عام 2015، قال أستاذ القانون الدستوري، حينها، قيس سعيد: "الإرهاب إما أن يكون أقوى من الدولة وإما أنه من الدولة"، في تعليقه على تنامي العمليات الإرهابية التي ضربت تونس وعجز السلطات في بلاده عن حل لغز هذه العمليات التي أودت بحياة عشرات الجنود والأمنيين والمدنيين والأجانب.
سنة 2019، وصل أستاذ القانون الدستوري إلى كرسي الرئاسة بعد تصويت أغلبية الشعب التونسي له ضد منافسه رجل الأعمال نبيل القروي، ظنًا منهم أن سعيد سيفتح الملفات المغلقة ويحل الملفات الشائكة التي تحدث عنها قبل توليه الرئاسة.
مرت السنوات وأمسك الرئيس الجديد بزمام الأمور في البلاد وأحكم سيطرته على كل دواليب الدولة، لكن ملف الإرهاب لم يُفتح بعد، إلا خلال بعض المناسبات التي تعد على أصبع اليد الواحدة، وذلك لتسجيل بعض النقاط ضد خصومه السياسيين.
في الأثناء، نُشرت العديد من التقارير والتحقيقات على صلة بملف الإرهاب، أكدت أن جزءًا كبيرًا من الإرهاب في تونس، رعته جهات رسمية داخل الدولة بمساعدة دول أجنبية، لتحقيق أهدافها المناهضة للربيع العربي، وهو الأمر الذي أكده تحقيق نشرته قناة الجزيرة القطرية مساء أمس الجمعة.
تفاصيل إرباك الوضع في تونس
خلال السنوات التي أعقبت الإطاحة بنظام زين العابدين بن علي، عرفت تونس العديد من العمليات الإرهابية، التي راح ضحيتها أمنيين وعسكريين ومدنيين وسياح أجانب أيضًا، ما أربك الوضع في البلاد وأثقل خطوات الانتقال الديمقراطي.
أول عملية إرهابية بعد الثورة، كانت يوم 18 مايو/أيار 2011، في منطقة الروحية بمحافظة سليانة شمال غرب البلاد، وقد قُتل نتيجتها مقدم ورقيب من الجيش، وقتل كذلك مسلحان تونسيان، فيما جرح جندي ومواطن، وأُلقي القبض على مسلحين ليبيين حوكما بعد ذلك بالسجن لمدة بـ20 سنة.
من أبرز العمليات الإرهابية التي حصلت في تونس أيضًا، هجوم سوسة في 26 يونيو/حزيران 2015، عندما هاجم مسلح أحد الفنادق في شواطئ المنتجع السياحي مرسى القنطاوي، ما أسفر عن مقتل 38 سائحًا وجرح 39 آخرين أغلبهم من السياح.
نستذكر أيضًا، هجوم متحف باردو، حين اقتحم شخصان يوم 18 مارس/آذار 2015 أهم المتاحف التونسية (المتحف الوطني بباردو) في العاصمة، ما أسفر عن مقتل 22 شخصًا أغلبهم من السياح الأجانب، وجرح 45 آخرين، فيما قتلت القوات الخاصة المسلحين الاثنين داخل المتحف.
في 24 نوفمبر/تشرين الثاني من نفس السنة، قتل 12 فردًا من الأمن الرئاسي التونسي وذلك عندما فجر مسلح نفسه في الحافلة التي تقلهم وسط تونس العاصمة في شارع محمد الخامس، وعلى إثرها تم إعلان حالة الطوارئ في البلاد.
كما حاولت الجماعة الإرهابية المسلحة السيطرة على مدينة بنقردان الحدودية مع ليبيا، في مارس/آذار 2016، لكن محاولتها باءت بالفشل وتم قتل 46 مسلحًا، كما قتل 7 مدنيين و7 من الحرس الوطني و3 من الشرطة و2 من الجيش و1 من الديوانة (الجمارك)، فيما جرح 18 شخصًا من القوات الأمنية والعسكرية والمدنيين.
الهدف الأبرز من وراء هذه العمليات الإرهابية كان إرباك الوضع الأمني والاقتصادي والسياسي في تونس، ما من شأنه إعاقة الانتقال الديمقراطي في مهد الثورات العربية، فضرب استقرار البلاد له أن يضرب صورتها خارجيًا.
ورغم خطورة هذه العمليات الإرهابية التي شهدتها الساحة التونسية خلال العقد الأخير، فإن معظمها بقي غامضًا ولم يُعرف من يقف وراءها، وغالبًا ما يتم ربطها بتنظيم داعش الإرهابي وتُغلق القصة هناك، دون تقديم تفاصيل أكثر.
دور أجهزة الأمن في العبث بالمشهد التونسي
سبق أن أشارت العديد من الكتب والمقالات إلى دور غامض لبعض مؤسسات الدولة في إرباك الوضع العام بالبلاد، واستغلال أو لنقل "صنع" الإرهاب للقيام بذلك، واتهام أطراف سياسية معينة على رأسها حركة النهضة بالوقوف وراء ذلك.
الهدف وراء اتهام النهضة وحلفائها في الحكم بالوقوف وراء الإرهاب خاصة في الفترة بين 2011 و2014، تشويه صورة الحركة لدى الرأي العام المحلي والدولي والضغط عليها لعدم فتح الملفات الخطيرة والتسليم بالأمر الواقع.
تحقيق جديد أجرته قناة الجزيرة - يحمل عنوان "تونس.. الأيادي الخفية" - أكد هذا الأمر، إذ حصلت القناة على تسريبات ووثائق حصرية تميط اللثام عن شخصيات نافذة متورطة في تلك الأحداث، لكنها لم تخضع للحساب، وأبرزها عصام الدردوري.
في هذا التحقيق يقول المحامي التونسي سمير بن عمر - الذي سبق أن شغل منصب مستشار رئاسي في عهد الرئيس المنصف المرزوقي - إن الدردوري أسس الجمعية التونسية للأمن والمواطن، وتصدر من خلالها وسائل الإعلام.
وفق بن عمر، فإن الدردوري، هو إحدى الأدوات التي تستخدمها بعض الجهات لشيطنة المشهد السياسي وضرب بعض الجهات السياسية والأمنية، وقال إن هذا الرجل هو خنجر في قلب التجربة التونسية تم استعماله أسوأ استعمال من طرف الدولة العميقة لعرقلة مسار الثورة وتشويه المشهد السياسي.
تظهر التسريبات الصوتية والمصورة، جانبًا من الدور الخفي الذي يؤديه عصام الدردوري، مثل تسريبه معلومات أمنية حساسة، منها قائمة أسماء لعناصر سريين جندهم الأمن التونسي خارج الحدود، وهذه التسريبات تعزز التخابر مع جهات خارجية وتسريب معلومات أمنية سرية إلى الخارج.
كما أظهرت التسريبات الصوتية تواصل الدردوري مع شخص لبناني غامض يدعى محمد علي إسماعيل ويعمل لصالح النظام السوري، كما تمكن برنامج "ما خفي أعظم" من الحصول على عدد من الملفات والوثائق السرية الخاصة بالتحقيق في عمليات أمنية مسلحة وقعت في تونس، التي ورد اسم الدردوري في إحداها.
لم تتوقف التسريبات هنا، إذ أظهر بعضها تقدم الدردوري بشكوى ضد أحد المدعين العامين وهو حافظ العبيدي، واتهمه بالاعتداء على فتاة قاصر سنة 2016، فيما بعد تبين أن القاضي كان مسؤولًا مباشرًا عن التحقيق في عمليات أمنية عصفت بالبلاد بين عامي 2015 و2016، أهمها "المنيهلة" و"متحف باردو"، واعترفت الفتاة لاحقًا بأن الدردوري استغلها كعنصر اختراق، حسب قولها، واتهمته بالتحرش بها.
في أثناء التحقيق، أكد رئيس فرقة الأبحاث في الإدارة العامة للسجون سابقًا هيكل دخيل، الذي لجأ قبل سنوات إلى فرنسا، في شهادته أن المتورطين في عملية "المنيهلة" - التي وقعت في مايو/أيار 2016 - هم قيادات أمنية تابعة للحرس الوطني التونسي.
وكشف التحقيق قيام الأمن التونسي بتجنيد عناصر لاختراق الجماعات الإرهابية المسلحة، من بينهم عنصر تم تكليفه - كما يقول في حديث للجزيرة - بنقل الأموال والمسلحين المطلوبين بين ليبيا والجبال الحدودية التونسية.
إلى جانب ذلك، جند جهاز الحرس الوطني عنصرًا آخر لاختراق الجماعات المسلحة، وهي فتاة، مهمتها إيصال أموال إلى الجماعات المسلحة في الجبال على الحدود التونسية الجزائرية، لكن الأمن الجزائري اعتقلها.
عندما عرضت الفتاة على المحكمة في الجزائر فوجئ قاضي التحقيق بأنها تقول له إنها شخصية وطنية مكلفة من الأمن التونسي بهذه المهمة، وأعطاها فرصة للاتصال بالإدارة الأمنية في بلادها، لكن الأخيرة تخلت عنها وأنكرت معرفتها بها.
من الوقائع التي أثبتت تورط الأمن التونسي في بعض العمليات الإرهابية في البلاد، الهجوم الذي استهدف متحف باردو، ففي هذا الملف تحدث قاضي التحقيق حينها عن تحريف خطير للوقائع بانتزاع اعترافات تحت طائلة التعذيب.
وفي حديثه للبرنامج، رجح فيليب دوفول - محامي الدفاع عن ضحايا هجوم باردو - أن يكون الهجوم قد خططت له جهة خفية في الدولة التونسية حينها، وعبّر المحامي عن استغرابه لتعامل السلطات الفرنسية على رأسها الرئيسان هولاند وماكرون مع القضية.
كما كشف التحقيق عن دور مشبوه لوزير الداخلية الأسبق لطفي براهم، الذي سبق أن شغل منصب مدير الأمن، وبين كيفية قيام براهم القادم من الحرس الوطني بتحريك بعض العناصر الإرهابية في البلاد للعبث بالمشهد التونسي.
يُذكر أن رئيس الحكومة الأسبق يوسف الشاهد، أقال براهم على خلفية ما وصف بمحاولة انقلابية قادها الوزير في 2018، وقيامه بتحركات داخلية وخارجية دون التواصل مباشرة مع الحكومة في قصر القصبة.
فرنسا في قفص الاتهام
وجّهت أصابع الاتهام لدولة فرنسا، إذ عملت باريس طيلة السنوات الماضية على دعم الثورات المضادة في العديد من الدول على غرار ليبيا والجزائر واليمن ومصر، رغبة منها في إعادة إحياء نفوذها في المنطقة.
يعود سبب دعم باريس للثورة المضادة في تونس، عن طريق عملائها في الداخل، إلى رغبة الإليزيه في إبقاء الوضع كما كان عليه قبل يناير/كانون الثاني 2011، بما يضمن استمرار مصالحها ودوامها.
تحدث تحقيق الجزيرة عن دعم فرنسا - التي تتغنى بالديمقراطية وحقوق الإنسان داخليًا - الثورة المضادة في تونس، لكن ذلك لم يكن خافيًا على أحد، إذ عملت جاهدة طيلة سنوات عدة على تعطيل المسلسل الديمقراطي في مهد الثورات العربية.
أعاد تحقيق الجزيرة، ملف الأيادي الخفية التي تقف وراء أحداث أمنية كبرى شهدتها الساحة التونسية خلال العقد الأخير، إلى الواجهة مجددًا، لكن تبقى المحاسبة غائبة، خاصة أن هذه الأيادي هي المتحكمة في المشهد العام بالبلاد.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: