لا وصاية سياسية على الدين ولا لتوظيف الدين في السياسة
الهادي المثلوثي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 6103
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
دفاعا عن قدسية الإسلام وسماحته لا للمساس بحرية المعتقد ولا لضرب العقلانية والعلمانية لأن الإسلام دعوة إلى تحكيم العقل وترجيح العلم في ممارسة الإيمان. ودفاعا عن الإسلام أيضا، لا وصاية سياسية على الدين وعلى إيمان الناس، لا للوصاية الحزبية على بيوت العبادة وعلى رجال الدين سيما أن الدين شأن من شؤون المجتمع بأسره والدولة هي وحدها قوامة على المعابد والمساجد والشؤون الدينية عامة، ورجال الدين هم المؤتمنون على رعاية الطقوس الدينية وتأطيرها بعيدا عن الدعاية السياسية ومناوراتها ومثالبها. أما السياسيون والحزبيون فلا هم أوصياء على المعتقد ولا هم قوامون على الدروس الدينية ولا هم رقباء على إيمان الناس وتقييمه وتوجيهه بمقتضى الحاجة السياسية والإرادة الحزبية. إن التحزب الديني يشوه العقيدة والتدين الحزبي يفسد الإيمان وهي أمور حولت الإسلام الواحد الجامع إلى إسلام متعدد المفاهيم والجماعات. كل فريق يخيط حسب هواه جبته الدينية ويخط حسب نواياه خطابه العقائدي حتى صار من التضليل القول (أن الإسلام هو الحل وأن وحدة المسلمين هي الأمل). فحين نفتح سجل الإسلاميين وننظر في خريطة الإسلام ونحلل الخطاب الإسلامي نجد نحلا ومللا ونكتشف تمزقا وتفرقا مما شوه علمانية الإسلام وأضعف إنسانيته رغم عالميته وتسامحه الأمر الذي أفضى إلى نعت الإسلام بالتطرف والإرهاب والتشرذم، فمن المسؤول عن تشويه الإسلام وتمزق وحدة المسلمين؟؟ . أرى ولست الوحيد أن الإسلام أكبر من أي حزب ساسي وأوسع وأبعد عن أي استيعاب مذهبي. والاستقواء به حزبيا يعد انتهاكا للدين واعتداء على روابط المجتمع ومشتركاته القيمية والثقافية بل مصادرة لحرياته العقائدية وتشويه لنقاوة الإيمان ووحدة المعتقد.
إن روعة الإسلام تكمن في حرية الاجتهاد والتسامح والرحمة. وقوة الإسلام تتمثل في تعدد طرق التعبير عنه وفي ربطه بين العقل والوجدان بما يضمن توازن إنسانية المؤمن ويُمكّنه من الانطلاق حرا كريما في علاقته بربه بلا حزبية تقيده ولا تحيز سياسي يربكه وينحرف بإيمانه. فلا خلط بين علاقة الإنسان بخالقه وعلاقة الإنسان بحزبه والسياسة التي يرتضيها في حياته. وللتأكيد أيضا لا لحزبية تتكئ على الدين سلاحا ولا لدين ترتزق به الأحزاب وتتخذه منهجا لاستقطاب الناس واستغلالهم كمصدر لتمويل نشاطها السياسي واستخدامهم كقاعدة انتخابية للوصول إلى السلطة. وبمعنى أوضح إن الإسلام الحنيف ليس وسيلة للكسب السياسي والانتخابي وليس منفذا للوصول إلى جيوب الناس واستغلال تعاطفهم. ليكن الإسلام بعيدا عن سوق المنافسة الحزبية وبورصة الاستثمار السياسي حتى لا ينفتح باب الجدل المذهبي وتشتعل نار الفتن الطائفية سيما أن وضع البلاد مفتوح على شتى احتمالات التنازع الفكري والصراع السياسي بعدما رفعت قيود القمع والغبن والمنع للحريات. ولا شك أن الثورة ولادة للسلبي والإيجابي من الأفكار والتطلعات والسلوكيات وأن الحرية أحيانا تغري بالتطرف والفوضى. فلا غرابة أن تتجرأ بعض القوى السياسية على ممارسة غير المسموح واستباحة الممنوع وادعاء الحقيقة المطلقة والحل الأوحد. وإن ترك البعض للاجتهاد بابا وأقر الديمقراطية منهجا... فإن البعض لبس الإسلام قناعا واتخذ الوصاية سبيلا ليسطو على الناس جميعا باعتبار الإسلام حلا لكل التناقضات والمشكلات القائمة. وعليه، فمن لا يستظل براية الإسلام فلن تقبل منه حقيقة وليس معه وفاق. ولكن ما أبعد هؤلاء عن فهم الإسلام وإدراك مضمونه التعددي والتحرري.
شمل الإسلام خمسة مذاهب (الشافعية والمالكية والحنبلية والحنفية والجعفرية). وعبر التاريخ شقته تيارات فكرية وفلسفية عديدة لا تقل عن 70 فرقة (القدرية والأشعرية والمرجئة والصوفية...)، ثم السنة والشيعة. وفي كل جماعة (فرق ومذاهب اجتهادية وطرق تعبدية). ألا يدل هذا على تعددية الاجتهاد وحرية التفكير والاعتقاد مما أعطى الإسلام صفة الانفتاح العقلي وحرية الاصطفاء الروحي والتمذهب الفقهي مما يعبر عن حرية المعتقد في أعمق وأوسع تجلياتها ويؤكد بكل وضوح علمية الإسلام وعلمانيته. فلا إكراه في الدين ولا وصاية على الإيمان ولا تكفير لأحد. إن الله بإيمان الناس أدرى والناس في إيمانهم أحرار. وما يجمعنا ليس المساجد ولا القبلة ولا صفوف الصلاة وأفواج الحج فقط، فذلك شكل من أشكال الظاهرة الشعائرية نقيمها ويختلف الصدق فيها، أما ما يجمعنا حقا إنما هو الخير والعدل والتعاون والتضامن والمحبة والتراحم والوفاء والإيثار والصدق والنزاهة تلك هي مقاصد الدين وأهدافه وتلك هي ركائز الإيمان وجسور التواصل بين بني الإنسان والمؤمنين بالقيم الإنسانية. فما يهم بني البشر من الدين ما ينفع الناس في الأرض أما الممارسة الفرائضية الدينية فهي اختيار ذاتي وشأن خاص والعقاب فيها والجزاء عليها أمر من أمور الله. فلا دخل بين العبد وربه إلا بالكلمة الطيبة. والجدل في الدين والترهيب والترغيب فيه قد يفسد الإيمان ويحوله إلى مجرد ظاهرة شكلية ووسيلة نفعية دنيويا وأخرويا. إن حرية الاعتقاد تضمن الإيمان الخالص وتجعل التدين تجسيما لفعل الخير وقاعدة لتقديس العمل لأن العمل وسيلة خير ومصدر نعمة للناس جميعا. فإذا عم الخير وتنعّم الناس بنور العلم والمعرفة فلا شك أنهم آمنوا إيمانا خالصا بالدين عملا وأمنوا على أنفسهم وائتمنوا بعضهم بعضا حبا وتدينا وليس تمذهبا وتحزبا. والتدين أن يدين الناس لبعضهم بعضا بالرحمة والمودة والجيرة والأخوة. وهذه جميعها يضعفها تسييس الدين والتحزب الديني. والحقيقة نحن في حاجة إلى سياسة تحمي حرية المعتقد وإلى دين أسمى من السياسة فلا مجال لتوظيف الدين في خدمة السياسة وما فيها وما عليها من مساومات ومناورات.
واحتراما للإسلام وتقديرا للإيمان وحرية المعتقد نقول لا مكان لرجال الدين في المنظومة الحزبية ولا للسياسيين على المنابر الدينية، للدين رجاله التقاة وللسياسة رجالها الدهاة، فلا لاستخدام الوظيفة الدينية كوظيفة سياسة ولا لتغليف السياسة بالدين ولا لتشويه الدين بالسياسة في عصر يقوم على الفصل بين السلطات وبين التخصصات ولا يقبل بالتضليل والتدجيل منهجا للسطو على عقول الناس ووجدانهم.
نسمع قديما وحديثا لغطا ونرى هذه الأيام هرجا ومرجا يعصف بقدسية الإسلام. وفيما نسمع ترديد متكرر أن (الإسلام هو الحل) وهذا أمر فيه تضليل ودجل، فعن أي إسلام نتحدث وأي المذاهب نقصد؟ بيننا وأمامنا إسلام متعدد الأوجه والاتجاهات على صعيد التنظير والخطاب وعلى صعيد الممارسة السياسية والتطبيقات الدينية حنى نكاد نصدق أننا نعيش عصر فتوحات جديدة، ولكن ليس لتعميق الإيمان وإنما إفساده وتشويه. فتحت مظلة الإسلام تتحرك أحزاب شتى تتبنى الإيمان وتدعي صحة العقيدة كما ترى وتشتهي وكل متحزب يعتقد أن لديه الحقيقة ويملك الحق في فرضها. والنتيجة اتجاهات واجتهادات وتصورات متباينة ومتواجهة إلى حد التصادم. وهذا واقع يكرس إضعاف الإيمان وليس تعميقه وتعميق الفرقة وليس إنهاء الخلاف بين الأحزاب الإسلامية. فالتناحر بين التيارات السياسية الإسلامية ليس هيّنا بل أخطر من وطأة الإلحاد في مواجهته للإيمان وأشد تخريبا للعقيدة. فالفتنة القائمة بين المجموعات الدينية السياسية المتهافتة على المنابر والمناصب يراها البعض كفرا بالإسلام وتشويها له وهي الأكثر تمزيقا لوحدة المؤمنين. ويراها البعض مؤامرة للتنكيل بالمسلمين. والغريب أن يكون أبطال هذه المؤامرة ساسة يتقنون السمسرة بالدين ودعاة عقيدة يحترفون السياسة. وهذا أمر يفسد السياسة والدين معا ويضع البلاد والعباد في معترك قد يفضي إلى المجهول. والحل أن نرفع الصوت عاليا (لا وصاية سياسية على الدين ولا لتوظيف الدين في السياسة). وكفى للتدخل في إيمان الناس والتسلط على عقولهم وأفكارهم. لقد بلغ الشعب والشباب خصوصا درجة من الفهم والوعي تمكنه من مقاومة التضليل والتدجيل وتساعده على امتلاك القدرة على الفصل بين السياسة والدين دفاعا عن قدسية الإسلام وحرية الإيمان وعن السياسة الديمقراطية التي يريدونها دونما وصاية وبلا ألغام. وفي جميع الأحوال يبقى الإسلام هو الحل للكثير من العلل الاجتماعية والنفسية الجماعية والخاصة إذا لم تدنسه السياسة وإذا لم يتخذ لباسا لمآرب حزبية تسلطية. فحذاري من المتربصين بالحكم تحت راية الإسلام.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: