كانت تونس لقرون طويلة حصنًا وتعبيرًا عن عز الإسلام وازدهار حضارته في أرضها عبر منارتيها جامع عقبة بالقيروان وجامع الزيتونة، وقد جعلها موقعها المتميز وتاريخها الإسلامي العريق قلعة لانطلاق فتوحاته في اتجاه أوروبا وإفريقيا.
وفي عصر الضعف والتراجع العربي والإسلامي، وفي إطار حملة الاستعمار الغربي على العالم العربي، ابتليت تونس بالاحتلال الفرنسي الغاشم الذي صمم على تهميش الإسلام ومؤسساته وزرع البديل الفرنسي عنهما، ولم تلبث تلك السياسة أن آتت أكلها إذ تخرج جيل تونسي الجلد فرنسي الهوى سرعان ما تمهد أمامه السبيل لفك زمام الحركة الوطنية من الأيدي الزيتونية المتوضئة، بعد أن نجح في خداع الناس بما أبداه من غيرة دينية مصطنعة.
وكان الحبيب بورقيبة رمزًا لهذا الجيل المتغرب المهزوم، فكانت أولى قرارات دولة الاستقلال برئاسته، الإقدام على ارتكاب ما لم تجرؤ عليه فرنسا نفسها من غلق جامع الزيتونة الشهير، ومصادرة القضاء الشرعي، وتأميم الأوقاف التي كانت تمثل ثلث الملكية في البلاد مخصصة لخدمة التعليم الإسلامي والنفع العام، وكذا الإجهاز على شرائع الإسلام الثابتة في الضمير التونسي والتي يتحاكم إليها الناس وتصيغ عقولهم ونفوسهم ووجدانهم.
تاريخ أسود:
ولد الحبيب بورقيبة بمدينة المنستير بالساحل التونسي عام 1903م، وحصل على شهادة البكالوريا شعبة الفلسفة عام 1924م، وانتقل بعدها للدراسة في باريس، وحصل هناك على الإجازة في الحقوق عام 1927م، وتزوج من زوجته الأولى الفرنسية "ماتيلد لوران"، التي كانت تكبره بعدة سنوات وأسلمت، وأنجب منها ابنه الوحيد الحبيب بورقيبة الابن.
مارس بورقيبة مهنة المحاماة والصحافة، وأصدر في تونس صحيفة "صوت التونسي" عام 1930م، ثم "العمل التونسي" عام 1932م، وانخرط في سنٍّ مبكرة في العمل السياسي ضمن نشاط الحزب الحر الدستوري التونسي الذي كان يعمل من أجل استقلال البلاد عن فرنسا، لكنه انقلب على القيادة القديمة للحزب التي كان يتولاها عبدالعزيز الثعالبي، وأنشأ الحزب الدستوري الجديد إثر مؤتمر عُقد بمدينة قصر هلال في 2 مارس 1934م، و في 3 سبتمبر 1934م قامت سلطات الاحتلال الفرنسي باعتقال بورقيبة لنشاطه النضالي، وأُبعد إلى أقصى الجنوب التونسي ولم يُفرج عنه إلا في مايو 1936م.
سافر بورقيبة إلى فرنسا للتخصص في القانون، مع العناية بعلم النفس والعلوم السياسية، وتلقى دروسًا في السوربون بشعبة المالية العامة.
افتتن بالسياسة؛ لهذا كان كثير التردد على الاجتماعات التي تنظمها الأحزاب الفرنسية، هذه النظرة لفرنسا القائمة على الإعجاب من جهة ورفض سياستها الاستعمارية، ستتحول عند بورقيبة إلى منهج في النضال السياسي يمكن تلخيصه في مقولة شهيرة له: "إخراج فرنسا من تونس عن طريق فرنسا"؛ أي مقاومتها انطلاقًا من مبادئ الثورة الفرنسية، ثم إقناعها بمنح تونس استقلالها لتكون صديقًا وحليفًا ونموذجًا يُحْتَذى به بعد قيام الدولة الوطنية.
ومُنحت تونس الاستقلال الداخلي عن فرنسا عام 1955، لكن صالح بن يوسف الكاتب العام للحزب الدستوري اعتبر ذلك استقلالاً منقوصًا، وهو ما أدَّى إلى حصول خلاف بينه وبين الحبيب بورقيبة أدَّى إلى طرد صالح بن يوسف من الحزب، ليصبح الحبيب بورقيبة أول رئيس لتونس في يوليو 1957م بعد أن ألغى الملكية، وقاد بلاده بنظام الحزب الواحد، واعتمد سنة 1968م النظام الاشتراكي، لكنَّه تراجع عنه في أكتوبر 1969م واتجه إلى الليبرالية.
كان بورقيبة خطيبًا مقنعًا، وكان شديد الإعجاب بالمسرح وخاصة يوسف وهبي، وشديد الافتتان بالشاعر العربي الشهير "أبو الطيب المتنبي"، إضافة إلى قدرته العجيبة على توليد حاسة البكاء، وكثرة الحركة، وحفظ الأمثال الشعبية؛ ومن ثم أصبح أكثر الخطباء السياسيين تأثيرًا وانفعالاً وشدًّا للاهتمام.
حرب متواصلة ضد الشريعة:
تجاوز بورقيبة الخطوط الحمراء عندما أمر التونسيين بعدم صيام شهر رمضان؛ بحجة أن التنمية الاقتصادية هي بمثابة "الجهاد الأكبر"، وبما أنه ولي أمرهم أفطر أمامهم في حركة استعراضية، وأحدث ذلك رَجَّة قوية في تونس وفي العالم الإسلامي؛ مما أفقده ثقة قطاعات واسعة من التونسيين، وجلب عليه تهمة الكفر والمروق من الدين.
كان بورقيبة شديد الإعجاب بأتاتورك، غير أنه أخذ عليه أنه صرح في الدستور التركي بالعلمانية، ورأى أن الأصوب أن يعلن الحاكم الإسلام في الدستور، ويلجأ في الواقع إلى تطبيق المنهج العلماني حتى لا يُتهم بمعاداة الدين ولا تنشأ حياة دينية بعيدة عن الدولة.
أصدر عام 1956م قانونًا يقضي بتحريم تعدد الزوجات، وقانونًا ثانيًا يحرم زواج الرجل من مطلقته التي طلقها ثلاثًا بعد طلاقها من زوج غيره، وثالثًا يبيح التبني الذي حرَّمه صريح القرآن، ثم ألغى المحاكم الشرعية، وأغلق الديوان الشرعي، ووحَّد القضاء التونسي وفق القوانين الفرنسية.
كما طعن بورقيبة في القرآن ووصمه بالتناقض، وأنه ملئ بالخرافات، ويقول في هذا: (إن في القرآن تناقضًا لم يعد يقبله العقل بين {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة: 52]، وآية: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11])، ونال أيضًا من شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال عنه: (إنه كان عربيًّا بسيطًا يسافر كثيرًا عبر الصحراء العربية، ويستمع إلى الخرافات والأساطير البسيطة السائدة في ذلك الوقت وينقلها إلى القرآن).
واتهم بورقيبة الشريعة بالنقص والخطأ في معاملة المرأة، وعزم على سنِّ قانون يسوِّي بين الذكور والإناث في الميراث، وفي هذا الإطار فقد ألغى القوامة للرجل في المنزل، وحرَّم اللباس الشرعي على المسلمات، بدعوى أنه لباس طائفي يرمز إلى مذهب متطرف هدام، وقام باعتقال مئات النساء المتدينات بتهمة ارتداء الحجاب، وقام بتعميم نوادي الرقص المختلط في المدن والقرى، وأطلق حملة لتصفية الكتب الإسلامية من الأسواق باعتبارها مصدر التطرف، وأجبر طالبات كلية الشريعة بجامعة الزيتونة الإسلامية على المشاركة في مسابقات للسباحة وهن يرتدين المايوه "البكيني"، كما قام بعمل مدن جامعية مختلطة لطلاب الجامعة التونسية؛ مما أدى لانتشار الفواحش الأخلاقية.
كما أنه الرئيس العربي والمسلم الوحيد الذي نزع الحجاب عن وجه امرأة أمام عدسات الكاميرات في 1960م عبر إزاحته "السفساري"، وهو الغطاء التقليدي الذي تضعه النساء على رءوسهن في تونس، وفي فترة لاحقة اعتمد قانونًا يشرع الإجهاض 1967م كما كان الحبيب بورقيبة هو أول الحكام العرب سعيًا إلى إقامة علاقات مع "إسرائيل" في الستينات من القرن الماضي.
فقيه يفضح الكفر ويواجهه:
دخل العلامة ابن باز في حرب مفتوحة مع هذه الجراءة على أركان الإسلام من قِبَل رئيس دولة إسلامية فأصدر كتابًا دحض فيه ضلالات بورقيبة، واتهاماته للقرآن الكريم بالتناقض والاشتمال على الخرافات، ووصفه للنبي عليه السلام بأنه إنسان بسيط يسافر كثيرًا في الصحراء ويستمع للخرافات السائدة التي نقلها إلى القرآن، وأن المسلمين ألهَّوا النبي صلى الله عليه وسلم، وانتهى الشيخ بعد دحضه لهذه الترهات بأدلة العقل والنقل إلى إصدار فتوى بردة بورقيبة وزندقته، وأرسل إليه داعيًا إياه إلى التوبة النصوح وإعلانها بطرق الإعلان الرسمية وتأكيد الاعتقاد الإسلامي الصحيح.
وتداول الشيخ رحمه الله الرأي في هذا الشأن مع عدد من كبار أهل العلم والفتيا، فأجمعوا على خطر هذه الافتراءات على الإسلام، وأن تصدر عن رئيس دولة إسلامية، فقرروا مراسلة بورقيبة جماعيًّا لدعوته إلى المبادرة بالتوبة مما نُسب إليه وإعلان عقيدته الصحيحة في الله سبحانه ورسوله عليه السلام وكتابه واليوم الآخر، وقد أمضى الرسالة إلى جانب ابن باز العلامة أبو الحسن الندوي والشيخ حسنين مخلوف وأبو بكر محمود جومي مفتي نيجيريا والدكتور محمود أمين المصري.
تلقى الشيخ ابن باز رحمه الله من طريق سفير تونس بالمملكة رسالة من ديوان بورقيبة كتبها الشاذلي القليبي يشكر الشيخ على نصحه ويذكره بكفاح بورقيبة من أجل الإسلام، وتضمن دستور تونس أن الإسلام دين الدولة، فاعتبر الشيخ أن ذلك لا يكفي وشدد في مطالبة بورقيبة بإعلان توبة رسمية صريحة، وأن في عدم إعلان ذلك دليلًا على وقوعه والإصرار عليه.
لم يكتف الشيخ رحمه الله بهذه المراسلات لبورقيبة داعيًا إياه إلى التوبة، بل بادر لما عرف منه المراوغة والإصرار فلا هو أنكر صدور تلك الضلالات عنه ولا هو رضي بالتوبة منها؛ بادر الشيخ بتأليف كتاب ضمنه تلك المراسلات ومناقشاته الداحضة لتلك الضلالات، ثم دفعه إلى الطباعة، وأُذن في نشره وتوزيعه على الحجاج مجانًا في عشرات آلاف من النسخ لتوعية المسلمين بخطر التطاول على حرمات الإسلام وتحصين الأمة من هذه الضلالات، وردع أصحابها ومحاصرتهم بسلطة الرأي العام.
لم يبال الشيخ بما يمكن أن يسببه ذلك من إحراجات، لاسيما والشيخ الذي يقود هذه الحملة يتبوأ في الدولة موقعًا رسميًّا وقتها: رئاسة الجامعة الإسلامية، ولكن الحق أحق أن يتبع، وإنما ساد الإسلام بمثل هذا الصنف من الرجال الذين نذروا حياتهم لله إحقاقًا للحق وإبطالًا للباطل.
عزل رحيل غير مأسوف عليه:
في أكتوبر 1987م عيَّن بورقيبة زين العابدين بن علي وزيرًا للداخلية، وفي 7 نوفمبر من نفس السنة عزل بن علي بورقيبة من منصبه لأسباب صحية، وتولَّى رئاسة البلاد، وظل بورقيبة طريح الفراش في منزله بمدينة المنستير مسقط رأسه حتى توفي في 6 أبريل عام 2000م عن عمر يناهز 97 عامًا، منهيًا بذلك قرنًا كاملاً من الجدل والغضب حول ما قام به من مواجهات مع الإسلاميين في تونس والقوانين التي سنَّها بما يتعارض مع الشريعة الإسلامية.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة:
أي رد لا يمثل إلا رأي قائله, ولا يلزم موقع بوابتي في شيئ
2-04-2009 / 09:21:28 ابو سمية
سيد علي، انت احسن مثال عن ضحايا عمليات الاقتلاع التي دشنها بورقيبة
لعله يكفي لكي يقع إثبات النتائج الكارثية لما زرعه بورقيبة وماسعى إليه من اقتلاع التونسيين من جذورهم وإلحاقهم بالغرب، الاستشهاد بك انت ذاتك سيد علي، حيث لا تستطيع كتابة مداخلتك باللغة العربية، والكلمتين التين كتبتهما بالاحرف العربية كانتا باللهجة الدارجة المحلية
وهذا ناتج اما عن عجز منك في القدرة على استعمال العربية، واما احتقار منك لهذه اللغة، وفي كلتا الحالتين، النتيجة واحدة، وهي انك ضحية لعملية الحاق بالغرب والتنكر لجذورك اللغوية والثقافية والتي اساسها الاسلام، وعليه فكلامك الذي تقوله حول الدفاع عن بورقيبة، لامعنى له، لانك اساسا ضحية تدافع عن واقعها الذي سيقت له، وليس لكلامك من كبير معنى في مثل هذه الحالات، لانك لست ضحية فقط، وانما ضحية متشبعة حدا متطرفا بالافكار التي استهدفت بها، وهذا مما يعني انه لا قدرة لك على التفكير الحر المستقل، وبالتالي لا معنى لكلامك الذي تقوله، ومثله واللغو سواء
2-04-2009 / 05:05:18 علي
لفين ماشين ؟؟
Comment osez vous remettre en question les pensées de Bourguiba, il est plus que évident que la théologie ne doit pas se meler de la politique. Bourguiba est un visionnaire qui ne pensait qu'au dévéloppement de son pays. Il a obtenu l'indépendence de son pays. Il l'a modernisé. c'est malheureux de lire votre article. citez moi un seul pays développé qui se proclame comme étant pays islamiste dans le fond bien sur. aucun !! preuve que la religion est une affaire personnel que la potique est une affaire d'interet général. Y'en a marre de vos pensées qui font rapeler de mauvais souvenirs en Tunisie (et en Algérie surtout !). Ne politisez pas l'Islam ! Gardez le pour vous! l'islam est une foie pas un parti politique. Bourguiba l'a su... je suis d'accord avec vous sur le fait qu'il n'étais pas le plus pieu des gens mais la aussi c'est une affaire personnel... ou vous voulez aussi lapider les mécréants ??Notre pays a plus besoin de vous dans d'autres domaines que celui des prédicateurs et des précheurs ... A bon entendeur
16-03-2009 / 13:07:45 نبيل
قال هي رصاصة في نعش الرجعية وأظنه عميد الكلية وليس الوزير
16-03-2009 / 08:18:06 من توس
طالبات جامعة الزيتونة بلباس المايوه للسباحة
للتصحيح، فان تشجيع طالبات جامعة الزيتونة على لبس المايوه اللمتعري لم يكن في عهد بورقيبة، وانما كان في العهد الجديد
وقال وزير الشؤون الدينية الحالي وهو الذي وقف وراء تلك المناسبة التي شاركت فيها طالبات من كليات تابعة لجامعة الزيتونة العريقة، حينما اطلق اشارة السباق، في ما معناه، اننا اليوم نعلن وفاة التطرف والتخلف
2-04-2009 / 09:21:28 ابو سمية