تونس تسلم أمرها لوباء كورونا والضعفاء يستدعون حلول السماء والحكومة تدعوهم إلى التعايش والصبر، ونجاح السيطرة على المرحلة الأولى صار وراءهم ذكرى طيبة يربطها البعض بشخص وزير الصحة المقال في قلب المعركة، بينما يبرر آخرون أننا على طريق جيراننا سائرون.
رغم ذلك فالورقة التي يكتبها جاهل بالطب تهتم بوباء آخر، وباء سياسي نكتب عنه استباقًا لإصابة محتملة بالوباء الطبيعي، أتحدث عن المعركة بين التيار القومي والتيار الإسلامي على ضوء المواقف التي انتهى إليها ممثلا التيارين في تونس بعد سقوط حكومة إلياس الفخفاخ.
فرحة ما تمت
عندما اشتركت حركة الشعب (حزب قومي) وحركة النهضة (حزب إسلامي) في حكومة واحدة، أملنا خيرًا في رؤية نهاية للصراع بين الحزبين اللذين يمثلان تيارين فكريين وسياسيين يخترقان العرب طولًا وعرضًا، فقد كان الأمل أن العمل الحكومي سيصرف منتسبي التيارين/الحزبين عن الصراع إلى البناء ويشغلهم عن المناكفات فيكتشفون أن صراعهم القديم لم يكن قائمًا على أسس حقيقية، على الأقل في الحالة التونسية التي استوردت الصراع من الشرق ولم تسهم في خلقه.
لكن هذا الأمل لم يعمر طويلًا، فقد سقطت حكومة الفخفاخ ليس بسبب هذا الخلاف بل لسبب مختلف (لم يتسرب من داخل هذه الحكومة أي نبأ يفيد أن وزراء الحزبين وجدا صعوبة في العمل الحكومي المشترك)، لكن سقوطها فرق بين الحزبين فعادا إلى حالة العداء التي أصفها بالوباء بل أجدها أخطر، ولم يظهر أنهما قرءا فوائد التعايش فاستسهلا العداء القديم.
بدرت عن حركة الشعب تصريحات استئصالية مفادها أن لا تعايش في المستقبل مع النهضة مع نبرة انتصارية واهية أقرب إلى التعزية الذاتية، فيما اكتفت حركة النهضة بالمصادقة على حكومة المشيشي التي لا تمثل الأحزاب.
ونجد أن الخلاف بشأن الحكومة يستند إلى ذلك الصراع وليس لاختلاف بشأن برنامج حكم اقترح ورفضته حركة الشعب (الحقيقة أن كل الأحزاب تقدم برنامجًا واحدًا بتفاصيل ثانوية لإظهار اختلاف).
كلفة الخلاف تونسيًا وعربيًا
النبش في جذور الخلاف يذهب بنا بعيدًا، لكنه هنا والآن يعطل كل الاحتمالات الديمقراطية خاصة بعد الربيع العربي الذي شارك فيه الجميع بمقادير وأملت منه الأمة خيرًا كثيرًا، وكان التوجه إلى انتخابات برلمانية في مصر وتونس هو الحامل لاحتمالات المصالحة، إذ إن ممثلي التيارين في البلدين عاشا زمنًا طويلًا في معارضة نظاميهما القائمين (مبارك/الحزب الوطني وبن علي/حزب التجمع)، لكن نتائج الانتخابات قدمت الإسلاميين ووضعت القوميين في مؤخرة ترتيب القوى السياسة الفاعلة على الساحة، فعاد الخلاف إلى السطح وصار الربيع العربي ربيعًا عبريًا عند القوى القومية.
ومن الساحة السورية انتقلت الحرب إلى مصر وتونس، ونحن نعيشها كأننا على إحدى الجبهات السورية، وكل ذلك اللغو الكثيف بشأن عمالة الإسلاميين لقطر وتركيا وعمالة القوميين لإيران ليس إلا مبررات ومهارب متنوعة لعدم تحمل كلفة حوار في تونس أو في مصر يقدم نجاح الديمقراطية الداخلية (في قطر من الأقطار)، واجتناب نقل المعارك من قطر آخر لم تتهيأ فيه ظروف التعايش الديمقراطي.
السؤال الذي لا نظن الفريقين يطرحانه هو: كم كلفة هذا الخلاف على الديمقراطية (السؤال قابل للتوسيع ليشمل كل من يرفض العمل السياسي مع الإسلاميين ويقصيهم)؟ كم كانت فرضية التعايش ستجر من فائدة لا على التيارين فحسب بل على شعوبهما قبل ذلك؟
لننظر في بعض النتائج، لقد ساند قوميو مصر انقلاب السيسي فخسر تيار الإخوان خسارة مدمرة، لكن ماذا ربح القوميون من السيسي؟ عقلاؤهم يدفعون ثمنًا باهظًا للعودة عن موقف مناصرة نظام يخون قضية العرب ويدفع إلى الخيانة بكل قوته، وقد حرمهم السيسي حتى حق الكلام.
وبالعصبية نفسها ساند قوميو تونس الانقلاب وهم الآن في ورطة أخلاقية كبيرة، فوريث عبد الناصر كشف عن خائن قومي ومطبع وعدو للمقاومة، لقد كان العداء للإخوان غمامة مظلمة أودت بالقوميين العرب والأسوأ في كل المشهد أنهم يجدون الآن أنفسهم في نفس الخندق مع الأنظمة المهرولة إلى التطبيع، إذ يشتركان في أمر واحد بل وحيد وهو العداء لتيار الإخوان، ربما يختلفان في الأسباب والمبررات لكن النتيجة واحدة.
لا نرى عاقلًا من هؤلاء يقول خسارتنا من هذه الحرب أكبر من منافعنا لنتوقف هنا ونعالج جذور المشكل، ردة فعل حركة الشعب القومية بعد سقوط حكومة الفخفاخ تكشف أن هذا العاقل لم ينطق بعد وقد لا يكون له وجود أبدًا.
وباء وليس أقل من ذلك
عندما أصف هذا الصراع بالوباء المدمر فأنا أستند إلى تاريخ هذا الصراع، فمنذ ثلاثة أرباع قرن يعادي القوميون الإسلاميين ويحاربونهم، لقد ملك القوميون السلطة في بلدان كثيرة ولم يكن خطر الإسلاميين عليهم حقيقة بل اصطناع سياسي بنيت عليه السياسيات المعادية للديمقراطية لتمحق الإسلاميين وغيرهم، ولم يحظ الإسلاميون بفرص مماثلة لتكون مقارنة علمية، لكن في العقود الأخيرة كان القوميون والإسلاميون في خندق ضحايا الأنظمة غير الديمقراطية وكان المنتظر أن يتفقا على الديمقراطية لكنهما اتخذا الديمقراطية نفسها وسيلة لمواصلة الحرب.
وهو ما يدفعنا إلى استنتاج محبط أن هذه الحرب لن تنتهي إلا بفناء أحد طرفيها، وسيكون ذلك بوسيلة الديمقراطية نفسها، ونعتقد أن من يستثمر الديمقراطية لإقصاء شركائه فيها وبناء الحواجز داخلها سيكشف عجزًا ديمقراطيًا أصيلًا فيه وأن حديث الديمقراطية عنده فاقد للمصداقية ولا ينفذ إلى الناس مثلما لم ينفذ حديث زعماء بلغاء جدًا إلى أرواح شعوبهم فاندثرت أنظمتهم بمجرد اختفاء وجوههم من وسائل الإعلام التي حكموا بها الناس.
سنواجه كورونا وحدنا في تونس، فربما يسمح لنا الوباء بوقت إضافي لنشهد نهاية أفكار كثيرة وتيارات كثيرة فعلت فينا فعل الأوبئة ولكن لم تقتلنا بعد.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: