية العصابة المحلية للدولة الداعمة لها والموجودة حاليا في البيت الابيض، ودون أن يكون مستقبلها أهم من خوفها.
الدولة اساسا حين نشأت لم تكن تعبيرا عن الشعب ومصالحه، بل عن مصالح فئة معينة منه وهي بذلك لم تتخلص من هيمنة الجهة المنتجة لها، لكنها في دول أخرى وسعت تحالفها ونظمت وجودها وأفرزت نظاما حديثا.
تبنت الانظمة العربية مبدا العصابة المعلنة وليس الخفية كما حدث في دول اخرى، لانها تدرك ان الرعب والقمع في الوطن العربي يحتاج دوما لمعرفة الجهة التي تقوم به لفرض ‘هيبة الدولة’ كما تدعي، وفي الحقيقة هو سحق لكل من يريد المشاركة في الحكم حتى بالنصيحة، ونجد ان السجون العربية مكتظة بالمعتقلين بتهمة الاساءة لهيبة الدولة.
بقاء النظام كعصابة هو الذي يبقينا دوما في دائرة الهزيمة امام الاخرين الاكثر تنظيما وتطوير للنظام. اذا كانت الدول الاكثر تقدما عززت من فكرة احترام الحقوق لبقاء القوى المهيمنة كنظام وكأحزاب ضمن خريطة الديمقراطية، فاننا حذفنا فكرة احترام الحقوق لدى المواطن العربي بسبب الخوف من الفصل بين الثروة الضخمة والحكم.
وحقيقة ما فعلته اوروبا انها سمحت لاصحاب الثروة بادارة الحكم بشكل غير مباشر عن طريق أحزاب وحكومات وجمعيات لكن الذي يحكم هم نفس الجماعة وان تبدل الاسم والانتماء الحزبي، وضمن انتخابات يبرز فيها الاكثر تحقيقا للمصالح، بينما الأنظمة العربية لا تريد الفصل بين ذلك، تريد الاحزاب هزيلة، والجمعيات خاضعة والمرشحين عملاء.
العصابة لم تغادر الدولة في مناطق العالم الضعيف بفاسديه، وبالتأكيد نحن نعيش مع اسوء العصابات التي لا تسمح لنا حتى ماذا يوجد من خيرات في اوطاننا، والحجم الذي يدير به السفير الامريكي مواقفنا ، ولعل وجود العصابة الشيعية في حكم العراق خير دليل على ان العصابة المحلية دوما تابعة لدولة تدير علاقتها مع الاضعف كعصابة خارجية اكبر.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: