منهجان للتحليل يبدو أن أحدهما سيحل بهدوء مكان الثاني في وسائل القراءة السياسية والاجتماعية، وقد يسعفنا بقراء أفضل للواقع التونسي بعد عشر سنوات من الثورة. كنا نتابع معتقدين أن القوى الاجتماعية في وضع تناقض تتصارع من أجل المغنم المادي المباشر، وكنا نرى صراعها أكثر مما نرى قدراتها على المناورة التي تجتنب العنف (أو الصراع الطبقي).
نجرب هنا النظر إلى اللحظة من زاوية القدرة على التعديل الوظيفي بديلا عن الصراع الاجتماعي، علما أن التعديل الوظيفي هو في جوهره تغيير في شكل الصراع وفي وسائله دون إلغاء التناقضات الجوهرية أو هو سعي إلى حلها دون عنف مباشر. سيقول البعض إن البحث عن التوافقات بديلا عن المواجهة تسميتان لمنهج عمل واحد التموقع إزاء المنفعة بأقل كلفة من الدم، وهذا ليس تغييرا في طبيعة القوى بل في وسائل العمل.
الرئيس يخرج من الملعب خاسرا
جاء الرئيس من الغيهب الشعبي المجهول بلا تاريخ ولا مجد تليد، وقدم رصيده الوحيد جملة ثورية عن رفض التطبيع مع العدو فاستمال بقية من عاش على رفض الاحتلال وعشق الحرية. لقد تحرك في فراغات تركها سياسيون استعجلوا المغنم فرفضهم الناخب. لكنه سرعان ما استنزف الرصيد الذي بوأه الرئاسة فقد ارتكب خطأين قاتلين؛ أولهما نعته لفترة الاحتلال الفرنسي بالحماية مكتفيا بتوصيف قانوني سطحي، وثانيهما سفره ليقبل كتف قائد الاحتلال القديم مثمنا دوره، ونسي في الأثناء أن يظهر رأسه من تحت قوقعته في مناسبات كانت تقتضي تجسيد قوله عن الخيانة العظمى.
ثم كشف عن وجه غير دستوري وهو الفقيه الدستوري (مجازا لا فعلا)، وكانت آخر محاولاته غير الدستورية توسيع نفوذه المتوهم إلى الاستحواذ على قيادة القوات الأمنية (وزارة الداخلية) بغير ما حدد له الدستور من صلاحيات. ويبدو أن الرغبة في الاستحواذ جاءت بعد فشل تحريك القوات العسكرية ضمن خطته في السيطرة. والاستباق الحكومي بعزل وزير الداخلية وإلغاء قراراته بالتعيين واستبعاد قيادات دون غيرها؛ أسقطت الرئيس قبل وزيره الخاص الذي فرضه بقوة في حكومة المشيشي.
لقد اشتكى الرئيس علنا في بيان رئاسي من أن هناك تعديلا حكوميا يجري تحت سمعه وبصره دون أن يؤخذ برأيه. ونرى أن هذه ستكون سياسة الحكومة في قادم الأيام، وهو موقف واضح إزاء رغبة الرئيس في التوسع (يستعمل التونسيون تعبير "إطفاء" للتعبير عن التجاهل التام). قف عندك أنت غير موجود لتستشار، ونميل إلى أنه لا يملك وسائل احتجاج على ما يجري سوى التظلم العلني لكل من يزور قصره.
لقد حُددت حركته في إطار الدستور بالقوة، بعد أن رفض أن يقف عندها بالفعل. تعديل وظيفي جذري بقصر دور الفاعل الرئيسي نظريا عند حدود النص القانوني، وتوضيح حدود حركة رئيس الحكومة وصلاحيته ضمن نفس النص. يمكننا القول إنه وضع حدود الدستور حيز التطبيق بشكل منهجي ومرجعي.
تحالف نقابات العمال والأعراف
انتهت الصورة التقليدية الموروثة من تخيلنا للصراع الاجتماعي والتي تضع دوما نقابات العمال في مواجهة الأعراف. القوتان لم تعودا مصرتين على الصراع الطبقي، بل تحالفتا ضمن خطة سياسية لفرض شروط المشاركة في الحكم من خارج الصندوق الانتخابي. هناك شعور يتسع بين قوى مختلفة الحكم نفسه بأنه لم يعد ملكا لطبقة محددة.
هذه الحكومة لا تبدو حكومة رأس المال ضد العمال، إنها ليست حكومة العمال أيضا. يمكن أن نتأمل الثقل البيروقراطي للطبقة الوسطى ووجهها الإداري الذي يعبر عنه لوبي المدرسة الوطنية للإدارة (حيث يتحرك رئيس الحكومة براحة تامة)، وحيث لا يرحب بالخطاب اليسراوي ولا بالخطاب الليبرالي الفج، ولكن بخطاب وظيفي تعديلي ينصف الفئات الوسطى أولا، ويحافظ على مكتسبات اجتماعية نحتت عبر نصف قرن من الدولة.
هنا لا تجد النقابة موقعها التقليدي المزعوم ولا يجد رأس المال موقعه ولا قوته التقليدية، ولكن بأية قوة اجتماعية سيتحركان وهما المتناقضان فعلا؟ الأقرب أن يقاسما ولا يخاصما، بما يقرب الحلول التفاوضية/ التوافقية مع كل حكومة. في موقع الفعل هناك خاسر رئيسي في هذه المقاربة، هو النقابة وقوتها اليسارية التي عاشت من خطاب الدفاع عن القوى العاملة. في تحالف مماثل تخرج نقابة العمال نهائيا من الفعل إلى رد الفعل والتذيل. لم يعد يمكن للنقابة تحريك مؤسسات القطاع العام في إضرابات مطلبية، لقد استنزفت هذه المؤسسات وصارت مكاسبها ممكنة عبر الحكومة (حكومتها) أكثر مما تتاح بالاحتجاج.
وتحريك أي مؤسسة في القطاع الخاص بعد الآن يكسر التحالف مع نقابة الأعراف. لقد ضحت النقابة عبر تحالفها مع نقابة الأعراف بالقوى العاملة في القطاع الخاص، حيث توجد فعلا قوة عاملة مضطهدة. فشل الإضراب العام في قفصة والهروب من إضراب عام في صفاقس بتأجيله كشفا هوان النقابة في الشارع المفقر ورفض الناس السير وراءها الآن وغدا. هذه النقابة لم تعد نقابة الشعب كما روجت لصورتها دوما، وهذا تعديل وظيفي مهم في اللحظة والمستقبل قد يعبر عنه بظهور نقابات جديدة مستقلة عن اليسار الوظيفي.
سقوط الأيديولوجيا تقريبا
يمكن القول إن آخر المعارك الأيديولوجية في الحالة التونسية قد خاضها حزب التيار وحركة الشعب ضد حركة النهضة (حزب إسلامي) في العام 2020، وفشل الحزبان حتى الآن في فرض قوتهما بالقانون وبالشارع. يحتفظ فرقاء الأيديولوجيا حتى اللحظة بمواقع برلمانية ويصعدون الخطاب في مواجهة عدمية، ولكن القوة على الأرض لم تعد للتحيز الأيديولوجي، حيث نشاهد هذه الأيام وجوها كثيرة تتردد على مكتب رئيس النهضة طالبة التوزير في التعديل الحكومي الجاري. رغم أن حزب النهضة ليس ممثلا فعلا في الحكومة، ولكنه يشتغل كحزام قوي حولها بحيث يقف المشيشي بالغنوشي في مواجهة الجميع. قوة ناعمة ربما، لكن قوة وظيفية تصلب عود الحكومة وتسمح للدولة بالاستمرار خارج كل أيديولوجيا. (التفكير الوظيفي للغنوشي يتقدم على خصومه بالقتل الرحيم دون التورط في الثورية).
خطاب لعن الإسلاميين لم يعد خطابا جديا يُعتمد عليه محليا وخارجيا لمواجهتهم، فخصومهم لا يملكون وجودا فعليا في الشارع يفوق في أفضل حالاته ألف صوت في مظاهرة.
سقوط التحيزات الأيديولوجية وتقدم التفكير العملي أو البراغماتي هي مرحلة أولى في تعديل وظيفي طويل الأمد، يقدم العمل السياسي (لعبة شطرنج) على الصراع الأيديولوجي الموروث من السبعينيات.
سيكون للتعديل الحكومي الجاري دور توضيح هذه التوافقات الوظيفية، بحيث ترتفع درجة الثقة المتبادلة بين الحكومة الوظيفية وحزامها السياسي البراغماتي (الحكم فعلا من خارج الحكومة)، وسيستبق كل محاولات جر الحكومة وحزامها إلى حوار وطني يفرض تنازلات ذات فعالية لصالح النقابة ويسارها، واحتمال سقوط فكرة الحوار نفسه وارد في قادم الأيام.
لكن كل هذه التعديلات الوظيفية وإن أوهمت باستقرار حكومي الآن وهنا وبعيدا عن رغبات الرئيس المتناقضة، فإنها تظل هشة ولا تفرز حكومة قوية إلا بحلول فعلية لمن يمكن أن يسقط من غربال التحالفات، أي القوى الاجتماعية الماكثة في الهامش الاجتماعي. التعديل الوظيفي لا يحتمل إقصاء مكون وظيفي أساسي وصاحب حق لم يعد يدافع عنه أحد إلا أصحابه، وهم ثقل وظيفي حقيقي. ونؤمن فعلا بأن الفاشية غير مشغولة بفئات الشعب المهمشة، فهي نشاز اللحظة السياسي الذي سندثر من تلقاء نفسه.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: