ينطوي تاريخ الدولة الدكتاتورية العربية الما بعد كولونيالية على سجل حافل من المواقف الخيانية المخزية اللا أخلاقية تجاه القضية الفلسطينية، في عصر علماني يقوم على انفصال السياسي عن الأخلاقي، فما الحاجة إلى تدنيس "الفتوى" التي تعد الأساس الأخلاقي في المجال الديني الإسلامي لتبرير ودعم عقد اتفاقيات سلام مزعوم وتطبيع مذموم بين الدول العربية الإسلامية والكيان الكولونيالي الاستعماري العنصري المدعو "دولة إسرائيل"؟ ولماذا تحتاج الطغم الحاكمة في البلدان العربية الإسلامية إلى مفتين في الشريعة الإسلامية لإصدار فتاوى في قضايا سياسية أقرتها السلطة السيادية للدولة، التي لا تمل من التأكيد على فصل السياسي عن الديني؟
تلك الأسئلة وغيرها أثيرت بعد أن أصدر رئيس مجلس الإمارات للإفتاء، الشيخ عبد الله بن بيه، حكما بجواز السلام والتطبيع بحجة أن "العلاقات والمعاهدات الدولية تعد من الصلاحيات الحصرية والسيادية لولي الأمر، شرعا ونظاما". وإذا كانت العلاقات والمعاهدات تتعلق فعلا بالسلطة السيادية، فلماذا الفتوى أصلا؟ وهل السلطة السيادية، وهي مفهوم سياسي وقانوني يختص بالدولة الحديثة، تنحصر بولي الأمر وهو مفهوم شرعي يختص بالحكم الإسلامي؟ تلك هي تركيبة غرائبية في عوالم الفتوى المعاصرة، تقوم على بلاغة خطابية بائسة، تضفي مشروعية على المستبد والدكتاتور بمنحه صفة ولي الأمر، في الوقت الذي يصف هو نفسه كحاكم لنظام سياسي حديث تتوزع فيه السلطة السيادية للدولة بين الأجهزة التشريعية والتنفيذية والقضائية.
ليست المرة الأولى التي تصدر فيها فتاوى تجيز اتفاقات الخزي والعار تحت مسمى السلام، وهي للمفارقة تصدر دوما بعد إبرام الاتفاق. فقد أصدر مفتي الديار المصرية جاد الحق علي جاد الحق عام 1979 فتوى مماثلة بعد توقيع مصر اتفاقية مع إسرائيل، وبعدها أصدر مفتي عام المملكة العربية السعودية عبد العزيز بن باز عام 1995 فتوى شبيهة بعد توقيع اتفاقيات أوسلو، وسوف تصدر دور الإفتاء في العالم العربي فتاوى مماثلة إذا قرر "ولي الأمر" الدخول في ركب العار.
مؤسسة دار الإفتاء هي إنتاج كولونيالي، فقد أسست دار الإفتاء المصرية عام 1895 في ظل الاستعمار البريطاني، ثم أصبحت جزءا من المؤسسات الرسمية أو شبه الرسمية في الدولة العربية الما بعد كولونيالية. وبحسب الباحث جاكوب سكوفجارد بيترسون، تمثل دار الإفتاء شكيمة الإسلام الرسمي المفضلة للتكييف بين الدولة والدين، والتي تحدد حلولا داخل إطار عمل قوانين الدولة السارية. ومفتي الديار واحد من كبار المفكرين، يسعى لتقديم النظام القائم على أنه طبيعي وعادل ومعطى رباني.
شكلت الفتوى صلب نظام العدالة الأخلاقي للشريعة طوال فترة الحكم الإسلامي، لكن وظيفتها تبدلت وانقلبت إلى نقيضها في العصر العلماني أساسا. فبعد خضوع العالم الإسلامي بداية القرن التاسع عشر للاستعمار الأوروبي، وتفكيك النظام الاجتماعي السياسي الاقتصادي الذي كانت تنظمه الشريعة هيكليا، أُفرغت الشريعة من مضمونها حسب البرفيسور وائل حلاق، واقتصرت على تزويد تشريعات قوانين الأحوال الشخصية في الدولة الحديثة بالمادة الخام. وحتى في هذا النطاق الضيق، فقدت الشريعة استقلالها ودورها كفاعل اجتماعي لمصلحة الدولة الحديثة.
وتشير عزة حسين في كتابها "سياسات تقنين الشريعة"، إلى أن سيرورة تقنين الشريعة جرت وفق عملية فرض وتفاوض معقدة، تقاسمته النُّخبتان الكولونيالية والمحلية، والتي أفضت إلى معضلة مركزة القانون الإسلامي، وتقسيمه إلى نطاقين؛ يختص أولهما بشؤون التجارة وجباية الضرائب والإنتاج "المادي" الذي يخدم السياسات الاستعمارية، ويقتصر الآخر على الأمور الدينية الثقافية من الشعائر وأحكام الأسرة والمواريث وغيرها.
فالنخب المحلية التي ساهمت في تقنين الشريعة، قامت بذلك خدمة لمصالحها في الهيمنة والسيطرة، حيث خدمت عملية تقنين الشريعة ومركزتها مصالح نخب محلية بعينها اتفقت مع أهداف وغايات السلطة الكولونيالية ومصالحها، وصعدت بها إلى أعلى سُلَّم السلطة والثروة، وهي عملية أفضت إلى اختفاء نخب محلية أخرى كعلماء الشريعة، أو أجبرتها على تغيير نظرتها إلى نفسها ودورها. فقد تضافرت عمليات التقنين، والمأسسة، وإحكام السلطة الحاكمة لسيطرتها على الدولة في هذه السرديات، حسب سامي زبيدة، لتجريد المؤسسات الإسلامية من سلطتها والنخب المستفيدة منها؛ لصالح إدارة جديدة وهيكلية قانونية تديرها الدولة العلمانية والنخب الكولونيالية.
يرى البرفيسور المرموق وائل حلاق في كتابه "نشأة الفقه الإسلامي وتطوره" أن الفقه الإسلامي لم يكن أبدا آلية بيد الدولة، وأنه ظهر باعتباره مؤسسة مستقلة أنشأها رجال أتقياء وطوروها، وهم من شرعوا دراسة الفقه وبلورته باعتباره نشاطا دينيا. ويرى أن المفتي كان بمنزلة خبير ومسؤول قانوني تجاه المجتمع الذي عاش فيه، وكان الواجب الأساسي للمفتي هو إصدار الفتاوى، وهي إجابات قانونية شرعية عن مسائل تطرح عليه. وكانت استشارة المفتي مجانية، وهو ما يعني أن النصيحة القانونية كانت متوافرة بسهولة لكل الناس، الفقراء والأغنياء.
ويشير حسين عجرمة إلى أن المحكمة تتمحور بالأساس حول "الحقيقة"، أما الفتوى فتعمل وتتمحور بالأساس حول "المصالحة". ففعل القانون ومن ثم فعل المحكمة هو فعلٌ له تبعات ماديّة وتنفيذية قصرا بخلاف الفتوى، فمسعى المفتي بالأساس هو محاولة تأطير خُلقيّ من خلال المسألة المطروحة أمامه يقدمها للأطراف المتنازعة، وقد تكون لها تبعات مادية أو لا تكون.
يمكن فهم لجوء الأنظمة الدكتاتورية لطلب الفتوى لتبرير فعل لا أخلاقي، لكن ما هي مبررات المفتي؟ ففي كتابه "الحرب والسلام والعلاقات الدولية في الإسلام المعاصر: فتاوى في موضوع السلام مع إسرائيل"، توصل إسحاق رايتر، من معهد القدس لأبحاث إسرائيل، إلى أنه لم يكن الدعم الرسمي عن طريق فتوى يصدرها علماء الدين مطلوبا في حينه من الناحية القانونية الشرعية، ولكنه تبين على الرغم من ذلك أنه بسبب الهجوم الذي شنته أوساط الإسلام الأصولي بالذات، ثمة حاجة ماسة لفتوى شرعية تدعم أعمال الحاكم.
تعتبر الشريعة الإسلامية قاعدة ثقافية مقبولة في المجتمع العربي الإسلامي. لذلك، ومن أجل مواجهة الأطراف المتشددة الأصولية، يتعين على الحاكم "التحدث بلغتهم"، وهي لغة الشريعة. في هذا السياق، ثمة أهمية كبيرة، على المستوى الإعلامي، للفتوى التي تقدم الدعم لموقف الحاكم وتضفي الشرعية على سياسته، وقد أريد منها أن تليّن وتقلص معارضة الجماهير لعقد معاهدات السلام مع إسرائيل، ولكي يصبح بالإمكان إقامة علاقات طبيعية معها بعد التوقيع على الاتفاقية.
الأمر الذي يحتاج إلى مزيد من الدرس والتأمل هو حال المفتي ذاته الذي يصدر فتوى لا أخلاقية باسم الإسلام الذي ينتمي إليه، ومعرفة دوافعه ومبرراته. ذلك أن الأخلاق هي المجال المركزي للإسلام، كما يؤكد الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن، وقد حاجج إدوارد سعيد على مدى عقود على أن فلسطين مسألة أخلاقية فبل أن تكون سياسية، واستطاع أن يعيد تكييف القضية الفلسطينية لدى قطاع عريض من مثقفي العالم، ويغير وعيهم لها من مجرد قضية صراع سياسي بمفهومه الدارج وأبعاده الضيقة؛ إلى قضية إنسانية الدفاع عنها واجب إنساني لأنه دفاع عن قيم أخلاقية كالحق والعدل والحرية في الحياة.
بمكن فهم دوافع الإمارات وبقية الأنظمة الدكتاتورية في حرصها على التطبيع مع المستعمرة الاستيطانية اليهودية على أرض فلسطين، فقد باتت هذه المستعمرة الوكيل الوحيد للإمبريالية الأمريكية في المنطقة، وترغب هذه الأنظمة بالحصول على الرضا الأمريكي من خلال الكيان الإسرائيلي، بعد أن أمطرتها أمريكا بتهم دعم الإرهاب بعد هجمات أيلول/ سبتمبر، وهي تسعى منذ ذلك الوقت للبرهنة على أنها مع السلام وضد "الإرهاب"، وهو مصطلج يكافئ في القاموس الأمريكي والإسرائيلي "الإسلام".
ويتجسد "الإرهاب" حسب هذا المعجم في حقبة ما بعد الربيع العربي بالجمهورية الإيرانية الإسلامية، والحركات السياسية الإسلامية، والمقاومة الفلسطينية، بينما يتجسد "السلام" وتتحقق الديمقراطية في ذات القاموس بـ"إسرائيل". ولا يكفي أن تعلن القطيعة مع الإرهاب، بل لا بد من ملاحقته وحربه، ولا يجدي التغني بمحبة السلام بل يجب التحالف مع معسكره.
تلك هي لعبة المفاهيم وانقلاب القيم، عندما يصبح كيان استعماري عنصري إرهابي رمزا للسلام. فالمستعمرة الإسرائيلية قامت على أسس إرهابوية عنيفة أصلا، حيث انخرط اليهود بتشكيل عصابات منظمة، مارست كافة أشكال الإرهاب وأصناف القتل والجرائم والتطهير بحق الشعب الفلسطيني. فقد قامت إسرائيل على سرقة الأراضي والتي تسمى رسميا بـ"الضم" وطرد السكان. وقد وُصم الصهاينة بـ"الإرهابيين" من طرف الإمبراطورية البريطانية الاستعمارية آنذاك، ثم انقلبت المفاهيم وأصبحت المستعمرة الإرهابية الإسرائيلية تنعت أمريكيا وأوروبيا بـ"الديمقراطية" الوحيدة في المنطقة، رغم تأكيداتها على هويتها العنصرية والعرقية دون مواربة تحت مبدأ "قومية الدولة".
خلاصة القول أن تدنيس الفتوى التي تعد الإطار الأخلاقي المميز للشريعة، واستخدامها في تبرير ممارسات وسلوكيات لا أخلاقية من التطبيع مع كيان غير طبيعي، بعد فاجعة أشد من تطبيع الإمارات وأخواتها، ولا يقلل من فداحة فتوى الديني في العصر العلماني وجود فتاوى مضادة، إذ قد تنقلب إلى ضدها، فقد قال مفتي عام سلطنة عمان، الشيخ أحمد بن حمد الخليلي: "إن تحرير المسجد الأقصى، وتحرير جميع الأرض من حوله من أي احتلال؛ واجب مقدّس على جميع الأمة، ودَين في رقابها جميعا يلزمهم وفاؤه، وإن لم تواتهم الظروف وتسعفهم الأقدار، فليس لهم المساومة عليه بحال، وإنما عليهم أن يدعوا الأمر للقدر الإلهي، ليأتي الله بمن يشرفه بالقيام بهذا الواجب"، وهو لا محالة حاصل. فهل تنقلب فتواه إذا قرر ولي الأمر؟ تلك هي الكارثة.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: