محاربة الفساد ما بين الاستحقاق الثوري وأحكام القانون
القاضي مراد قميزة - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 9077
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
أن تقوم ثورة في بلد ما يعني بالضرورة القطع مع نظام قام على الظلم والاستبداد وعدم المساوة وقمع الحريات قطعا نهائيا وبناء نظام جديد يقوم على المساواة والحرية والعدالة الاجتماعية، لكن من الذي سيتولى عملية القطع مع القديم وبناء الجديد ؟
إذا اكتملت الثورة فإن القوى الثوريّة التي قادتها تتولى طبعا هذه المهام باعتبارها ستتولى تسيير شؤون البلاد في الفترة الانتقالية وتطهير أجهزة الدولة من الفساد ورموزه وكشف الحقائق للشعب ومحاسبة من أجرموا في حقه ثم الانتهاء إلى المصالحة تمهيدا للبناء الديمقراطي . فهل يمكن تطبيق هذا على الثورة التونسية ؟
اعتقد أن الثورة التونسية لم تفرز قوى ثورية يعول عليها للقيام بهذه المهام لأنها ببساطة لم تكتمل ولم تحقق أهدافها فهي قامت على رفض الظلم وطلب الحرية والكرامة لكنها كانت من دون قيادة وهو ما سهل الالتفاف عليها من صقور النظام المتنفذين في كل أركان الدولة وذلك بداية من يوم 14 جانفي الذي أسموه تاريخا للثورة والحال انه تاريخ لانتكاسها.
المسرحية انطلقت بالشرعية الدستورية من الفصل 56 إلى الفصل 57 من الدستور وبإقرار اللجان التي أحدثها الرئيس المخلوع وبتهافت أحزاب الفتاة على حكومة الالتفاف للتموقع والجري وراء الكراسي التي قد تؤول رئاستها إلى احدهم أن أدى فروض الطاعة والولاء لحكومة الظل ولعملاء العم سام .
ومن سوء حظ هذا الشعب انه كان مغيبا عن السياسة لربع قرن ويعيش حالة جهل لكل ما يتعلق بالشأن العام فصدق تلك المسرحية عن مضض وضيع وقته في استقراء حسن النوايا وخفي عليه أن القطع مع النظام القديم لا يكون بواسطة أبنائه وأهله وعشيرته وخدمه، وان الشرعية الدستورية لا معنى لها في زمن الثورة .
لكن ما يطمئن حقا أن هذا الشعب الجاهل بالسياسة والشأن العام قرر أن يفهم ولم يضيع وقته كما في السابق في متابعة الرياضة والفن بل انكب على تدارك ما فاته وظل فطنا لكل محاولات الارتداد مما عقد الأمر على الحكومة واجبرها على التنحي وهنا كان الخطأ الثاني وهو قبول حكومة أخرى معينة في ظرف سويعات دون أن نعرف من عينها ولماذا وأي توافق أدى إلى هذا الخيار وها نحن إلى اليوم نعاني ضريبة ذلك القبول فنرى القديم يتجدد بكل وقاحة ويتموقع في اجهزة الدولة وفي احزاب مفرخة من التجمع الذي قدموا قربانا لحله امام المحكمة في مسرحية هزلية رديئة الاخراج، وكأن حل التجمع سينهي التجمع والحال أن التجمع هو من صمم على حل نفسه ليعمل في أريحية اكبر من أعين المراقبين وها هو اليوم يلملم شتاته ليعود بقوة على نظر هذه الحكومة وبمباركة منها.
اليوم عاد كل رموز الفساد إلى الصدارة واحتلوا المواقع الحساسة ومراكز القرار في كل الإدارات تقريبا من امن وقضاء ووزارات وولايات وإدارات عمومية وغيرها ولم تفعل الحكومة سوى عملية لتبادل المواقع أو تعويض بعض المسؤولين بأبناء النظام من الصف الثاني الذين لم تسلط عليهم الأضواء، لكن وكالعادة استطاع الشعب ان يعي خطورة الوضع ولملم نفسه ليخرج هذه المرة مطالبا بإسقاط النظام وبمحاسبة رموز الفساد وإقصائهم من الحياة السياسية ومن مراكز القرار.
محاسبة رموز الفساد وكشف الحقائق هي من مشمولات الحكومة الثورية التي تصير كل دواليب الدولة مفتوحة أمامها وباستطاعتها جمع وسائل الإثبات من أرشيف الوزارات والإدارات ومن إجراء التحقيقات اللازمة مع كل المشتبه بهم لكن حكومة السبسي ليست حكومة ثورية وهي امتداد للنظام القديم في شكل جديد لذلك نسمعه يقول بلامبالات انه لا وجود لقناصة ومن يعثر على قناص فليقدمه له، وبمعنى آخر يقول للشعب ليس لكم اي استحقاق ثوري وان ادعيتم شيئا فعليكم إثباته أي انه يطلب منا المستحيل، وكأن الاثبات ملقى على قارعة الطريق وسهل تقديمه . وعلى خطاب السبسي تنسج العديد من المؤسسات مثل الأمن الذي يرفض تقديم أي إيضاحات للجنة التقصي بخصوص تجاوزات الأحداث الأخيرة ويرفض الاستجابة لطلب القضاء بتقديم سجلات الأعوان المناوبين في فترة الأحداث ويصر على أن أعوانه أبرياء وعلى من يدعي خلاف ذلك إثباته، ثم القضاء الذي ترفض الوزارة تطهيره وفتح الملفات التي لديها لمحاسبة المشبوهين من القضاة تؤيدها في ذلك نقابة القضاة انطلاقا مما تسميه المحاسبة الفردية خارج اسلوب القوائم مع توفير الضمانات وذلك طبيعي لانها في الواقع بعثت بمخطط من الادارة لحماية قضاة الوزارة اولا ثم اولياء النظام من قضاة المحاكم وخاصة المسؤولين الذين كانوا اداة لضرب القضاة المستقلين وحصنا متقدما للادارة ضد كل محاولات التمرد على تعليماتها.
الخلاصة أن هؤلاء يحاولون الإيهام بأن كل محاولة لكشف الحقيقة دون تقديم إثبات تدخل تحت طائلة التشهير والثلب ويعاقب عليها قانونا وذلك ترهيبا لأصحاب الحقوق وللمناضلين الصادقين وترغيبا في الانسجام مع ما يسمونه أحكام القانون أو بالأحرى أحكام حماية الفساد بالقانون والتستر على ملفات الفساد.
اليوم أقول لهؤلاء لقد انقلبتم على ثورة الشعب وانتم امتداد للنظام والثورة لازالت مستمرة حتى تقتلعكم من جذوركم وتخرج قوى ثورية تحقق للشعب آماله وبالتالي فإن فضح الفساد وأصحابه ونشر قائمات في الفاسدين والمشبوهين يدخل تحت طائلة العمل الثوري الذي لا تدخرون جهدا لقمعه وان كنتم تدعون النزاهة والوطنية فابدؤوا بفتح ملفات الفساد بلجان مستقلة تماما وتحظى بالثقة تتولى التحقيق والبحث بكل حرية في الوزارات والمؤسسات وكل الإدارات المعنية وليس بلجان تقبع في المكاتب تتلقى الشكايات ولا تفعل شيئا للتحري فيها بجدية ولن نرضى بأنصاف الحلول فتغيير مسؤول بمسؤول من طينته لا يحل المشكلة ولا ينفض الغبار عما حصل في سنين الظلم والقهر.
وأخيرا أقول لكم أن المتفق عليه دوليا أن عبئ الإثبات عليكم وليس على الشعب في وقت الثورات فيدكم طائلة وبمكاتبكم وأرشيفكم تسكن الحقيقة وليس على المواطن الا ان يشير الى موطن الفساد والقائمين عليه لتتولوا انتم اكمال الباقي والا فإنكم تتسترون على الفساد ويحق للشعب كنسكم وإكمال ثورته
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: