المولدي اليوسفي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 4583
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
اضطراب المشهد:
مع بداية سنة 2011 سجل المشهد السياسي تعابير تغيير تختلف من قطر لآخر اصطلح عليها بـ" الربيع العربي" الذي دفعت إليه قوى لم تتمكن من تصريفه لفائدة انجاز تغيير جذري و ذلك لعدة أسباب يطول شرحها. جسرت نقطة الضعف هذه لالتفاف اعوان المنظومة القديمة على المشروع و قتلت النطفة في البيضة. فالذين تصدوا للتعبير عن صوت قوى الاحتجاج لم تخول لذلك و لم تكن في مستوى المهمة.
نصنف هذه القوى إلى ثلاثة اطياف:
1/ اليسار بمختلف تعبيراته و هو الاضعف نظرا لعجزه عن اختراق صد الوعي الجماعي له لما وسم به من الحاد، وبقطع النظر عن صدق او بطلان هذه السمة فقد ترسخت لدى الرأي العام أو على الاقل عند أغلبه و ذلك بفعل ما روجه عنه النظام و خصومه السياسيين و اخطاء بعض رموزه المعادين للروح الجماعي المتسم بالدين. و زاد ضعف اليسار تشرذم مكوناته فقد كان يفرق تعابيره أكثر مما يجمعها، خاصة في تونس حيث عرف عن بعضه انه تعامل مع نظام بن علي في ضربه للإسلاميين.
2/ القوميون يعاني هذا الطيف من متاعب احتكاكه بالطيف الاسلامي فهو يغبط الاسلاميين على احتضان الشارع العربي لهم و يرى نفسه اولى بذلك و بقي مرتبكا بين الاقتراب و الابتعاد من الطيف الاسلامي. و هذه مسألة معقدة جدا ليس هذا مجال تحليلها. لكن هذه الحالة جعلته يتعثر و يتلعثم ففاتته الفرصة دون ان يستفيد منها أو يؤثر فيها.
3/ الاسلاميون، هذا التيار و خاصة طيف الاخوان المسلمين كان الاكثر بروزا و الاكثر اندفاعا للتصدي للتعبير عن صوت قوى الاحتجاج و تم ذلك في لحظة اضطراب كلي و رؤية ضبابية. فلا الشارع خولهم لذلك و لا الاطياف السياسية اتفقت على تقديمهم لكن رصيدهم النضالي متعهم بأكبر رأسمال سياسي و هو ما جعلهم لا ينتبهون لقصورهم. لقد جعلهم احتضان الشارع لهم يتوهمون احتضان البلاد لهم و هذا ضعف في الرؤيا و قراءة الواقع و تفكيكه. و كان ان سكت الخصوم السياسيون على بروزهم و ذلك، لدى البعض، اعترافا بأحقيتهم في تسيير الشأن العام لما دفعوا و تحملوا اثناء فترة الاستبداد، و توريطا لهم عند خصومهم ذوي الدراية بتصريف الشأن السياسي. كما ان هذا الطيف لم يتبع نفس المنهج في كل الاقطار ففي مصر و تونس يتفقان في الفوز في الانتخابات، و هو فوز ورطهم اكثر من كونه خدمهم، و لكنهم لم يتبعوا نفس المسار رغم وحدة الهدف. ففي مصر تمسكوا بالشرعية الانتخابية و تصدروا المشهد السياسي و هو ما يرفضه نسبيا الواقع السياسي الاقليمي و كليا الواقع السياسي الدولي. ربما لم يكن الموقف على نفس الدرجة في كل العواصم الغربية و لكن عموما كان الموقف سلبيا من تسلم الاخوان المسلمين السلطة و لعدة اسباب أهمها ان الغرب لا يزال يرفض عودة الحياة في الحضارة الاسلامية لنظرته لهذه المسألة من منطلق "صراع الحضارات" و هذه قضية فكرية ثقافية حضارية الا ان الجناح المتطرف في الغرب سرعان ما يتجه لحسمها بالمدفع. و هذا ما وقع في مصر مع تمسك الاخوان بالشرعية الشعبية و حسمها الغرب بلغة الاستعمار. أما في تونس فقد حسمت قيادة النهضة أمرها منذ البداية فلم تتصدر للسلطة منفردة و انما تزعمت إئتلافا شركت بموجبه معها حزبين في السلطة و اتبعت تمشيا يعتمد مغازلة الناخبين و اسماعهم ما يتمنون و ممارسة السياسية بالتنسيق مع العواصم الغربية ممثلة في سفرائها و كانت النتيجة الرضوخ لضغوطات الاقليمي، الجزائر خاصة، الذي بين لقيادة الحركة انه لا يرغب فيها في السلطة و هو أمر تعيه قيادة الحركة جيدا و خيرت الرضوخ على المواجهة وذلك، في ما رأت، انقاذا لوجودها و تجنبا لمتاعب قواعدها ( و لأسباب اخرى داخلية بحتة)
الجرح النازف أم الضميدة المسمومة:
في الحالتين، المصرية و التونسية، خرج الاخوان من السلطة مع الفارق: ففي مصر اخرجوا من السلطة بانقلاب عسكري فتحالفوا مع الشعب و دفعوا الضريبة مالا و دما باختيارهم العض على الجرح النازف لكنهم، و بكل وعي، ضربوا موعدا مع التاريخ اذ يجمع جل المحللين ان الانقلاب في مصر إلى فشل. خيرت قيادة النهضة، في تونس، منهجا آخر تقربوا بموجبه من المنظومة القديمة إلى ما يقارب التماهي و للقيادة عذرها اذ راهنت على تجنب مواجهة تسبب آلاما لقواعدها التي لم يلتئم جرحها بعد. لكنها بذلك، دون قصد منها ضربت تحالفا مع المنظومة القديمة. هذا الوجه الثاني من الواقع يظهر النهضة بلا دور للتغيير اذ بمهادنة المنظومة القديمة التي تحركت القوى ضدها و هو ما أدى إلى هروب رأس السلطة. هذا الوضع جعل الكثير يتساءل عن حقيقة الدور الذي تلعبه النهضة. و خلاصته انها فقدت مصداقيتها و شرعيتها الشعبية.
ثم كانت حرب غزة، أكبر حماقة ارتكبها الكيان الصهيوني منذ وجوده، فولدت انجازات المقاومة، لدى الرأي العام العربي، روحا معنوية جديدة تبشر بعودة العرب لدورهم الحضاري في التاريخ البشري. قسم انجاز المقاومة الساسة عربيا و اقليميا إلى مؤمن بإنجاز المقاومة و مستعدا لما يترتب عليه من عودة العرب لدورهم التاريخي و أكثرية معتبرة ان ما نراه لا يتعدى ان يكون زوبعة سرعان ما تهدأ و تعود الاوضاع لما كانت عليه و هذه الاغلبية تربت منذ 1948 على انتصارات الصهيونية و حلفائها الذين لم يدخروا جهدا في اقناع الحكام العرب ان ليس لهم الا ان "التعايش" مع الكيان الصهيوني ثم تدريجيا ينحدرون تحته. و تأكد لدى قادة الكيان الصهيوني ان لا تواجد لهم دون هيمنة على المنطقة و اذلال حكامها حتى يصبحوا بمثابة الغفير لديهم. طبعا يسوق هذا باسم التحالف ضد الارهاب و التعاون من اجل " التنمية" في المنطقة.
هذا الوضع الجديد لا يصب في مصلحة جهة سوى المقاومة و من اعصوصب معها فالحكام العرب و بحكم ما ثقفوه و صار ثقافة لهم لا يستطيعون ان يستسيغوا "وضعية علو" على الكيان الصهيوني و ينطبق هذا على منظمة التحرير التي تربت على الاستجداء منذ خطاب ياسر عرفات في الامم المتحدة يوم 13/10/1974 و طلب من المنتظم الدولي ان لا يسقط من يده غصن الزيتون فكان له ذلك.
و أكبر متضرر هو طبعا الكيان الصهيوني الذي يجد نفسه في مربع الانطلاق خاصة امام عجز من عول عليهم من الحكام العرب و من قادة منظمة التحرير من الوقوف علنا إلى جانبه و هو ايضا ضحية ثقافته اذ تعود ان يقتل و يدمر دون ان يعاقب و دون ان ترد عليه ضحيته، اذا استثنينا حرب لبنان سنة 2006، خاصة بعد اطمئنانه لمواقف ثلة من الحكام العرب. و فجأة يجد نفسه امام ضحية تعضه و تؤلمه و تذيقه ما تذوق و هذا هو توازن الرعب الذي حققته المقاومة.
الحال المهدد:
إلا ان هذا الجديد مهدد تماما كالربيع العربي فغياب قوة سياسية تستثمر الفعل الجماهيري في الشارع العربي و انجاز المقاومة يؤدى إلى استئساد قوى المنظومة السابقة فترفض العودة إلى ما كان عليه الوضع السياسي قبل التحرك الجماهيري. فالانتصار العسكري و تحقيق توازن الرعب في حاجة لقيادة سياسية تستثمره. و قيادة المقاومة لا زالت تراعي الاحوال الاقليمية و ميزان القوى الدولية و ما تقبل به فتخلت عن قيادة المفاوضات لفائدة منظمة التحرير و هي جهاز سياسي ملوث بشكل كلي بما تعود من الاكتفاء بالقبول به و الاستجابة للاملاآت و بذلك تعود التحرك في ظل السفارات و ذل الرضوخ فتعود التراجع امام الضغوطات و تبرير الاكراهات التي مورست عليه من طرف قوى الاستكبار حتى حاد عن دوره كقائد لحركة تحرر إلى مبرر للرضوخ و القبول بالاسوء. بل يصبح بوابة اذلال للمناضلين ( لا ننسى موقف محمود عباس اثناء حرب غزة 2009).
هكذا يكون الجديد بين منهجي الشارع المصري، بمختلف اطيافه، الضارب موعدا مع التاريخ و محققا على قدر ما يقدر و منهج النهضة في تونس. الاول يعول على مقدورات الشعب و يتمترس معه و الثاني يعول على التفاهم مع القوى الدولية.
------------- المولدي اليوسفي
استاذ علم اجتماع، الجامعة التونسية
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: