درس بريطاني: هكذا تصدت تاتشر للاضرابات والاعتصامات
ميدل إيست اون لاين المشاهدات: 1894
تعد مارغريت تاتشر واحدة من اكثر الشخصيات تآثيرا في القرن العشرين. وقد طبع إرثها السياسي تآثيره الواضح على من خلفها في الحكم من المحافظين والعمال. وتميزت فترة حكمها التي امتدت على مدى 11 سنة، فازت خلالها في ثلاث انتخابات متتالية، بأسلوب من الحزم والمواجهة أحياناً. كانت اول امرأة تتولى هذا المنصب في بريطانيا واطول رئيس للوزراء منذ عهد الملكة فيكتوريا التي حكمت 61 سنة من عام 1837 الى عام 1901.
قبل تاتشر كانت بريطانيا في طريقها الى ان تصبح دولة من العالم الثالث. ففي الوقت الذي أخذت بلدانا عديدة، المنهزمة عسكرياً والمرهقة اقتصادياً، على اعادة بناء اقتصادياتها، فان بريطانيا المنتصرة في الحرب بدأت تعاني مزيدا من الضعف الذي افقدها مكانتها الدولية المشهورة. وفي الستينيات من القرن المنصرم وصل اقتصادها الى مواقف حرجة. كان الاتحاد العام للعمال الذي يستمد جذور قوته منذ عام 1870، يبتز الحكومات المتعاقبة ويدفعها الى زيادة أجور متتالية للعمال والموظفين وتقليل ساعات العمل وتوظيف المزيد منهم، دون ايجاد أية علاقة بين زيادة الاجور والانتاجية، الامر الذي ادى الى اضعاف انتاجية العمال البريطانيين مقارنة مع اقرانهم في الدول الاوروبية.
ومن جهة اخرى فان الجهاز الاداري للدولة اصبح متخماً ومترهلاً بموظفين فائضين عن الحاجة وقليلي الكفاءة والانتاجية. ومع غياب مفهوم العمل والانتاجية أصبح الامن الوظيفي وصفة للترهل الوظيفي.
اصبحت بريطانيا بطيئة الاستجابة لمتطلبات التجديد التكنولوجي والاقتصادي. نقابات العمال كانت تعارض الخطط المؤدية الى رفع كفاءة العامل لخشيتها الساذجة في أن يؤدي ذلك الى تقليل فرص العمل..وكانت النتيجة أن فقدت بريطانيا قوتها التنافسية في عالم تعصف به التحولات الجذرية.
وامام الزيادة المستمرة في اعداد العاملين وزيادة رواتبهم وتقليل ساعات العمل مصحوبة بضعف الانتاجية وانسداد افاق التوسع الاقتصادي، واجهت المصانع والشركات مصاعب جمة أدت الى افلاس أعداد كبيرة منها من جهة وانتقال الاستثمارات البريطانية الى الخارج من جهة اخرى..وبلغت اعداد الباحثين عن العمل في عام 1979 نحو ثلاثة ملايين عامل يمثلون نحو 25% من جملة القوة العاملة البريطانية مقارنة مع 4% في الولايات المتحدة التي ربطت عملية رفع الاجور مع زيادة الانتاجية وتوسيع افاق الاقتصاد والتجديد التكنولوجي ومتطلبات العرض والطلب.
الاتحاد العام للعمال في بريطانيا، اتبع سياسات ابتزاز الحكومات المتعاقبة عن طريق تهديدها المستمر بالاضرابات والاعتصامات كلما شعر ان الحكومة لا تستجيب لمطاليبه.
والاموال المقدمة للمضربين والمعتصمين التي كان الاتحاد يقدمها، كانت تأتي من الحكومة مباشرة ومن رواتب العمال والموظفين أنفسهم. تاتشر كانت مصممة على وضع نهاية لقوة ونفوذ النقابات وكانت مدركة أن عملية التشغيل مرتبطة بتوسيع أفاق الاقتصاد وتحسين مستويات الانتاجية وليس مع دفاتر الحضور والانصراف، كما أن العرض تقدمه شرائح ومستويات متباينة حسب مستويات التعليم والتدريب والتأهيل والخبرة والانضباط والمؤهلات الشخصية، وأن زيادة اعداد العمال والزيادات العشوائية في الاجور دون زيادة في الطلب أو تحسين الانتاجية تؤدي الى سقوط الاقتصاد في فخ التضخم المنفلت وتسريح العمال.
اتجهت تاتشر نحو عدة مسارات قانونية ومهنية في آن معاً، منها التقليل من سطوة الاحتكارات الكبيرة واضعاف اتحادات العمال عن طريق سن القوانين الضرورية وتكثيف برامج التدريب والتأهيل وتقديم المساعدات الضرورية لتشجيع العمال على التشغيل الذاتي.
كانت مقتنعة ان زعماء النقابات ينفذون اجندة شخصية خاصة عن طريق دغدغة عواطف العمال ومطالبهم الانسانية المشروعة وكانت تصف الاتحادات بـ"اعداء الداخل".
نجحت تاتشر في اصدار قانون ينتزع حق اعلان الاضراب والاعتصام من زعماء النقابات الى العمال انفسهم شريطة موافقة 85% منهم على الاضراب او الاعتصام ومنع النقابات من تعويض العمال اذا لم يكن الاضراب حائزاً على النسبة القانونية المطلوبة. وعندما تم تجاهل القانون، صدر قرار قضائي بتجميد اموالها.
اضافة الى ذلك اصبحت نقابات العمال ملزمة قانونا بدفع غرامات باهظة اذا ما دعت الى اضرابات أو اعتصامات غير قانونية كتعويض عن الاضرار الكبيرة التي تلحق بالمصالح العليا للدولة..هذا الامر أدى الى نشوء ازمة كبيرة بين العمال الذين يساهمون بجزء من رواتبهم لدعم ميزانية اتحاداتهم وبين قياداتها.
اتبعت تاتشر ايضاً سياسة واضحة بعدم الاصغاء لمطاليب العمال غير المعقولة كما وضعت حداً لسياسات الترضيات المتبعة من الحكومات السابقة. ومن اجل ذلك استعانت بالجيش والشرطة لتجاوز الشلل الناتج من الاضرابات المتكررة وواجهت بنوع من الحزم ما تعرضت لها الدولة من مساس في هيبتها.
وعلى سبيل المثال عندما قررت الحكومة اغلاق عدد من مناجم الفحم ذات التكلفة العالية، قامت على بناء مخازن للفحم واوعزت لقوات الجيش والشرطة لخزن كميات كافية منه، الامر الذي افشل اضرابا قاسياً في عام 1985 لعمال الفحم استمر عاما. ومع فشل ذلك الاضراب وولى عصر كانت النقابات العمالية تملي على الحكومة ما يجب ان تعمله.
ومن جهة أخرى بدأت تاتشر باتباع سياسات تستهدف تعويض العمال المنتجين والملتزمين من خلال قوانين تربط العلاوات طردياً مع اداء الشركات وانتاجية الموظفين، اكثر من اعتمادها على الاجور الثابتة.
وساهمت تلك الخطوة الى عدم اكتراث العمال لدعوات الاضراب والاعتصام، والى قيام اعداد متزايدة من الشركات والمصانع على تجاهل تهديدات النقابات، الامر الذي دفع النقابات الى عقلنة مطالبيها المتعلقة بالزيادات العشوائية او تقليل ساعات العمل أو الاحتجاج عندما يتم التخلص من العمال غير المنتجين والطلب من العمال التركيز على زيادة الانتاجية كوسيلة لزيادة أجورهم الحقيقية.
وكلما كانت الشركات تربح أكثر كانت تقوم بتوزيع بعض من أرباحها للموظفين والعمال تتناسب مع انتاجيتهم. وسرعان مابدأت عمليات التشغيل تتسارع. ازداد الطلب على العمال ولا سيما الجيدين منهم الامر الذي قلل المعروض منهم..وكل ذلك ادى الى الارتفاع التدريجي للاجور..اما هؤلاء العمال اللذين كانوا يرفضون قبول الاعمال المعروضة عليهم وفق الاجور السائدة، فانهم بدأوا يتقاضون تعويضات اقل من الحكومة ونقابات العمال كلما بقوا خارج سوق العمل وصولا الى فقدانهم من الحصول على اية تعويضات، الامر الذي أدى الى حدوث فروقات كبيرة بين مستويات المعيشة بين الذين يعملون والذين لا يعملون.
وكنتيجة لذلك بدأ اعداد الباحثين عن العمل يقبلون بالعمل حسب الوظائف المعروضة والاجور السائدة، مع بذل جهد اكبر لتحسين مستوياتهم وانتاجيتهم لتحسين اجورهم.كل ذلك اوجد تحسنا في الاحوال الاقتصادية.
ومع تحسن اداء الشركات وزيادة القوة الشرائية بدات الخزينة تحصل على مبالغ اضافية من الضرائب المتحصلة كما رفدت مبالغ اضافية الى صناديق التقاعد، كما بدأت الحكومة على مساعدة الاشخاص الذين يعملون على التشغيل الذاتي كجزء من نشر ثقافة الابداع والعمل والاعتماد على النفس..وتضمنت تلك السياسات انشاء مراكز الارشاد والتدريب وتقديم القروض للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة. ومع مرور الوقت زاد اعداد الاشخاص الذين يعملون ذاتياً ولحسابهم الخاص.
نجحت تاتشر على تحسين الاوضاع الاقتصادية وعلى ايجاد سوق عمل أكثر كفاءة ورشاقة. ركزت على اهمية انصراف المواطن للعمل بشكل جدي بدل الاعتماد على مساعدات الدولة التي كانت تشجع أحيانا الباحثين عن عمل من عدم القيام باي جهد بحثا عن الوظيفة. ادركت ان لا دور لبريطانيا في العالم الجديد من دون دور اقتصادي قوي. تمكنت ايضا من تقليل دور الحكومة في الاقتصاد عن طريق خصخصة الشركات الكبيرة التابعة للحكومة والتي كانت تعاني بدورها من مشاكل كبيرة واعطت الفرص لعشرات الالوف من الاشخاص ان يمتلكوا اسهمها.
كما مكنت نحو 1.25 مليون بريطاني ان يمتلكوا منازلهم لاول مرة. نجحت ايضا على تخفيض اعداد العاملين في الجهاز الاداري للدولة الذي كان يعاني من مشاكل التضخم الوظيفي وضعف الانتاجية.
شددت تاتشر بداية من سياساتها النقدية وسمحت بارتفاع معدلات البطالة كوسيلة لايجاد الحلول عن طريق الصدمات. احد المتابعين علق على ذلك قائلاً: "تجربتها اثبتت ان السلطة التنفيذية يجب ان تكون لديها قناعات راسخة لان الناس ليس لديهم اي وسيلة ليقرروا بأنفسهم، الا اذا توفرت لدى السلطة التوجه السليم الواجب اتباعه."
وضعت خطة بعيدة المدى لانهاض الاقتصاد البريطاني..ورغم الصعوبات الاولية فانها نجحت اخيرا على صنع ما سميت بـ"المعجزة البريطانية" في الثمانينيات من القرن الماضي. سياساتها المالية ادت الى ان تصبح لندن واحدة من اكثر عواصم العالم حركة ونشاطا في المجال النقدي..واجهت انتقادات قاسية ولكن حتى الطبقات الفقيرة التي عانت من قساوة "المرآة الحديدية" لفترة اكتشفت مع الوقت انه لم يكن هناك من خيار اخر لانهاض بريطانيا من جديد. قال عنها احد وزرائها "انها لا تكترث بالشعبية الانية بل يهمها العمل على بناء شعبية طويلة الامد".
واليوم ونحن نشاهد على امتداد الوطن العربي اضطرابات واضرابات واعتصامات التي لها جذورها ومضاعفاتها واعراضها وظواهرها علينا ان ندرك ذلك ونستفيد من تجارب الدول الاخرى. وعكس ذلك فان الفوضى التي تعم المنطقة قد تسحب معها ـ اذا ما استمرت ـ زلازل عنيفة على شقوق وانفلاقات جاهزة للزلازل، وهو من اخطر الاحتمالات التي تواجه المنطقة.
وربما يكون من المفيد لحكومات المنطقة ان تتذكر نظرية في علم ادارة الازمات ترى انه "اذا لم تجد الازمات ادارة تخطط وتنظم لحلها، فانها سوف تجد لنفسها حلا بغير تخطيط وبغير تنظيم تكسر به من عقدها المستعصية".
واملي ان تستطيع المنطقة ايجاد حل للازمات مخطط ومنظم بدلا من ان تترك الازمات تحل نفسها بغير تخطيط او تنظيم. والحلول الوقتية لضخ مزيد من العمال والموظفين غير المؤهلين ورفع اجورهم والرضوخ للمطالب غير المعقولة يؤثر على العمال والشركات ويؤرق الموازنات العامة دون ان يحل المشاكل المتعاظمة والموروثة.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: