يظهر الرئيس التونسي مرتين في وسط الشارع في وقت وجيز فيصدر بيان رئاسي عن زيارة عفوية، لكن الجمهور الذي يتجمع فجأة حول الرئيس المتفاجئ بوجود الجمهور يتفق حول شعار جاهز حل البرلمان. هكذا يراد إقناعنا بعفوية الجمهور الذي بلغ من الوعي حدا يفاجئ الرئيس المذهول من وعي الجمهور. لكن هذا الجمهور يقف في منتصف الطريق. لنفترض أن حل البرلمان قرار يمكن اتخاذه بين عشية وضحاها فما بديل البرلمان؟ هل نتجاوز كل المسارات القانونية المؤدية إلى حياة برلمانية أم نترك الحكم لفرد بدون رقابة؟ أم نؤلف مجالس شعبية على طريقة لجان القذافي الشعبية؟
لقاء غريب بين قوى مختلفة
لكن ليس جمهور الرئيس العفوي من يطالب بحل البرلمان هناك قوى سياسية تختلف عن الرئيس ولم تصوت له سابقا ولها أفكار مختلفة ظهرت فجأة ضمن جمهور حل البرلمان. حزب الفاشية يرذل البرلمان من الداخل ويطالب بحله وأحزاب ديمقراطية وجدت نفسها أقلية وبلا سلطة تطالب بحل البرلمان وأصوات عالية في الإعلام لم تنل أية حظوة في الصندوق الانتخابي كلها متفقة على مطلب واحد (حل البرلمان) لكن لا أحد من هؤلاء يقدم تصورا سياسيا لما بعد حل البرلمان بما يجعل حديثهم إما رغبات أطفال مدللين لم تعجبهم لعبة الديمقراطية فهم يبكون من أجل لعبة أخرى لا يعرفونها، أو دعاة فوضى يقف البرلمان الحالي في زورهم فلا يصلون إلى مبتغاهم وفي الحالتين هم يتجاهلون وأعتقد أنهم يجهلون أن حل البرلمان لا يكون بمطلب يوجه إلى الرئيس ولا يحصل بالطرق الإعلامي المتواصل على جمهور متعطش إلى إنجازات لم يعقها البرلمان بقدر ما أعاقها من يعطل عمل البرلمان. من هؤلاء؟ ولماذا اتفقوا على مطلب واحد فجأة؟
هؤلاء هم من لم يملك القدرة على دخول البرلمان وقيادة البلد من خلاله طبقا للدستور. هؤلاء هم من سقط في كل انتخابات جرت ومن لم يجد ثقب إبرة لدخول البرلمان فبقي يطالب بحله. إنهم قوى سياسية ضعيفة في الشارع ورغم قانون أكبر البواقي الانتخابية فإنها لم تدخل ومن دخل منها لم يتغلب بالعدد فظل في موقع معارض وليته عارض طبقا للتقاليد الديمقراطية بل نراه اتخذ أسلوب التخريب من الداخل. فلما عجز تحول إلى طلب حل البرلمان.
الرئيس يود حل البرلمان
يبارك الرئيس ما يسمعه من جمهوره العفوي فيهز برأسه ويهدد بجمل غامضة لا يسمي أحدا لكنه يتوعد مجهولا. هذا المجهول صار معلوما إنه البرلمان الذي لا يتفق معه ولا يتفق خاصة مع رئيسه رئيس الحزب الأغلبي بقوة الصندوق لا بقوة التهديد الغامض. هذه حقيقة تزعج الرئيس. فما دام البرلمان بيد خصمه الذي لم يكن خصمه قبل الانتخابات أو لم يكشف خصومته معه قبل أن يجده أمامه يعيق برنامجه الذي لم يكشفه بعد إلا لخاصته كما لو كان إمام تنظيم سري يذكر بأعمال الباطنية وتكتيكات الحسن الصباح في مسلسل نهضة السلاجقة الكبرى. فبرنامجه معلق حتى أنه لم يقدم فيه مبادرة تشريعية منذ سنة ونصف من انتخابه.
برنامج الرئيس ليس برلمانا منتخبا بالاقتراع السري المباشر الذي وصل به إلى سدة الرئاسة بل برلمانا مفروزا بطريقة نخبوية أي بالتصعيد (لينتبه القارئ أني لا أعرف كيف سيكون هذا التصعيد عمليا فالرئيس لم يطرح كراساته للنظر والتمحيص ويحتفظ بغموض الفكرة والطريقة المثلى لتطبيقها) لذلك نقع في مقارنتها بطريقة تصعيد اللجان الشعبية التي اتبعها القذافي في حكمه لبلده ونعرف فقط نتيجتها على الشعب الليبي.
لذلك يصادف هوى حل البرلمان شيئا في نفس الرئيس فيهز رأسه موافقا على المطلب ويقف عند ذلك حتى اللحظة. فيكمل الدائرة ويغلقها. الفاشية ترذل البرلمان وتهين النواب وتقاليد العمل الديمقراطي فتنتقل الصورة الرديئة إلى الجمهور عبر إعلام محكوم بعناية يربط بين تعطل البرلمان وبين تعطل الحلول الاقتصادية ثم يوجه الجمهور إلى مطلب وحيد (حل البرلمان). تكامل أدوار موزع بعناية ودقة تكشف خطة. إفقاد الجمهور صبره على المرحلة وإخراجه الى الشارع.
الرئيس معني بتقديم حلول قانونية لما بعد حل البرلمان وهذا واجبه الدستوري لكنه يتهم الآخرين بتجاوز أحكام الدستور بما يوسع دائرة الحيرة ويمهد لفوضى. دفع الجمهور إلى الشارع ضد البرلمان والحكومة التي شرع وجودها. فهل يملك الرئيس القدرة على قيادة شارع منتفض ضد المؤسسات؟ فمن السهل إطلاق الفوضى (لنقل التمرد الشعبي المشروع) لكن ما هي الحلول التي ستقدم للجمهور إذا صار في الشارع؟
التشخيص بسوء نية سياسية لن ينتج حلولا فعالة
قبل أن يوضع مطلب حل البرلمان على لسان جمهور فقد صبره كان التشخيص يركز على القانون الانتخابي وإليه يعزى تعطل البرلمان واضطراب نسق العمل التشريعي لأنه لا يفرز حزبا حاكما بل جماعات مشتتة لا أحد منها يتحمل مسؤولية الحكم. لكن التشخيص انقلب من نقد القانون الانتخابي إلى نقد النظام شبه البرلماني فكشف النوايا المبيتة للنظام السياسي القائم على دستور 2014.
القانون الانتخابي الحالي لا يقضي على الحزب الإسلامي وقد جرب في دورتين فكان للحزب الإسلامي وجود ثقيل يفرض من خلاله الحزب دورا ويشارك في السلطة من موقع متقدم. وهناك مشروع تعديل للقانون في أدراج البرلمان قد يمهد لمزيد من قوة الحزب الإسلامي إذ يفرض العتبة الانتخابية التي ستسقط الداخلين بأكبر البقايا. وقد استشعرت القوى المنادية الآن بحل البرلمان الخطر فكان مطلب حل البرلمان بمثابة استباق سياسي لمنع التعديل، فما دام البرلمان مستقرا بتركيبته الحالية فالقانون الانتخابي يمكن أن يعدل بسهولة وقد ضاعف هذا الخوف التصويت على التعديل الوزاري الأخير بما أشعر الخائفين أن الكتلة البرلمانية التي تدور حول الحزب الإسلامي قد تفرض قواعد جديدة تقلب كل التوازنات .
في سيناريوهات كثيرة محتملة يسرع تعديل القانون الانتخابي في إنهاء المدة النيابية الحالية بحجة الاستجابة لضغط الشارع الذي أثاره الرئيس وأنصاره فينقلب السحر على الساحر. ونعتقد أن الاستطلاعات التي تقدم حزب الفاشية في نوايا التصويت تأتي في سياق تخويف الإسلاميين وأنصارهم وحلفائهم بمنطق إذا ذهبتم إلى انتخابات فستهزمون. لكنه تخويف يكشف الاحتماء بالفاشية والاعتماد عليها. باختصار مطلب حل البرلمان من خارجه هو تكملة للترذيل الذي تقوم به الفاشية من داخله ويعري تحالفا سياسيا مع الفاشية ضد الإسلاميين ولو بفتح باب الفوضى. لكن البرلمان الحالي ليس بمثل هذه الهشاشة والهوان خاصة بعد المصادقة على التعديل الوزاري.
موازين القوة الحالية راجحة للبرلمان وللحكومة ضد مطلب حل البرلمان والترذيل الداخلي شوه صورة العمل النيابي لكنه لم يفلح في تعطيل البرلمان. وكثير من عمل الفاشية ينقلب عليها خاصة بعد يوم البوق. وهناك قطاع واسع من جمهور نخبوي لا يتفق مع الإسلاميين وأنصارهم بالبرلمان بدأ يعلن خشيته من مشروع الرئيس ويصرح بمخالفته للدستور بعد ان رفض استقبال الوزراء الجدد لأداء اليمين.
نسمع هذه الأيام تهديدات كثيرة بأمور غامضة تثير الخوف تصدر عمن كلف بتطمين الناس وجبر خواطرهم في عالم موبوء (تقترب تونس من عد سبعة آلاف وفاة بوباء الكورونا) والخوف ينتج الحذر والانكفاء حول الموجود لا الخروج لتغييره نحو أفق مجهول.
نختصر إذن، إن صمود هذه الحكومة وهذا البرلمان بالخوف من الفوضى ليس أمرا حميدا ولكن لا البرلمان ولا الحكومة عملا على تخويف الناس. وإلى أن يفهم الجمهور الواسع جمل الرئيس الغامضة سنتابع الكوميديا الدنيوية التي يستحضر فيها الرئيس رسالة الغفران فيوهم إذ يتوهم أنه في موقع رب الجزاء الذي يعبر إليه الناس على السراط المستقيم.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: