المنسوجة التقليدية بين الأصالة وجماليات الإبداع الفني
قراءة لتجارب فنية تونسية في فن النسيج
عواطف منصور - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 14351
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
لم يعد التراث مجرّد تخم حضاري وثقافي ننظر إليه لنمجّده، بل يمكننا توليد الجديد منه وإثارته واستثارته وخلطه بقيم الحداثة ليواكب كلّ العصور ويتماشى مع التطوّرات والتغيّرات. فالموروث مازال وسيزال يحمل في طيّاته رموزا حيّة متجدّدة لترسم في خفاء جذور الإنسان بما يحمل من عادات وتقاليد غنيّة لها من التأثير المباشر ما يجعل الفنان غير قادر على التخلّي عنها مهما إدّعى. وليكون أيضا قاعدة الانطلاق نحو العالميّة. وقد يؤكّد محمّد محسن الزارعي هذا الرأي بقوله: "لا مكان لجمود التقاليد الفنيّة وربطها بسياسة عرقيّة متعصّبة. فالهويّة رمز للاستمراريّة ولانطلاق للمتقبّل وعلامة اعتزاز وفخر بموروث ينبغي أن يتجدّد ويقدّم كثافة إنسانيّة. يرى من خلال احترام الثقافات الأخرى وقبولها".
وبالنظر في جملة من التجارب الفنية في النسيج الفني التونسي سنلاحظ حتما هذا التطور الذي وإن نهج بالمنسوجة نحو عالم من المفاهيم التشكيلية والفنية الجمالية، فانه لم يبتعد بها عن الهوية التونسية بل هناك رجوع وأصالة في كل تجربة من التجارب التي سنتناولها، كما أنّه لكلّ تجربة قيمتها وتأصّلها حتى إن الجانب الحرفي يحتل مكانا كبيرا فيها فلا يكاد يخلو عمل من التقنية التقليدية وإن حدا عنها في بعض الأحيان ونبدأ بتجربة الفنان الحرفي "حميدة وهادة باعتباره أوّل من نهج هذا الطريق وكذلك كل من الفنان "نجا المهداوي"، "عمر كريم"، "فدوى دقدوق":
حميدة وهادة، المنسوجة بين الوظيفيّة والإبداع:
لم يفتأ المنسوج التقليدي عن التطور والتجدّد فهو مصدر للإلهام وباعث للانفتاح والابتكار ولكل جهة من جهات البلاد التونسية مناخها الدافع لإنتاج ما يميزها. فالجنوب التونسي يستحوذ على جانب كبير وهام من المنتوجات الوظيفية ذات الجودة الراقية والتي كانت سببا ومحفّزا لجملة من الفنانين الذين جادت علينا قريحتهم بمنسوجات حائطية تستجيب للمعاصرة والأصالة وتقييم تراثنا الحضاري على أفضل الوجوه نتيجة فهم معطياته لا طمسها أو إفراغها من قيمتها فتسنى لهؤلاء الفنانين استخلاص تركيبة تفاعلت عناصرها فيما بينها. ولعل القصد من ذلك تنمية معارفنا وربطها بتجارب الماضي لتترسّخ هويتنا ويتنزل تراثنا منزلته من التراث العالمي مثل الحرفي والفنان "حميدة وهادة"،.
هكذا أبدع "وهادة" معلقاته الخائطية ممّا ترصّده من بيئته ومحيطه وممّا ترسب قي مخيلته وذاكرته من مادّة إبداعية مبتكرة من تقاليد مدينته وعاداتها التي ألهمته ففجّرت فيه مكنونات رسمتها يده الناسجة وألبستها حلة الفن التشكيلي لتخلصها من معانقة الأرض التي خلناها معانقة أبدية إلى الاتحاد مع الفضاء ومتحررة من كل القيود التي كانت تكبلها فأصبحت تعبيرا فنيا راقيا. كما تخلصت من الشكل المستطيل الذي يستجيب لمتطلبات البيت التقليدي الذي يذهب بالطول لتتخذ أشكالا بحجم المربع أي يكتسي الكثافة الضرورية.
كما أسهم أيضا في خلق تصورات ورؤى تشكيلية من التراث الشعبي وطرح عبر ذلك العديد من القضايا الفنية والإبداعية محدّدا بذلك أفق العلاقات حول أهمّ الأعمال الفنية والثقافية في هذا التراث، وهو ما ساهم في استحداث صياغات تشكيلية جديدة لفن النسيج يتناول من خلالها الفنان التشكيلي استخدام الخامات والتقنيات والأشكال في تشكيلات تكون بمثابة الانطلاقة الفكرية الثانية للصياغات المبتكرة والتي تفسح فرصاً للإبداع الفكري والفني لتكوينات جديدة للنسيج خارج حدود الإطار المغلق وإحداث تغيرات في شكل المنسوجة والقيم الفنية وكذلك التنوع في الأداء التقني بما يتناسب وبناء العمل النسجي.
وبعد أن بقي "وهادة زمنا يمارس النسيج الحرفي وثابتا على أصوله ومبادئه المنعية تحوّل ليمارسه كفن وانتقل به إلى الرسم شأنه في ذلك شأن جملة من التشكيليين، ولم يبقى سجين الحرفة، وانتقل إلى مرحلة الفن التشكيلي لينتقل بالتالي إلى مرحلة الرسم بالخيوط الصوفية، ولعله ما فتح الباب أمام جملة من الفنانين التشكيلين من بعده للدخول في عالم النسيج وإخراجه من بوتقة الحرفة نحو مفاهيم تشكيلية جديدة على غرار صفية فرحات ومحمد نجاح وصولا إلى الجيل الجديد من الفنانين أمثال صفية فرحات، محمد مطيمط، نجا المهداوي، عمر كريم، فدوى دقدوق وزهور الزردي...
صفية فرحات والمنسوجة المرسومة:
يتبادر إلى أذهاننا إذا ما ذكرنا "النسيج الحائطي" حتما الفنانة "صفية فرحات" التي تعدّ من أبرز الفنانين في تونس وكانت من الأوائل منذ الخمسينات من القرن العشرين التي تمكنت من تعميق ارتباطها الفني بالبيئة الجميلة والتقليدية بتونس." و يذكر أنّ تاريخ المنسوجات الحائطية الفنية يعود إلى خمسينات القرن الماضي وذلك من خلال أعمال الفنانة التشكيلية "صفية فرحات" التي أضفت على منسوجاتها صبغة جمالية إلى جانب استلهامها من المنسوج الكلاسيكي المحلي سواء من حيث التقنية أو المواد.
غير أنها في فترة السبعينات قد فرضت أسلوبا جديدا يعود إلى استقائها من الفنون الغربية والمعاصرة. فطوّرت منسوجاتها، لتكتسي هذه الأخيرة صبغة الحداثة والمعاصرة. وبالرغم من تعدد تجاربها سواء في فن "لرسم الزيتي، والتصوير على البلور والخوف والتصميم..." والتي كانت نتيجة لثقافتها المتنوعة والمنبثقة عن التراث الذي مزجته بتمخّضات الفن العالمي الحديث وطرح في أعماله وخاصة النسيج الفني إشكالية التراث والحداثة. وقد انطلقت في إبداعاتها المنسوجة من السجاد التقليدي، فأخرجته من بوتقة الوظيفيّة والاستعمال إلى ميدان الفن التشكيلي.
والبيّن في أعمالها أن يلاحظ أن تعاملها مع النسيج التقليدي لم يكن بأسلوب الإعادة أو التكرار كما هو شان "حميدة وهادة"، إنما هو تقنية فنية بحد ذاتها تطبق فيه الفنانة كل ما استقته و نهلته من الساحة الفنية العالمية و توظف فيه كل ما اكتشفته على الخيط و المردن. فالتراث يدفع و "يحرض على الإبداع، فان نوظف التراث هو أن نعمل على تفعيله من جديد و نواصل سيلان المخيال الجماعي. بهذا الشكل يمكن لعلاقة الإبداع بالتراث أن تكون علاقة كون و صيرورة و استحالة دائمة من طور إلى آخر." وهي على غرار "محمد مطيمط"، لم تبتعد بأعمالها عن الصور المستعملة في المنتوج التقليدي الذي أصبح يزاحم المنسوجات الغربية، وذلك عبر نقل الرسوم المتوارثة من الزربية والمفروشات التقليدية الأخرى ما جعل الفنانين يتوصّلون إلى نوعيّة جديدة من المنسوجات الفنيّة والتي لا تنفى عنها الصبغة التقليدية ولا سيما المستلهمة عن المنسوجات التقليديّة لمدينة قفصة على غرار الأشكال الهندسية.
محمد مطيمط يراوح بين الأصالة والتجريد:
يعتبر محمد مطيمط أوّل فنان تشكيلي تونسي يتخصص في النسيج الحائطي إثر تربّصه في فترة الستينات مع نساء قفصيات (نسبة إلى مدينة قفصة) عن طريق "السداية"، ليضفى على هذه "الصنعة" تقنيات تشكيلية متميزة، وهو مؤسس مجموعة ال70ن (إحالة على فترة السبعينات التي كانت تضم في عضويتها البكري والفهرى ومرزوق وشلتوت،هذه المجموعة ثارت آنذاك على مدرسة تونس القديمة التي مثلها القرجي والتركي... وقد ساهمت هذه المجموعة في تطوير الفن التشكيلي في تونس وتوسيع رقعته وانفتحت على المدن الداخلية للبلاد وأدخلت مضامين وأساليب جديدة في الرسم تعدّت مجرد رسم المدينة العتيقة وقوالب الفن المسندي ومظاهر الفلكلور. )
أدخل "مطيمط" التجريد متحكّما بذلك في الألوان أثناء عمليّة المزج من جهة أوعند صبغ المواد الصوفية من جهة أخرى أثناء عمليّة النسيج. والأمر نفسه عند بناء المشهد المتعدّد الشخوص والحركات، ومختلف مكونات الحكاية على الزربية. والمتأمل في منسوجات "مطيمط" لا يستطيع التفريق بين الزربية واللوحة الزيتية فكلاهما منجز بتقنيات دقيقة كما يتمّ توزيع الألوان فيهما بعناية ودقّة تجعلان من المنسوجة عملا فنيا و تشكيليا رائعا. وما يمكننا الإقرار به في هذا السياق هو أنّ "مطيمط"، قد سار على خطى المدرسة الفرنسية، ولكن بتقنيات "الكليم القفصي"، حيث يسيطر الطابع الانطباعي على أغلب تناولاته الأخرى، ولكن بتقنيات محليّة تونسية كيف لا وهو القائل:ف ،"الفن هو المعالجة الواعية لوسيط من أجل تحقيق هدف"، فهو الذي استخدم بتقنية عالية وسائط عديدة لتحقيق أهداف حضارية واجتماعية وجمالية.
والمتأمل في منسوجات مطيمط لا يستطيع أن يفرق بين اللوحة المنسوجة واللوحة الزيتية، فكلاهما منجز بتقنيات دقيقة، أين يتمّ توزيع الألوان فيهما بعناية وأناقة تجعلان من العمل الفني أعمالا متحفية بامتياز. واهتمام مطيمط بالزريبة ليس سوى استجابة لنداء الأعماق والتراث والحضارة ومكوّنات الشخصية، سواء الساكنة فيه أو المحيطة به. وهو إذ ينسج السدا وينسّق الألوان، إنما يعايش حالات تنبض في شرايين موطنه: الألوان الحارة المتميزة والأسماك والأطيار وصفاء الأفق وغيرها. وهو ما يجعلنا نحتفي مع منسوجاته بتجربة ثرية تبدع الكيان وتؤصّل الوعي وتدفع بالكائن إلى معانقة المثل العليا في مستوى الأعمال الزيتية (أنظر الصورة عدد1). وتتميز أعماله بالبساطة التي ينجز من خلالها المشاهد الساحرة الجميلة المتقنة فنيا، وهو إذ يجسّد البعد العميق للوحة فهو يرسم بالأصواف الطبيعية والملونة خصوصيات الحالة التي تنتابه ليصبغ بوهجها فضاء المنسوجة، فيستقي ألوانه واعيا أو لاواعيا من ألوان الملبوسات في الريف والبادية، إضافة إلى إدخال التجريد الذي يقتضي تحكّما غير متاح دائما في الألوان أثناء المزج من جهة وعند صبغ المواد الصوفية من جهة أخرى، وخاصة أثناء النسيج.
نجا المهداوي والمنسوجة الحروفية:
تعتبر تجربة "نجا المهداوي" من التجارب الإبداعية التونسية للسجاد الحائطي، حيث دوّن عبرها ميلاد تقنيات وإمكانات جديدة: المنسوجة وعلاقتها بالفضاء: خروج المنسوجة من الداخل إلى الفضاء الخارجي، تحطيم الإطار ومعانقة الفضاء، المنسوجة installation، الجمع بين الحركة في المنسوجة والمعالجات الملمسية، الجمع بين النسيج الخرطوي والملطائي، اعتماد الحروفية والتجريدية في العمل المنسوج وإدراجهما في أسلوب انسيابي جمالي يحمل إبداعا متأصّلا في ذاته.
قدّم "نجا المهداوي" منسوجات استقى أسلوبها من فن النسيج التقليدي، وقد أثّث فضائها من الموروث الشعبي وذلك على مستوى التقنية وأيضا من الخط العربي، غير أنه خرج بها عن الأطر التقليدية ليجمع بين الخامات الطبيعية والصناعية كالحرير والقطن والصوف ما جعل المنسوجة تكتسي صبغة النعومة والخشونة والرقة في آن واحد. وهنا تظهر مقدرة الفنان على خلق التضادات التي تخلق بدورها جماليات انتهت بجمع النتوء والغور معا ما جعل العمل يحمل أبعاد المنحوتة الثنائية والثلاثية الأبعاد، وإضافة إلى كلّ ذلك جعلها تعانق الفضاء لتكون جزءا منه وتضيف إليه، فتحاكينا بكل ما تحمله من أبعاد تراثية و جمالية.
هكذا هي منسوجات "نجا المهداوي" عبارة عن التقاء بين الحروف والألوان التي تحوّلت معه إلى خطوط مستقيمة ومنحنية، ثابتة ومتحركة، شفافة وكثيفة، وبين الألوان والخطوط، وكذلك بين الحرف وفعل النسيج. من هنا مثلت منسوجاته مرحلة الدفاع عن الذات ومرحلة إثبات الذات وتركيز أسلوب ذاتي، إنّها مغامرة البحث عن الهوية، عن الذاتية والخصوصية. كما سعى للخلاص من مرحلة الانجذاب والتأثر بالمدارس الغربية محاولا بناء تجريدية ذاتية عربية. وذلك بالتعامل مع المنسوج التقليدي بطريقة جديدة أدمج فيها الحرف العربي بجمالياته مع النسيج والحياكة، وجرّد الحروف العربية وحوّلها إلى حركات مجرّدة.
وبالرغم من استلهام "نجا المهداوي" من الموروث التقليدي للسجاد، إلا انه استطاع أن يخرج به نحو رهانات الفن العالمي ليخلصه من الإطار ومن التقاليد الحرفية المعمول بها واثبت أن هذا التراث ليس مجرّد زخم من التقاليد. بل انه ولآد وقادر على التشكيل والبحث الجمالي الخالص، ويكون قادرا على التحوّل والتفتّح على صيغ جمالية حديثة وقادرا على أن يحمل شروط النقلة الممكنة من تصوّره "كنوع من الفولكلور الذي يقع تكراره في شكل تقليد متوارث إلى تصوّر يتناول فيه التراث بوصفه مادّة طرية وطبعة تتفتّح على لا نهائية من الإمكانات الإبداعية، تصوير يؤسّس للتراث مكانا هاما في الحداثة وللحداثة...مكانة هامة في الوعي بالتراث... والأمر يتعلق هنا بنقلة تحويل مزدوجة للتراث ولعلاقة الإبداع به من كونه قوة جاذبة إلى كونه قوة دافعة ولعلاقة الإبداع من كونها علاقة تبنى إلى كونها علاقة بناء مستمرّ من النشأة الآلية المطمئنة إلى في التراث إلى إنشاء الذات لنفسها والتراث معا، إنشاء حرّا ومتوثبا وينفتح على مستقبلية الرؤية".
عمر العيفة كريّم و المنسوجة المنحوتة:
استطاع المنسوج التقليدي أن يتعدّى مع "عمر كريم" حدود التقنية الحرفيّة وتطويع المادّة للارتقاء نحو البعد الجمالي والبحث في قضايا تشغل ذهن الفنان. وهكذا أصبحت المنسوجة تحمل عدّة رؤى متنوّعة. وإذا ما قارنّا بين المنسوج الحائطي المعاصر والمنسوج التقليدي. فإنّ الأول يتميّز بصبغة تشكيليّة فنيّة، في حين ينتفي الثاني قيمته في النفعية والوظيفية، وفي حين تكون للأوّل قيمة ذاتيّة إبداعيّة فيها مجال للإضافة و التفكير يركّز الثاني على التقنية المتعارف عليها. وهو ما يؤكده محمّد محسن الزارعي بقوله:" إذا نحن قيّمنا الصناعات التقليدية من جهة العولمة. لا ينبغي أن يؤدّي ذلك إلى الانغلاق، فتتحوّل الهوية إلى عائق أمام استمرارية المنتوج التقليدي استمرارية تنم عن قدرة على التنافس وكسب رهان الكونية...لنتوق إلى رهان أشمل غير محدود.
قام الفنان باستخدام صياغات تشكيلية مختلفة واستخدام خامات نسجية وتقنيات لعمل اللحمات من خلال مهارات فنية وتشكيلية لإبراز القيم الفنية والبنائية للمنسوجات وادخل تقنيات وخامات هجينة عن المنسوجة تمثلت في إدخال منحوتة الجسد إلى جانب المنسوجة وربطهما معا بواسطة خيط احمر ما أعطى العمل صفة التجسيم كما أعطى إيحاء بالحركة مخترقة الفراغ الداخلي للهياكل المنفذ عليها المشغولات النسجية.
هكذا قدّم عمر كريم تشكيلا فريدا ينطلق من مغامرة ويروم من خلالها الخروج عن الزربية التقليدية ذات المادة الواحدة والجاهزة والأسلوب التقني الرّتيب نحو لوحة تشكيليّة تزخر بالمواد المختلفة والتقنيات الغير مألوفة ومعانقة تشكيل نسيجي معاكس للمتعارف عليه ليتكوّن شيئا فشيئا مع تطوّر العمليّة الفنيّة من حيث المشهد الخارجي. فيبدو الفنان غير متقوقع على فنه. بل هو طامح للعالمية. ولكن ليس بالإتباع والتقليد. بل بالإبداع والابتكار إذ انطلق من الخاص نحو العام من الهوية الجماعية ليخلق بالتالي هويته الخاصة وهو ما لمسناه في خروجه من المحامل الكلاسيكية لتتخذ أشكالا جديدة. ولم يعد النول هو الحامل. بل أصبح المحمل ورقا وحديدا وقماش... ولم تعد الغاية من العمل المنسوج التزويق والمنفعة والربح المادي. بل تعدّت ذلك لتتضمّن المنسوجة إشكاليات جديدة وتحتمل قضايا عديدة منها الفلسفية والفكرية والتاريخية. ولعلّه انقلاب الفن المعاصر.
"فدوى دقدوق" و إنشائية المنسوجة بين الخيط واللون والشكل:
"فدوى دقدوق" من الفنانين المعاصرين لفن النسيج في تونس وتعتبر تجربتها من التجارب الرائدة في فن النسيج التونسي سيما وأنها أثبتت قدرة النسيج التقليدي على بلوغ مناهج الفن الحديث. وأنّ هذا الفن قادر على منسوجاتها المرسومة رؤية فنية وانطلاقة فكرية في مجال النسيج التشكيلي، فقد أضافت تجربتها مداخل جديدة حيث أدخلت المستحدثات التشكيلية الجديدة لتنفيذ العمل النسجي بدلا من نول البروز الثابت وتجمعت في أشكال فنية متنوعة لتحدث الفراغ والشفافية والوحدة التشكيلية الجديدة للشكل النسجي لإحداث متغيرات تشكيلية لصياغة العمل النسجي.
وقد اتّسمت منسوجاتها بسمة التجديد والتنوع من حيث الصياغات التشكيلية والتقنيات المستحدثة والجديدة في تأثيرات فنية بخامات نسجية متنوعة، واستخدام الشكل الهندسي المنسوج بأشكال حرة والذي أضاف إلى المجال القيم الفنية والجماليات التشكيلية، لتمثل هذه القيم الفنية إضافة جديدة في مجال للنسيج المعاصر التي تسعى لتحقيقها بأساليب مختلفة. كما إنها أعمال فنية استخدمت من تكوين الأطر الهندسية مجالا ليعبر عن الأشكال الحرة التي تتصف بالاتزان رغم الخروج من حدود البرواز المتعارف علية في عملية النسيج والخفة التي توفرها الشفافية والفراغ والناتجة عن الخامات والتقنيات المختارة.
كما تتميّز المنسوجات لدى "فدوى دقدوق" بديناميكية في طريقة إنشائها منحتها لها ليونة وطواعية المادة الناسجة وهو الخيط الذي توجهه الفنانة حسب إرادتها وطاقاتها الإبداعية، فنحن أمام إنشائية خاصة تفرضها طبيعة التقنية المستخدمة التي تبدأ عملية النسيج فيها من الأسفل إلى الأعلى كما يتميز التصميم هنا بروح إبداعية مفكر فيها من البدا. فالفنانة عند تجسيد عملها تكون في نسق تصاعدي لا يمكن العودة فيه إلى الوراء أي إلى ما سبق نسجه لتعديل مساحة ما ولذلك هي تتصوّر العمل مسبقا فبل انجازه، فالتقنية تتسم بالبناء والصعود حيث تبنى الأشكال والخطوط والألوان في ذات الوقت، ليكون اللون كافيا في بعض الأحيان على التعبير على الشكل وتحديده.
خلاصة:
إنّنا في متابعتنا لهذه التجارب الفنية بإزاء فن إذ ينطلق من لغة الخيط والمغزل والمنسج، إلا أنه يؤكد قدرة هذا الفن على الارتقاء بالممارسة التشكيلية إلى لحظتها النبيلة المتفرّدة ... وذلك رغم الاعتماد على مواد وتقنيات ترجع إلى سجل الفنون الوظيفية والنفعية مثل الزربية والمواد التزويقية. فالرموز والعلامات الوشمية والحروفية لم تعد أثرا متحفيّا بل أصبحت مادة طيّعة تتجدد بين أنامل الفنان وإحدى ممتلكاته البصرية ، بل وجزءا من النظام الرؤيوي-التشكيلي الذي تتحرك فيه خيوط الصوف ما بين غائر وناتئ... وهكذا يكون الفن أعظم سبيل لتمثل التراث وشخصنته عندما يقتحم الأثر الثقافي المجال الذاتيّ للفنان، فيصبح مكوّنا من مكوّنات رؤيته إلى العالم، "فالتراث مادة للتشكيل المستمر، تستفزّنا لأن نصرّفها من جديد في الحاضر وفق رؤيتنا لهذا الحاضر الكبير، إنه تصريف الماضي في الحاضر وتصريف الجماعي في السّرد الفنّي للكيان الذاتي.
وبالرغم من اختلاف المعالجات الفنية وبالرغم من تعدّد المشاغل الفنية يمكن اعتبار النسيج الفني منذ بداياته امتدادا للتقنيات والمضامين التي جاء بها الحرفي الصانع والحرفي الفنان وصولا إلى الفنان التشكيلي. وهو بحث عن تأسيس ما يعبر عنه بالهوية التونسية من خلال مواضيع منسوجة تنهل من المنسوجات التقليدية وما يتصل بالتعابير الفلكلورية والأنشطة الحرفية التقليدية.و منذ السبعينيات شعر المثقفون ومن بينهم الرسامون بمدى الجروح الثقافية التي ولّدها الاستعمار الفرنسي وسعى أغلبهم إلى اندمالها بدراسة وبتفحّص مواطن الموروث الحضاري للاستلهام من تراثه ولاستعادة علاماته الخطية ودلالاته الحسية. وقد بات بديهيا أنّ العمل الإبداعي لا يولد دون وعي بالترسَبات المرجعية سواء كانت ثقافية أو تشكيلية وستبقى ذاكرة المبدع متوهّجة يستقوى بشجونها لمواجهة ما يستجد من قيم. لا خوف عليه من التهرّم إن تعلقت همته بما يطلق عليه المسعدي "المغامرة الوجودية للإنسان" في علاقتها بالزمن.
--------------
تقديم الباحثة الجامعية في علوم الدكتوراه و الفن عواطف منصور
مساعدة بالمعهد العالي للفنون والحرف بالقصرين
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: