طال مسار تشكيل حكومة تونس حتى صارت الكتابة فيه مبعثًا على الملل وقد نلتقط عبارات القرف في مواقع كثيرة، فقد أنتجت مناورات التشكيل الحزبية حالة من اليقين أن الجماعات الحزبية غير جادة وليس لها خطط حكم ضمن أفق ديمقراطي، لذلك نتدبر مهربًا في الكتابة عن بعض الأعراض الموازية التي تظهر في هامش العمل السياسي التونسي منذ الثورة وهي سبب آخر للخيبة ونرى الكثير منها ردة فكرية وسياسية عن آفاق القرن الواحد والعشرين الديمقراطي بالقوة، ومن وجوه الردة الدعوات إلى طرد العرب من شمال إفريقيا باعتبارهم قوة احتلال، وبعضها دعوة إلى التشيع المذهبي الذي ينتهي فجأة إلى موالاة إيران ومواقفها وتحركاتها السياسية في المنطقة العربية خاصة.
سنحاول طرح بعض الأسئلة عن دخّان التشيع الذي يظهر في تونس دون زعم الإحاطة بكل خلفياته، فالتقية الشيعية تحرمنا من المعلومات.
التشيع قبل الثورة في تونس
المعلومات المتوافرة عن الموضوع لا تشفي الغليل، فالتقية منهج عمل يضن بالمعلومات على الباحث لذلك ننصح بعدم اعتماد التاريخ الظاهر والأسماء التي اشتهرت سواء بمنطقة قابس أم سيدي بو زيد، فقبل الثورة كانت هناك مجموعات (يقال إنها متشيعة لخط الإمام وتروج لأن الإسلام الثوري هو الإسلام الشيعي على خلاف الإسلام السني المهادن للأنظمة ويفتي بالخضوع والطاعة ويحرم الثورة والمعارضة)، لكن هناك معطى غير مذهبي مهم هو الحماس للثورة الإيرانية منذ انطلاقها وهو حماس تحول لاحقًا إلى إعجاب بالدولة الإيرانية الساعية إلى امتلاك القوة النووية ضمن أفق معاداة الإمبريالية الأمريكية ومعاداة الكيان الصهيوني، وحتى حرب 2006 وانتصار "حزب الله" اللبناني الشيعي لم يخبُ الحماس لإيران التي تساعده وتسلحه.
هذا الحماس غير المذهبي كان مواصلة لحماس شامل لكل من يشتم منه نفس تحرري ويمكن قياسه إلى الحماس لكل نظام عربي حاول أو تكلم بخطاب عدائي للكيان بما في ذلك الإعجاب الدائم بملك السعودية التي وضع النفط العربي في معركة التحرر في حرب 1973 والإعجاب أو الحماس نفسه لصدام حسين الذي وجه صواريخ ضد الكيان في وقت لاحق، نفس هذا الحماس عبر عن نفسه في الربيع العربي بشعار الشعب يريد تحرير فلسطين بالتوازي مع الشعب يريد إسقاط النظام.
أكثر المتحمسين للثورة الإيرانية كانت جماعات الإسلام السياسي السني في تونس والمنطقة العربية عامة وكان من حماسهم للثورة الإيرانية أن عادوا نظام العراق الذي كان يضطهد شعبه السني والشيعي بلا تمييز، وكان انحيازًا واضحًا وصريحًا رغم أنهم كانوا يلتقون فيه مع النظام السوري ونظام القذافي اللذين كانا يضطهدان جماعات الإسلام السياسي في قطريهما وهي من المفارقات.
التشيع بعد الثورة أطل برأس جديدة
مرة أخرى هذا المقال لا يقدم معلومات تاريخية دقيقة عن التشيع في تونس، فالتقية لا تزال فاعلة، لكن هناك كثيرًا من المعلومات المتناثرة عن دور السفارة الإيرانية في تونس وعن الرحلات المنظمة إلى إيران للاطلاع على مكاسب الثورة والدولة الإيرانية، حيث توجد أحزاب مجهرية (في الظاهر) تمولها إيران وتوجد جمعيات ثقافية تتلقى تمويلات، كما دافع مثقفون بشكل فجائي عن السياسات الإيرانية في المنطقة العربية وخاصة تدخلها في الحربين السورية واليمنية.
يقول البعض ساخرًا إن هذا تشيع تحسين مسكن، فبعض من تحمس مؤخرًا لإيران أكمل بناء بيته أو زاد طابقًا أو امتلك سيارة ما كان له أن يقتنيها قبل ذلك، لكن قبل المردود المادي الذي يعاين بسهولة تميز التشيع الجديد بحماس مذهبي عند البعض ممن كان إسلاميًا سنيًا خاصة بينما تميز أكثر بحماس سياسي لفئات كانت على عداء مطلق للثورة الإيرانية وخاصة الجماعات ذات التوجه العروبي بما في ذلك من كان ولا يزال يصلي لصدام حسين ضحية إيران.
هذا الحماس استعار كل أساليب النقاش السياسي بل العراك السياسي القديم الذي حكم النقاشات الإيديولوجية طيلة النصف الثاني من القرن العشرين، فكل قول ضد دور إيران في المنطقة يدمغ بسرعة بأنه دفاع عن النظام السعودي الرجعي العميل للصهيونية، ولا يبقي المجادل لمحاوره أي فرصة للقول بأن المرء يمكن أن يرفض الموقفين من الثورة السورية، فلا السعودية ناصرت الشعبين السوري واليمني ولا إيران فعلت، ولكن الجدال بشأن الثورة الإيرانية يقبل موقفًا وحيدًا هو أن الثورة السورية مؤامرة على خط الدفاع الأخير ضد الصهيونية، ولذلك فهي ليست ثورة بل ربيع عبري.
في تونس يوجد تفصيل مهم وجب التذكير به، الحماس لدور إيران في سوريا واليمن يترجم بمعاداة النظامين القطري والتركي دون غيرهما، أي مهادنة النظامين السعودي والإماراتي. حماس يشترك فيه المتشيعون مذهبيًا والمتشيعون سياسيًا، فنكتشف في التشيع الظاهر موقفًا سياسيًا من تيار الإسلام السني ممثلًا في تيار الإخوان المسلمين وأشياعهم الذي ضربته السعودية في مصر بنصرة الانقلاب العسكري وضربته في اليمن بضرب تيار الإخوان (حزب الإصلاح) الذي كان يتقدم إلى قطف نتيجة الثورة اليمنية في صناديق الانتخاب.
هنا يدخل في المعركة اليسار العربي (بما فيه البعثي القومي) المعادي للتدين جملةً وتفصيلًا ليصير منافحًا عن الموقف الإيراني السياسي والعسكري في المنطقة والتشيع المذهبي في خلفيته، بما يحول المعركة أو يوضحها في الحقيقة. التشيع بعد الربيع العربي هو موقف سياسي أولًا من الثورة التي أفسحت مجالًا سياسيًا لتيار سياسي سني عاش نصف قرن أو أكثر من الاضطهاد السياسي ومنحه الربيع العربي فرصة حياة جديدة، بما يعيدنا إلى أولى المعارك في المنطقة العربية عامة وتونس خاصة.
التشيع هنا وإن زعم أن له وجهًا عقائديًا عند البعض دون الجميع هو في جوهرة مواصلة لمعركة قديمة بوسائل جديدة أو بممول جديد. هو عنوان معركة سياسية بين تيار التحديث العلماني وتيار الإسلام السياسي السني، لذلك لا غرابة أن نجد هذا الاجتماع بين مكونات غريبة لا جامع بينها إلا محاربة الإسلام السياسي السني وبالتخصيص تيار الإخوان المسلمين حيث ما تشكل لهم وجه سياسي (الإصلاح اليمني والنهضة التونسية وإخوان ليبيا وإخوان سوريا) ولا يمكننا إلا أن نعاين أنه التقاء موضوعي مع الموقف الصهيوني من نفس الحركة الإسلامية.
ما سر الالتقاء الغريب مع إيران؟
يمكن استقراء الخطة الإيرانية لنشر نموذجها السياسي في المنطقة واستعمال قضاياها وبالتحديد القضية الفلسطينية في معاركها القومية. هنا نعيد المراجعة مضطرين فـ"حزب الله" اللبناني وغير بعيد منه تمويل حماس والجهاد في الأرض المحتلة هو تمويل لمخلب القط المتقدم في حرب إيرانية أمريكية لدفع خط الدفاع بعيدًا عنها، فهي تشاغل أعداءها بعيدًا عن أرضها وتخوض حروبها بغير جندها. لذلك سهل عليها نقل قوات "حزب الله" إلى الداخل السوري واستعمالها بعد أن كنا لا نسمع إلا أن بنادقه مرابطة على حدود العدو وموجه حصرًا إليه، ولذلك أيضًا جففت تمويل حماس في لحظة حماسها لنظام مرسي والإخوان سنة 2012.
ما يسبب الحرج في استقراء الخطة أن تمويل المقاومة بالداخل بسلاح إيراني يقع تحت حكم الضرورة التي لا مهرب منها، فلا بديل عنها أمام تكالب بقية الأنظمة العربية وهي سنية مذهبيًا على المقاومة ومحاصرتها والتنسيق مع العدو لذبحها وإنهاء كل نفس مقاوم.
في إطار الخطة نفسها خربت إيران الثورتين السورية واليمنية ملتقية بالصدفة مع الموقف السعودي والإماراتي وفي إطارها تقف موقفًا عدائيًا من انتفاضة العراق ولبنان السلميتين اللتين تقاومان النفوذ الإيراني الذي كشف وجهه الطائفي في العراق ولبنان ولا يستبعد أن يستأنف الحرب في سوريا رغم المعارك الحاسمة للنظام في إدلب والشمال السوري.
هنا نفهم موقفها من الثورة المصرية والتونسية اللتين أفسدتا عليها خطة سيطرة جغرافية وسياسية واسعة بغلاف مذهبي، وهنا نجد مخلب القط الشيعي في تجربة تونس التي لم تجد لها إيران عسكريًا ينقلب عليها، فهي تتسرب داخلها مغتنمة فجوات الحرية في التنظيم السياسي والنشر الإعلامي والثقافي ولو بغلاف لم يفقد منهج التقية، حيث يتلحف هذا التشيع بلحاف ثوري مبرزًا التردد الذي يعيشه الإسلام السياسي السني تجاه أنظمة الخليج السنية، فيصمه بسهولة ويسر بالرجعية والخيانة والعمالة للأمريكان والصهاينة.
لنختصر القول بتشيع تونسي فيه الكثير من المجاز، ففضلًا أن بعضه هو تشيع تحسين مسكن فإن كثيرًا منه تقية ثورية تواصل حربًا إيديولوجية، وهنا نفهم سر اللقاء بين يسار عربي وتشيع سياسي ما كان لهما أن يجتمعا يومًا في تناغم لولا الخشية من أن تمتد نار الربيع العربي إلى هشيم الطائفية الدينية فتحرقه وتدفع النقاش خارجه فتدخل الشعوب ربيعها بمشتركات أخرى ليس منها مناحات عاشوراء. إنه تشيع تخريبي لا يختلف في شيء عن تخريب الصهاينة للربيع العربي.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: