نستبشر ونجمع مؤشرات التفاؤل وننفخ في صورة الأمل بعد قيام حكومة السيد إلياس الفخفاخ في تونس، لكننا نحتفظ بكثير من الواقعية. فقد أعدم صراع النخب في تونس ذلك الفرح الطفولي الذي يشعر به الناس في المناسبات السعيدة، لذلك نحاول استشراف عمر حكومة الفخفاخ عوض السؤال عن نجاحاتها العملية. فهناك في تركيبة الحكومة وفي برنامجها عناصر غير مطمئنة، خاصة أمام إعلام معاد يشعر بالخسران من كل نجاح.
الميراث الثقيل
تواجه حكومة تونس ميراثا ثقيلا، فهي تستلم البلد والمؤشرات الاقتصادية سيئة، والوضع الاجتماعي متفجر وزاده الجفاف بؤسا، فالسنة الفلاحية تنذر بكارثة بعد انحباس الغيث على كامل البلد طيلة الشتاء الماطر عادة. هذه التركة الثقيلة متراكمة منذ ما قبل الثورة، وكل الحكومات بعد الثورة قدمت علاجات ظرفية مؤجلة كل حل جذري بحجج مختلفة.
خُيّل إلى كثيرين أن النقابة قد شاركت في تأليف الحكومة، وأنها بالنظر إلى هذا الدور السياسي الاعتباري ستمنح الحكومة هدنة اجتماعية طالب بها السياسيون النقابة منذ الثورة، لكن إضرابات متوحشة في قطاع التعليم انطلقت منذ الساعات الأولى لعمل الحكومة منذرة إياها ببقاء الوضع على ما هو عليه، وهو ما كشف أن ليس للنقابة رأسا واحدة، وأن القرار بالتحرك الاحتجاجي في أي قطاع لا يعود إلى المركزية النقابية بل للخلفية السياسية الخاصة بكل قطاع. فالأذرع النقابية للأحزاب الباقية خارج الحكومة ستتحرك طبقا لأجنداتها الحزبية بقطع النظر عن محاولات المركزية التهدئة، وسيزداد الأمر سوءا عند الاقتراب من حلحلة معضلة الفوسفات، وليس للحكومة قدرة على تقديم ترضيات سياسية قبل التفاوض على أي مشكل اجتماع واقتصادي معلق، أي أن الهدنة الاجتماعية المرغوبة لن تحصل.
هل ستخوض حكومة الفخفاخ المعركة اللازمة ضد النقابة لتلزمها بحدود معقولة؟ نرجح أنها ستميل إلى مهادنة النقابات وتأجيل التصادم، خاصة أن النقابة هي من اختارت وزيرها للشؤون الاجتماعية وهو أقرب في مواقفه إلى النقابة منه إلى الحكومة، وكل مهادنة تجعل النقابات تمد ساقها في المشهد الاجتماعي وتبتز المرحلة رغم علمها بالصعوبات الماثلة أمام الجميع. وفوق ذلك تستعد النقابة لعقد مؤتمرها في 2020، وقد دأب النقابيون على المزايدة بالتصعيد في الشارع لحيازة مواقع داخل النقابة.
حكومة فسيفساء
توجد في الحكومة خمس مجموعات سياسية متنافرة فضلا عن المستقلين، وتواجه معارضة من أكثر من الثلث المعطل. ورغم أننا نلاحظ بدايات هدوء في الخطاب بين هذه المكونات بعد حروب كلامية جارحة في مرحلة التشكيل، إلا أننا نتوقع وميض نار تحت رماد خفيف. لقد أمضى الجميع على وثيقة سياسية ملزمة تجبرهم على العمل معا لتنفيذ محتوى الوثيقة، ولكن الأثمان السياسية لتنفيذ الوثيقة ستكون مكلفة في المدى المتوسط. ونعرف أن جميع المكونات ترنو إلى انتخابات 2024 وطموحاتها المستقبلية أكبر من أحجامها الحالية، وقد دخلت حكومة الفخفاخ كوسيلة لإثبات وجودها في المستقبل أكثر من رغبتها في إنجاح الحكومة الحالية.
تنفيذ وثيقة الحكم سيمر بالخضوع إلى شروط المقرضين الدوليين، حيث ستخوض الحكومة تفاوضا مذلا حول برنامج الأليكا (العلاقة مع الاتحاد الأوروبي). ولهذا ثمن سياسي في الراهن وفي المستقبل، ونرجح أن أي مناورة للقبول ستكلف أحزاب الخطاب الثوري (حركة الشعب بالذات) الكثير من رصيدها. فمسؤولية تبرير تقليص التشغيل في الوظيفة العمومية تقع على وزيرها في وزارة التشغيل، بينما يجد وزيرها على التجارة نفسه مجبرا على قيادة التفاوض وإمضاء التنازلات التي بنى الحزب نفسه على رفضها.
وإلى ذلك نراقب الشحن الإعلامي المعادي للحكومة، والذي بدأ يحرّض بعض مكوناتها ضد بعض محاولا دق الأسافين بين الأحزاب. ويبدو أن هناك استجابات لهذا الشحن، ودليلنا أن ظهور حالة أولى من وباء الكورونا لم ينتج موقفا موحدا من مكونات الحكومة المتنافرة رغم مرور أكثر من خمسين ساعة عليه، بل حمّل الإعلام مسؤولية ظهور الوباء لوزير الصحة (من حزب النهضة) كأنه جلب الوباء في حقيبته، ولم يعلن رئس الحكومة موقفا وطنيا موحدا في التصدي للوباء حتى الساعة.
العلاقة الإشكالية مع رئس الدولة
يستشعر التونسيون ضغينة تكبر تحت غطاء المجاملات الرسمية بين رئيس الدولة ورئيس البرلمان (رغم أن حزبه منح تصويته للرئيس في الدور الثاني). ونرجح أن تظهر الخلافات للعلن إذا أصر رئيس البرلمان على دفع التعديل في القانون الانتخابي الثلاثاء (3 آذار/ مارس) أو ما اصطلح عليه بقانون العتبة (5 في المئة)، حيث تبين أن حزام الحكومة (130 صوتا) ليس متفقا على التعديل، فحركة الشعب ترفض ذلك وتميل إلى موقف الرئيس الذي يعتزم تعديل النظام السياسي بتعديل جذري على القانون الانتخابي.
هذا اختبار أول لتماسك الموقف السياسي داخل الحكومة ولشكل العلاقة مع الرئيس نفسه الذي يتمدد على حساب الحكومة، محاولا في ذات الوقت إلزام رئيس البرلمان بدوره التشريعي دون لعب أي دور سياسي خاصة في المجال الدبلوماسي.
لا يوجد إلزام أخلاقي أو سياسي لمكونات الحكومة في أن تكون على موقف موحد في جميع الملفات السياسية خارجها، لكن كل خلاف خارج الحكومة سيكون له أثر على عمل مكوناتها في التنفيذي، وهذا سبب إضافي لاضطراب عملها، وفي غياب الأجندة السياسية الموحدة لمكونات الحكومة سيشتغل كمعيق لكل اتفاقاتها في التنفيذي، وهذه حقيقة مخيفة.
فضلا عن ذلك، فإن أي خلاف حول تحقيق رغبات الرئيس وأجندته السياسية الخاصة سيشتت موقف الحكومة وينتج عزلة بين رأسي التنفيذي تباعد بين الأحزاب، وسيكون التصويت على قانون العتبة مؤشرا على مستقبل العلاقة مع الرئيس، حيث من المنتظر أن يصوت حزب قلب تونس مع النهضة، بما يوسع الفجوة بين الغنوشي وسعيد؛ المعادي للقروي والراغب في حرمانه من أي دور سياسي مستقبلي.
المشهد برمته يتقدم في الهشاشة ويسير على حد السكين، وكل عناصره تتصيد أخطاء بعضها البعض لمراكمة مكاسب على المستقبل (2024) عوض الدخول في مرحلة تعاون جدي، وهي أجواء غير ملائمة لمواجهة جذرية مع الميراث الكارثي الذي وجدته الحكومة. ونرى الفخفاخ في مهمة ربان في عاصفة بأشرعة حريرية.
سنطيل بالنا فترة أطول مع هذا الوضع الهش، وندعو للحكومة والدعاء ليس عنصرا من التحليل.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: