المولدي اليوسفي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 387
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
تبين العلوم الرياضية أن المعادلة تكون مستحيلة عند وجود خطأ في صياغة المشكلة أو في حالة عدم التوافق بين البيانات المقدمة. وقد تستحيل المعادلة عند استخدام غير صحيح للعمليات الرياضية عند حل المعادلة. وهذا ينطبق على حالة غزة وما يعرض لها في أحوالها. فالكيان الصهيوني صنعته قوى الاستعمار في أحوال معينة وحسب محددات واضحة في أحوال ضامنة لذلك. ففكرة إيجاد هذا الكيان تجسيد لاستراتيجية دولية تعود الى القرن التاسع عشر بل قبل ذلك بكثير لما كانت الدول الغربية تفكر في استرجاع بيت المقدس مولد المسيح 'البعد الديني" واسترجاع بيزنطة " البعد السياسي الثقافي". ولعله من المفيد لفهم القضايا الدولية التذكير بأن المحطات التاريخية لا تموت وان خف وهجها وقد تظلل عليها بعض المحطات الأخرى وبذلك لا يعقل الحديث عن تاريخ مجموعة بشرية دون الحديث عن عمرانها. فمحطات التاريخ والعلامات التاريخية هي العلامات العمرانية أي ما يحدثه الانسان أثناء وجوده الاجتماعي. فالتراث ليس فقط الموروث المادي من آثار مدنية أو ثقافية و إنما هو أساسا الدور الاجتماعي و الثقافي لذلك الموروث فهو أحد موجهي الفعل الإنساني ويكون بذلك أحد موجهي جهد الانسان. فانتماء الفرد للمجتمع يتمثل في ما يتجسد في سلوكه و مظهر حياته من ثقافة ذلك المجتمع. أو قل في خضوعه لثقافة المجتمع فمع نشوئه يتبنى الفرد لا شعوريا ثقافة المجتمع الذي ينشأ فيه وهكذا يتجسد لنا الجانب الجامد للتراث.
فالأحوال العمرانية التي تجسد فيها إيجاد وطن لليهود اتسمت بهيمنة قوى الاستعمار خاصة بعد نهاية حرب (1939- 1945) [تعرف بالحرب العالمية الثانية ولا افهم لماذا هذه التسمية] وهي الفترة التي فرضت أمريكا هيمنتها على أوروبا الغربية وبرزت زعيما للتوجه الليبيرالي الفارض للإمبريالية المتوشح بالدفاع عن حقوق الانسان وعن حق الشعوب في تقرير مصيرها. لكن كل ذلك يكون على حسب ما تريده تلك القوى. فمثلا يستقل الشعب المستعمَر بخروج جنود الدولة المستعمِرة له لكنه يبقى تحت توجيه تلك الدولة فتخطط له اقتصاده وتدير استغلال ثرواته المنجمية حسب ما تراه وكما تراه. ويستهلك ما توفره له. في مقابل ذلك كانت تلك الشعوب تقاسي من ثقافة الوهن والاستكانة مع وجود جذوات مقاومة سرعان ما يخفت وهجها مع تعامل النخب السياسية (كانت أغلبيتها من خريجي جامعات الاستعمار) مع الاستعمار الذي اقنعها أن مصلحتها الوطنية تكمن في التعامل معه خاصة بعد ما بينت له انها تسعى لتنميته بجعل مجتمعه يتشبه بمجتمعها وبذلك صارت تلك النخبة في صف الاستعمار الذي يوفر لها ما أغرت به مجتمعها من مظاهر تحسين الأحوال وهو في حقيقة الامر اعدادا لجعل المجتمع مستهلكا لمنتوج قوى الاستعمار كما تقنع قوى الهيمنة النخبة "الحاكمة" أنها تسهر على حمايتها من المعارضة الداخلية. وتسعى إلى جعل تلك المعارضة تلجا للقوى الديمقراطية وحامية حقوق الانسان والحريات العامة في مجتمع قوى الاستعمار. هكذا تتمكن القوى الاستعمارية من مكونات المجتمعات المستضعفة.
فكانت المعادلة بسيطة جدا "قوى مهيمنة توجه يقابلها مجتمع ضعيف يقبل مستكينا" ودأبت قوى الاستكبار على إدامة تلك الأحوال فتابعت حالة الشق المقابل مجهريا فكلما لاحظت بوادر تململ عالجتها بمزيد ضخ الخدمات التي تستقوي بها النخبة السياسية مبينة جدوى سياستها وما تدره من خيرات على الشعب وفي نفس الوقت تمارس كي وعي النتآت التي تسعى للتمرد دون القضاء عليها. وكان التخطيط للكيان الصهيوني جعله قوة مهيمنة على منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا وهي تسمية تعود لأيام قوة بريطانيا العظمى إلى أن كان مؤتمر مجموعة الثماني عام 2004 وقدمت إدارة بوش الأمريكية تعريفا يشمل كل الدول الإسلامية مع دول آسيا الوسطى والقوقاز وشمال إفريقيا. ونظرا لاتساع المنطقة كدست للكيان كل أنواع الأسلحة وسمح له دون غيره باكتساب السلاح النووي وضخت له الأموال بلا حساب وسمح له بالتوسع قدر ما يستطيع لذلك نراه يقضم جيرانه باستمرار وكلما استقر بأرض اعترف له بملكيتها.
جاء السابع من أكتوبر 2023 ليعدل المعادلة من ناحية فاعله الذي قرر أن يوقف حالة الاستكانة أمام المهيمن إلا أنه بقصد أو بدونه أوجد معادلة مستحيلة ففي علم الرياضيات يكون حل المعادلة بالبحث عن قيم وهي عبارة عن دوال كأن تكون أرقاما أو علامات أخرى دالة عن محددات تتحقق بها المعادلة. ففي الحالة السالفة الذكر تضع المعادلة "مهيمن" أمام "مستكين" يفهم المحلل محدد استمرارية الحالة وهذا فهم لحالة عمرانية لا قبول بها ولا تبرير لها. أما الآن فنحن أمام قوى مهيمنة يقابلها رافض لهذه الحالة وشرع في العمل على تغييرها. أربكت المفاجأة قوى الاستكبار فقد تعودت مهاجمة قطاع غزة على أن تكون هي المبادرة بالهجوم والمحددة لهدفه وهو عادة تقليم أظافر المقاومة ومنعها من تهديد الصهاينة. في حين في هذه المرة المقاومة هي التي بادرت بالهجوم وهي التي تدير المعركة إلى حد الآن ولا زالت تفرض شروطها وحرمت الصهاينة حتى من الاقتراب من تحقيق هدفهم. وهذا أمر مزعج لقوى الاستكبار فهي انفقت كثيرا لإيجاد الكيان الصهيوني ليكون قوة تخضع منطقة الشرق الوسط وشمال أفريقيا لقوى الاستكبار. وهي تعلم ان المقاومة الفلسطينية تعكس الطيف الرافض للخنوع في كامل المنطقة. صار الارتباك جليا في تصريحات القوى المهيمنة فهم يعلمون أن هيمنتهم على الشعوب علامة وجود لهم فباطنهم يلهج بـ" أنا مهيمن أنا موجود". لذلك يلح القادة الصهاينة على مواصلة الحرب ومضاعفة التدمير والقتل لان ذلك ما يحقق له وجودهم لن تفرح تلك القيادة باطلاق سراح الرهائن لو فعلته حماس من تلقاء نفسها ويسعدها ان تحررهم نافقين عن طريق عمل عسكري لذلك تردد ان اطلاق الرهائن المائة وواحد الذي تم اثناء الهدنة التي سرت لمدة أيام تم عن طريق الضغط العسكري. ولو تأملنا القوى التي تداعت لنصرة الصهاينة، ابان السابع من أكتوبر لوجدناهم بدون استثناء قوى استعمارية ترفض ان تكسب مستعمراتها العزة واستقلال القرار الوطني لذلك لن ترض هذه القوى بضعف الكيان فضلا عن هزيمته لأن ذلك يعني نهاية هيمنتها وهو اعلان نهايتها لذلك تريد أن تهيئ له أحوال "صفر تهديد"
لهذا قلت أن المعادلة مستحيلة فقوى الاستكبار تريد فرض استمرار هيمنتها والمقاومة ترفض استمرار هذه الحالة العمرانية. فالمسألة لا تتعلق بالكيان الصهيوني في حد ذاته فالقوى الاستعمارية تضحي بالكيان لو تجد من يلعب دوره. كما تعلم أن السماح بانتصار المقاومة يعني استقواء الطيف الرافض لهيمنتها في المنطقة خصوصا وقد تجسد أمامه جيش يدمي عدوه وهو ما كاد ييأس منه. أمام هذا الوضع قد تضطر قوى الاستكبار إلى توسيع الحرب على أمل أن تنتهي هذه الحرب بإعادة ترتيب هيمنتها. لأنها تعلم ان القبول بفك عقدة من نسيج الهيمنة تؤدي الى تفكيك النسيج كله. والمقاومة تعلم أنها إن تراجعت فهذا ضاعف فعل غطرسة الكيان الصهيوني بطرد الفلسطينيين خارج غزة وضمها والضفة وتواصل قضم الأراضي المجاورة له.
لكل ما ذكر سوف تؤدي الأحداث إلى تفجير المنطقة لتتكسر المعادلة وتوضع أخرى ببروز قوة تفرض هيمنتها أو تشكل قوى تتقاسم النفوذ ويوجدون توازنا يكونون فيه "أقتالا وأنظارا" على حد تعبير ابن خلدون.
-------------
المولدي اليوسفي
أستاذ محاضر علم اجتماع سياسي، الجامعة التونسية
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: