تعيش البلاد على وقع أخطر كارثة صحية في تاريخها؛ فالمواطنون يموتون أمام المستشفيات ويتساقطون على الطرق والأرصفة ولا من مغيث. فلا وجود لدولة ولا لسلطات مسؤولة ولا لبنية صحية، فالمستشفيات أشبه بالمسالخ البشرية والأطقم الطبية قد تجاوزتها الكارثة وصارت هي نفسها ضحية فساد الدولة وتفشي الوباء.
الصور القادمة من تونس أكثر من صادمة، فهذا إطار أمني يتلوّى من المرض أمام مستشفى القيروان ثم يموت على الرصيف ولا من مغيث وهو الذي قضى عمره في خدمة الدولة والمجتمع. وهذا مواطن فقير يحمل أمه على عربة يجرها حصان إلى المستشفى البعيد ويقف بها في أشعة الشمس الحارقة في انتظار الموت فلا إسعاف ولا أسرّة طبية ولا أجهزة تنفس.
أين الدولة؟ أين الرئيس؟ أين الوزراء؟ أين المسؤولون؟ أين الإعانات والهبات والقروض المليارية التي قدمتها الدول الداعمة؟ أين ذهبت أموال الشعب ومن هو المسؤول عن الجريمة؟
نهاية الأكذوبة
أساطير كثيرة عششت في الوعي الجمعي التونسي وروّج لها المقاول الأكبر الحبيب بورقيبة ورسخ دعائمها الوكيل الثاني بن علي وآلته الإعلامية الجبارة، ومنها أن شعب تونس شعب مثقف وأن تونس بلد ثلاثة آلاف سنة من الحضارة وأننا خير من يمشي على حصى. أكاذيب كثيرة وأساطير لا تُحصى كانت أبواق الاستبداد تروّج لها زورا وبهتانا حتى جاءت الثورة وكشفت المستور وعرّت زيف سرديات الاستبداد ونخب العار المرتبطة به.
تونس ليست دولة ولم تكن دولة في يوم ما من تاريخها الحديث، فمنذ الاحتلال الفرنسي إلى اليوم لم تعرف البلاد استقلالا حقيقيا في قرارها وسيادتها وثرواتها وأمن مواطنيها، بل كانت دائما رهينة القوى الخارجية باحتلال ناعم إلى حدود انفجار ثورة الحرية الكرامة يوم 17 كانون الأول 2010 في ريف سيدي بوزيد الفقير.
كيف تكون تونس دولة وثرواتها تتقاسمها الشركات الأجنبية منذ قرن من الزمان بالتواطؤ مع العصابات المحلية؟ كيف تكون دولة ووطنا وشبابها لا يحلم بغير الهرب منها بحرا بعد ما عانى ويلات الفقر والبطالة والتهميش والسجن والتعذيب؟ كيف تكون دولة ولا يجد المريض فيها فراشا يموت عليه بكرامة؟
تونس منذ أكذوبة الاستقلال محميّة خاصة سيطرت عليها عائلات متنفذّة عملت وكيلا اقتصاديا وماليا وعقاريا لصالح العصابات الدولية، فاستولت على الأراضي والعقارات والثروات وهيمنت على كلّ الدورة الاقتصادية. هذا الاستنتاج هو خلاصة التقرير الذي صرّح به ممثل الاتحاد الأوروبي في تونس عندما سئل عن سبب تخلف الاقتصاد بعد الثورة.
وضَع الوكيل الاستعماري بورقيبة أسس هذا الفساد لكنّ طاعون الفساد عرف انفجاره الأكبر في عهد المستبد بن علي الذي حوّل البلد إلى مزرعة للعصابات العائلية التي تحيط به واجتهد في تدمير المؤسسات ونسف المكاسب الاجتماعية وهو الأمر الذي أوصل البلاد إلى الانفجار الكبير في 2010.
المجرمون والقصاص
بلغ الفساد في تونس مستويات مفزعة تدفع بالبلاد إلى الانهيار الكبير وهو الأمر الذي يوجب اليوم وضع الفساد موضع التهديد الأوّل للأمن القومي. تونس لا يهددها الإرهاب فهو كما يعلم الجميع صناعة دولية بأدوات محلية هدفه إفشال المسار الانتقالي وإسقاط مكاسب الثورة. الإرهاب الحقيقي والصانع الأساسي له هو الفساد بل إن الإرهاب فرع من فروع الفساد وباب من أعظم أبوابه.
لا أحد في تونس يناقش هوية المجرمين الذين تسببوا في انهيار البلاد ووصولها إلى حافة الهاوية وهم بالأساس رجال النظام القديم ومنظومة العصابات المرتبطة به بما هي المالك الحقيقي لكل ثروات البلاد تتصرّف فيها كما تتصرف في ممتلكاتها الخاصة. لم تُحاسب الثورة أحدا منهم بل آثر أهل السلطة خلال السنوات التي تلتها نهج الوفاق والمصالحة ظنا منهم بأن الثورة تجبّ ما قبلها، فتم الالتفاف على قانون تحصين الثورة ومكّنوا المجرمين من الإفلات من العقاب.
نشطت هيئة الحقيقة والكرامة في مسار تبييض الفاسدين وحققت لهم عن قصد أو عن غفلة أكثر مما كانوا يحلمون به وكذا فعلت بقية الهيئات وسط شلل تام لمنظومة العدالة الانتقالية. عادت الدولة العميقة ومنظومات الفساد أكثر شراسة للانتقام من الثورة ومن مسارها عبر الاغتيالات والعمليات الإرهابية وتعطيل الإنتاج وإرهاب المجتمع ونشر الجريمة والمخدرات وتدمير القدرات الصحية للبلاد وتعطيل الحياة السياسية ومحاولة إلغاء البرلمان. استفادت الدولة العميقة من هوس رئيس الجمهورية بالسلطة وهو المحاط بأشرس الكتل الانقلابية الأمر الذي وصل به إلى محاولة إلغاء دستور الثورة والعودة إلى النظام الرئاسي المطلق بدستور 1959.
ليس الرئيس وحده المسؤول عن تردي الوضع السياسي فهو نتاج من نتائج تردي المسار الانتقالي وهو كذلك أحد عناوينه الأبرز. نجحت الأحزاب التي كانت محسوبة على التيار الثوري في إسناد البرنامج الانقلابي كحزب التيار الديمقراطي الذي طالب بتدخل الجيش لوقف العملية السياسية أو حزب حركة الشعب القومي الذي طالب بإعادة النظام الرئاسي المطلق وإلغاء العملية الديمقراطية نكاية في خصومه من الإسلاميين. في الجهة المقابلة يكاد يكون الصف الثوري يتيما من الكلّ تمثيل إعلامي فاعل إثر تشظي الفواعل الثورية وصراعها على المناصب بدل السعي إلى تحقيق المطالب التي من أجلها سقط شهداء ثورة الحرية والكرامة.
ما هو الحلّ الممكن اليوم؟
لم يعد ممكنا المواصلة على نفس النهج بل إن الوضع الخطير للبلاد يفرض التحرك العاجل من أجل إلغاء كل مظاهر الاحتقان الاجتماعي والسياسي التي ينفخ الإعلام في نارها يوميا. لن يكون ذلك ممكنا إلا بتفعيل أدوات الحوار الوطني ومراجعة النظام الانتخابي وتركيز الآليات الدستورية أو الذهاب إلى انتخابات مبكرّة وإعادة الأمانة إلى الشعب علّه يصحح الأخطاء التي اقترفتها نخبه لمنع السقوط في منزلق لا خروج منه.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: