أعتذر لفقهاء الشرع والوضع في آن. واسمح لنفسي بالتعبير الصريح دون قفازات. فلست منتسبا إلى أي حزب ولا نية لي في الترشح لأي خطة. ومن ثم فأنا غني عن النفاق الذي يحكم الكلام السياسي والحديث عن التوافق مع جماعة مبدؤهم أنهم لن يعرفوا من يريدون تجفيف منابعه حتى لو نزع جلده. لذلك فقد اخترت هذا الوصف للطائفة التي حكموها في مستقبل الثورة تحت مسمى الهيئة العليا بمعنى التسمية بالضد وكل ما تفرع عنها من هيئات مستقيلة من كل مسؤولية وطنية بدعوى الاستقلال. فهذه الطائفة نصبتها مؤخرة النظام لا طليعة الثورة فصارت تحل وتعقد بديلا من الشعب التونسي عامة ومن الثوار خاصة ولتتكلم باسم شرعية ديموقراطية مجرد وجودها وقيامها بهذا الدور نفسه نفي لمبدأ الديموقراطية المؤسس ببعديه من الأصل:
فأما البعد الأول من مبدأ الديموقراطية المؤسس فهو تجاوز الدغمائية المعرفية التي هم غارقون فيها "للعنكوش" والتسليم بأن الحقيقة العملية ليست من طبيعة الحقيقة العلمية بل هي من طبيعة الخيار الخلقي الذي يستند إلى الاجتهاد لا إلى العلم المطلق.
وأما البعد الثاني المترتب على البعد الأول فهو مبدأ يستند إلى مبدأ رياضي مفاده أن قانون الأعداد الكبرى أفضل الطرق لتجنب الخطأ في أخذ القرارات ومن ثم فرأي الجماعة يكون دائما أقرب إلى الصواب من رأي الأفراد في مجال الاجتهاد العملي.
فمن دون هذين الوجهين من أساس الحكم الديموقراطي لا معنى للديموقراطية ولا معنى خاصة لتأسيسها على أساس سليم شرطه أن يكون المؤسسون بمعنى الآباء المؤسسين من ذوي الشرعية فضلا عن الشكل القانوني. لكن من نصبوا أنفسهم للحل والعقد بديلا من الشعب- رغم كونهم في الحقيقة لا يحلون ولا يعقدون إذ هم توابع مرتين لكونهم توابع التوابع توابع حكومة الدهاليز التابعة لمن ولاها علينا بتمكينها من المال والإعلام والقوة والتعامل مع القوى الأجنبية التي تخطط لإفشال الثورة:لذلك فغاية سعيهم هي استعادة نظام أقرب ما يكون لما كان موجودا قبل الثورة نظام يجعل أهل الانحلال والعُقد يستمتعون بالإخلاد إلى الأرض ولو برهن مستقبل الأمة وجعلها تابعة تعيش على مد اليد والمعونات الأجنبية.
وقد حاولت أن أفهم طبيعة البرنامج السياسي التربوي والاقتصادي والثقافي الذي يقدمه أهل الانحلال والعُقد ويباهون بكونهم الوحيدين الممثلين للحداثة وحقوق الإنسان والمقاومين لكل ما يمت إلى الذات التي يتأففون من كل ما يمثلها من رموز سواء كانت لغوية أو تاريخية أو روحية فوجدته في الحقيقة لا يختلف في شيء عن برنامج الزين بن علي سندهم الوحيد في الداخل لأنهم كانوا سنده الوحيد في تزيين صورته في الخارج:
1-فهم سياسيا يكثرون من الكلام على الديموقراطية وحقوق الإنسان لكنهم عمليا يعتبرون الشعب مواشي يحلبونها ويتحكمون في مصيرها بما استبدوا به في إدارات الدولة على الترقيات والانتدابات والتعيينات.
2-وهم تربويا يبالغون في الكلام على التنوير والرشد لكنهم عمليا يحولون المؤسسات الجامعية والتعليمية إلى مراشي لمافية المرتشين بل هي صارت أسواقا تباع فيها الوظائف والشهادات فضلا عن الفساد الخلقي الذي أصبح المناخ العام في التعامل بين المربين والمربين.
3-وهم اقتصاديا لا يدعون إلا إلى الاقتصاد الهش للخدمات التابعة بالجوهر وربط نظام التعليم والتوجيه بها فلا يهدف إلا إلى تكوين نوادل المقاهي والبارات في سياحة "ثلاثة سوردي" لمتقاعدي أروبا.
4-أما ثقافيا فالهم الأول والأخير عندهم هو مسخ الثقافة الأهلية وتصور الإبداع مقصورا على صغير النفوس ولعل ذلك هو مصدر تسميتي لهذه الطائفة التي تريد أن تكون أهل حل وعقد للشعب وهي في الحقيقة أهل انحلال وعقد يشبعونها بكل من يقع تحت سلطانهم من بنات الشعب وأبنائه.
والفرق الوحيد بين النظام الذين يسعون إليه ونظام ابن علي الذي هزته الثورة هو تعويض مافية الأسرة المالكة بمافية الطائفة التي تدعي الحداثة والتي هي أشد وطأة على الشعب منها لأنها لا تكتفي بسلب المال بل هي تسعى إلى قتل الروح. وحتى لا أظلم أحدا منهم سأضرب مثالين دالين على الفرق الشاسع بين مافيتهم ومافية ابن علي رغم وجه الشبة بين المافيتين من حيث التبعية للمافية العالمية:
فأما المثال الأول فهو فرق كمي وأسلوبي تتصف به المناهج التي يتوخونها في الحالتين لنهب ثروات الشعب وطرقه. ذلك أن مافية ابن علي الأسرية هي الوجه الظاهر من استعباد الشعب التونسي إذ هي تنهب خزينة الدولة مباشرة وعلنا. وهي تفعل ذلك لأنها كانت تستبد بقوة الدولة المادية (الأجهزة ذات الهراوات كلها). أما مافية هذه الطائفة القائلة بتجفيف المنابع والاجتثاث فأصحابها يمثلون الوجه الباطن من استعباد الشعب إذ هم ينهبونها ثورة البلاد وأصل تراثها أعني روحانيتها بصورة ملتوية. وهم يفعلون لأنهم استبدوا بقوة الدولة الناعمة (الأجهزة التي بأيديهم هي الأجهزة الناعمة للإدارة التونسية وللتربية والثقافة والإعلام) : فعندما تكون مستشارا في ديوان إحدى الوزارات أو مديرا لأحد المعاهد أو مسؤولا عن مؤسسات إحدى الوزارات في الخارج (كأن تكون مدير دار تونس مثلا) فأنت تستطيع أن تستعمل كل السبل لنهب ثروة البلاد وإفساد تراثها بلا حسيب ولا رقيب ناهيك إذا أصبحت لك ميزانية ما يسمى ببرامج البحث العلمي أعني برامج السياحة المتبادلة مع شهود الزور من ضيوف هذه المراكز.
ويكفي مثالا لا يجهله أي أستاذ جامعي له ذرة من وعي وطني وضمير مهني هو صرف مقابل الساعات الزائدة في التعليم العالي أو السفر في المهمات الرسمية. فقد رأيت بأم عيني بعض والمديرين المستشارين يحصلون على مكافآت عشرات الساعاة الزائدة في كل شهر من مؤسستهم الأصلية (وربما ما يعادلها من مؤسسات أخرى) مع علم الجميع بأنهم لا يقومون حتى بواجبهم القانوني في مؤسساتهم الأصلية لفرط تفرغهم لمآربهم التحيلية في المجال السياسي والثقافي والإعلامي ناهيك عن حضورهم الدائم في كل المآدب والمنادب. وكل ذلك بتواطؤ من إدارة الكليات والجامعات والمصالح المالية في الوزارات.
وأما المثال الثاني فيتعلق بالفرق النوعي والخلقي في تبرير إستراتيجية الاستبداد والفساد. فابن علي لم يكن يعلن صراحة على الأقل في الظاهر عن عدائه لمقومي الهوية العربية الإسلامية بل هو يدعي الصلح مع الماضي والدفاع عنه حتى ذهب بعض مزيني نظامه ممن عرف أهلهم بالخط اليوسفي إلى أن التحول (بمعنى الحَوَل لا الاستحالة السياسية) عودة إلى الخط الإصلاحي المتقدم حتى على الحزب الدستوري الجديد. أما هم فبدعوى الحرص على المستقبل تراهم يباهون بالإعلان الصريح عن العداء الدفين لهذين المقومين باسم الحداثة الكاركاتورية التي يمثلونها: إذ لا أحد يجهل أنهم لا يمثلون إلا إيديولوجيا الحداثة التي صيروها حدَّاثة لأن جلهم من أقسام الآداب والآداب العربية خاصة ربما بسبب كون جل أساتذتهم تلامذة تابعين لفكر استشراقي لم يرثوا منه إلا النزعة المعادية لحضارتهم دون مزية مناهجه التي تقرب من المناهج العلمية.
أما الحداثة العلمية والفكرية والإبداعية فإنها قد صارت من نصيب من يتهمهم هؤلاء من أهل الانحلال والعُقد بالظلامية والماضوية والذين هم أولى بأن يسموا بأهل الحل والعقد الذين عليهم أن يقوموا بواجبهم فلا يتركوا المجال لهؤلاء الدجالين الذي يريدون تكوين ديموقراطية موزية تمكنهم من تأبيد التبعية التربوية والثقافية والاقتصادية والسياسية. وتكفي علامتان للتأكد مما نقول:
فعملية إحصاء بسيطة بين شباب الأمة تكشف أن جل طلبة العلوم والمهندسين والرياضيين وعلماء الاجتماع وحتى الفلاسفة ليسوا ممن ينتسب إلى هذه الطائفة من أهل الانحلال والعُقد.
ولعل الدليل المفهم هو أنهم في كل أقطار الوطن العربي حلفاء الضباط الأميين الذين حكموا الوطن العربي بالحديد والنار في حين أن جل زعماء الحركات الإسلامية المطاردين من الدكتاتوريات التي حالفوها أصبحوا خريجي الجامعات الأوروبية والأمريكية. وهم خريجون بحق وليسوا ممن حصل على شهادته بالتباكي ودعوى المعارضة كجل من عرفت من اليسار الفاسد ممن زاملوني في الدراسة خارج الوطن.
لكن هذا الفارق النوعي ليس إلا ظاهرا من الأمر لأن أهل الانحلال والعقد لم يمكنهم أحد من تحقيق بعض مآربهم إلا الدكتاتور الجاهل الذي صار في عرف بعض الدجالين صاحب ثورة هادئة بل ومؤسسا للثورات الخلقية كلها عند بعضهم الآخر: فبهم حكم ابن علي ومنهم انتخب جل المطبلين والمزمرين له في الداخل والخارج بل إن بعضهم ذهب إلى أن منطق السياسة الذي تعلمه من أمريكا وأروبا المتأمركة يقتضي بالجوهر النفاق والدجل والكذب حتى يصبح أهل الانحلال والعقد أهل حل وعقد.
والمؤسف أن الكثير من هؤلاء صاروا أهل حل وعقد في ثورة لا ناقة لهم فيها ولا جمل بعد أن ملأوا الشغور بأغلبية من النكرات سموها شخصيات وطنية وممثلي أحزاب ذرية تولدت بالتولد الطبيعي للمتآمرين على الثورة. هاهم يريدون أن يحكمونا بالشكلانية القانونية في حين أن وجودهم لا هو شرعي ولا هو قانوني بل هو اغتصاب واضح للثورية واستبداد بمستقبلها. هاهم يشوبون علمية الانتخاب من البداية بما يشوهونها به في كل الحالات لعلمهم أنهم خاسروها حتما مهما أمدوا في الآجل.
والخطأ ليس خطأهم والذنب ليس ذنبهم بل هو خطأ الأحزاب ذات الحضور الجماهيري في تونس وذنبها. والمعلوم أن هذه الأحزاب ذات الجماهيرية قلة لا تتعدى الخمسة: أي الحزب الدستوري الذي اضطهده ابن علي وحزب النهضة وحزب الجمهورية والحزب التقدمي وحزب التكتل وكل من عداهم جفاء. فهذه الاحزاب لا تزال خانعة بدعوى احترام اللعبة الديموقراطية رغم علمهم بأن حبات النرد مغشوشة من البداية وخوفا من أن تتهم برفض الديموقراطية الوفاقية:
فأي ديموقراطية وفاقية هذه التي يستبد بها من لا يمثل إلا القليل من نخب تونس ممن لو كونوا حزبا لما تجاوز عدد قاعدته ما يملا "زينة وعزيرة" لو اضطروا للانتقال في حملتهم الانتخابية بعد تجريدهم مما نهبوه خلال حلفهم مع ابن علي طيلة العقدين الأخيرين لا غير لأن بورقيبة كان أدرى الناس بهم وكان غنيا عن وساطتهم مع الغرب إذ هو كان أقرب إليه من حبل الوريد.
ثم أي معنى للشكليات القانونية أمام مصير البلاد ومستقبل الثورة في حين أن وجود المتشبثين بالشكليات القانونية لو احترموها لما وجدوا إذ إن كل ما هو حاصل الآن يخضع للاستثناء من الحياة القانونية العادية لأن الظرف غير عادي والهدف هو الخروج من عدم العادية في أقرب وقت للعودة إلى ما هو عادي بصورة أقرب ما يكون من الصور العادية.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: