ثقافة السطحية والمبالغات: نموذج إستعمال لفظ العلماء
فوزي مسعود - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 8028
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
أذكر أنني حينما كنت طالبا، أن أحد أساتذتي وهو من تخرجت على يديه أجيال من المهندسين بتونس وهو الدكتور حمادي الزنايدي، كان حينما تطرح عليه سؤالا لا يتسرع في الإجابة، حيث تتصور أنك تنطق بكلام لا داعي لرده، فإذا به يتتبعك في أقل التفاصيل حتى تطرح سؤالا بأدق ألفاظه، بحيث زرع لدي التفطن لأهمية دقة الألفاظ وقيمة الكلام ومدلولاته.
عكس الزنايدي، كان بعض الأساتذة الآخرين، حينما تطرح عليهم سؤالا، مهما كانت ألفاظه فضفاضة، يجيبك مفترضا معنى معينا لسؤالك من عنده.
من مظاهر ثقافة السطحية لدينا استعمالنا للألفاظ في غير مدلولاتها، ومن أمثلة ذلك استعمالنا للفظ "علماء" وإطلاقه على كل من أختص في مسائل الدين، فكل حافظ للقرآن أو مختص في علومه عالم، وكل من حفظ الأحاديث أو أختص في علومها عالم، وغيرها من الإستعمالات الفضفاضة المشابهة.
وهذا استعمال فاسد لا يجوز، فالعالم هو من أبدع في ميدان تخصصه بالإضافة، وليس كل من تخصص في علم، أي أن ما يقع هو أن لفظ عالم يستعمل مكان لفظ مختص، فعوض أن نقول مختصا في أمور الدين نقول عالما فقط، ونقصد به عالما في أمور الدين.
لو عممنا نفس هذا الخطأ في الاستعمال على باقي الاختصاصات، لأصبح كل مدرس لغة عربية مثلا عالما ولأصبح كل مدرس تاريخ أو رياضيات أو غيرها من الاختصاصات ممن يدرس بمعاهدنا الثانوية عالما، ولأصبحت معاهدنا تعج بالعلماء، ولو صح ذلك وأصبحنا مجتمعا ينبض بمئات الألاف من العلماء لكان حالنا غير الحال.
يمكن أن نعمم نفس الملاحظة بحيث تشمل اختصاصي إصلاح السيارات مثلا الذين سيصبحون علماء أيضا.
فثبت إذن أن عدم التدقيق في استعمال الألفاظ يقودنا للتسيب في تناولها، مما ينتهي بنا لخرق المدلولات الحقيقية الموضوعة للفظ، هذا الوضع الهجين يلزمنا بالرجوع للاستعمال الحقيقي لما وضع له اللفظ، وحتى لو كان استعمالا مجازيا فإن المجاز فيه تعقل، والمجاز غير التسيب والحشو الذي هو موضوعنا.
إذن فكلمة عالم لا يجب أن تطلق إلا على من أبدع في مجال تخصصه بحيث يكون قد أضاف إليه فرعا أو نظرية أو قعّد محتوياته، وكل ما من شأنه أن يطوره في أصله.
في العلوم الشرعية، يمكن أن نقول على من وضع قواعد علم أصول الفقه عالما، كما أن من وضع قواعد علوم القرآن عالم، وأن من أبدع في تفسير القرآن عالم (وليس كل من فسر القرآن) فالفخر الرازي عالم لأنه أضاف لعلم التفسير قاعدة اعتبار ارتباط السور ببعضها، كما انه أول من أدخل الترتيب المنهجي في مسائل التفسير (وهي القاعدة التي استعملها بكثافة في كتابه الفقهي المحصول في علم الأصول)، بينما تفاسير كتفسير ابن كثير وتفسير القرطبي وحتى تفسير ابن عاشور فهي مجرد تفاسير مختص في علم ما، مما لا يعطي لأصحابها وصف عالم.
و واضعو قواعد علم الحديث يعتبرون علماء وواضعو قواعد تصنيف الرجال فهم أيضا علماء، أما رواة الأحاديث فليسوا بعلماء.
في علم التاريخ، فإن ابن خلدون عالم لأنه وضع أسس علم الاجتماع، وحتى في التاريخ فقد كان تاريخه (الذي هو غير كتاب المقدمة) متميزا بمنهجه النقدي للوقائع، عكس كتب تاريخ كالبداية والنهاية لابن كثير أو تاريخ الطبري فهي كلها كتب سرد لوقائع فيها أحيانا أساطير، لا تخول لصاحبها حمل وصف العالم.
و في اللغة، فإن مؤسسي قواعد علمي النحو والصرف وكل من ساهم بإيجاد قواعد استعمالات اللغة العربية كالعروض وقواعد الرسم، علماء، أما من برع في استعمال اللغة وفروعها فقط فليس بعالم.
لو طبقنا هذا المفهوم للفظ العالم، فإننا لن نجد في واقعنا المعاصر أي عالم في المجال الشرعي أو نكاد، باستثناءات قليلة كمحمد باقر الصدر وإضافته المتميزة بنقده للمنطق الأرسطي وطرحه لنظرية معرفية جديدة وهي النظرية الذاتية، من بعد أن قدم نقدا علميا رياضيا (مبني على علم الاحتمالات الرياضي) لمختلف نظريات المعرفة، وهو ما أودعه في كتابه القيم: الأسس المنطقية للاستقراء.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: