يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
لم تعرف تونس في تاريخها حتى عندما كانت ترزح تحت الاحتلال الإسباني أو الفرنسي أو تحت كل الحكام الذين تداولوا على حكمها منسوب العنف الذي استشرى في العهد البورڨيبي.
لم تعرف البلاد في تاريخها مجازر شبيهة ب 26 جانفي 1978 أو 3 جانفي 1984 التي حصدت المئات في يوم واحد أو محاكمات بالآلاف المؤلفة وإعدامات بالجملة: ( اليوسفية، مجموعة لزهر الشرائطي، اليسار، القوميون، النقابيون، الإسلاميون )... لم تنج عائلة واحدة بما فيهم الدساترة من سيف بورڨيبة الحداثي الذي تسلط على رقاب العباد لسنين طويلة.
هذا الكم الثقيل من العنف المتواصل كان ردا على رغبات جامحة في الانعتاق والحرية.
هذا المنسوب الرهيب من البطش قتل موهبة الإبداع عند شعب عاش تحت الرعب .
لم تبرز خلال الحقبة البورڨيبية مرجعيات في شتى ضروب الإبداع والتميز.
بل أصبحت الرداءة السمة المميزة في ساحات الفكر والثقافة و العلوم والسياسة.
عرفت تونس ما قبل بورڨيبة فطاحلة و رموز في شتى مناحي الإبداع الفكري و الثقافي.
كان شعراء تونس أبو القاسم الشابي و الشاذلي خزندار وسعيد بوبكر وأدباؤها علي الدوعاجي و بشير خريف و مفكروها الطاهر الحداد وفاضل بن عاشور ونقابيوها محمد علي الحامي و فرحات حشاد و بلڨاسم الڨناوي وأهل الرأي و السياسة عبدالعزيز الثعالبي و محمود القليبي والبشير صفر وصحافيوها الهادي العبيدي ومحمد العريبي وحسين الجزيري وفنانوها صليحة وخميس الترنان وفي المسرح محمد الحبيب وعبدالعزيز العڨربي وفرحات وزبير التركي في الرسم والحركة النسائية مع بشيرة بن مراد وأخواتها فضلا عن الحركة الفكرية والأدبية التي احتضنتها الزيتونة والخلدونية والصادقية بل وصلت إلى المقاهي ( مقهى تحت السور ) و الصالونات الأدبية و الفكرية المنتشرة في البيوت ثم حركة إصلاح ديني كبيرة قادها الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور لخصها في كتابه " أليس الصبح بقريب " وهكذا في شتى ضروب الفكر و الفن والسياسة.
توقف هذا المد الإبداعي العظيم و بدأت ثقافة الابتذال والرداءة والتسبيح بحمد بورڨيبة فهو الصحافي الأول والمفكر الأول ورجل المسرح الأول ( كانت تظهر بعنوان كبير على صفحات الجرائد) أما السياسة فهي بورڨيبة وحده و لا شيء غيره.
بعد الاستقلال مباشرة حاول الفكاهي المبدع صالح الخميسي التعبير عن الوضع الاجتماعي بالطريقة الهزلية التي دأب عليها فألقى به بورڨيبة في السجن ومنع أغانيه في الإذاعة ومات بعدها الرجل كمدا و حسرة.
مثلت هذه الحادثة شهادة وفاة لكل تفكير خارج السلطة و بدأ بورڨيبة في حملة واسعة على كل أشكال الحرية و الإبداع و دخلت البلاد في ثقافة "ڨافلة تسير" و " مدائح و أذكار "
و " توجيهات الرئيس " واحتفالات 3 أوت ،( عيد ميلاد الزعيم ) الذي يتواصل لأكثر من شهر يتجند فيه الشعراء والأدباء والفنانون للتسبيح بحمد المجاهد الأكبر.
و تبقى الخطيئة الكبرى ما فعله بجامع الزيتونة نبع الإبداع الذي عرفته تونس على مدار تاريخها و حارس هويتها و عنوان مجدها و عزها بين الأمم..
مع غلق الجامع الأعظم و مصادرة أملاكه التى وزعها بورڨيبة على الأصدقاء والمجرمين الذين ساعدوه على تصفية الفلاڨة واليوسفية دخلت البلاد في صراع مع ذاتها وهويتها و من حينها وهي تعاني هذا الانفصام النكد الذي لا تزال آثاره المدمرة تؤز المجتمع أزا وتشغله عن قضايا الترقي الحضاري وتغرقه في الهامش وٱخر تعبيراته لجنة بشرى ومدرسة الرڨاب و الجرأة على الإسلام والأخلاق العامة في وسائل الإعلام و الثقافة.
ولعل هذا هو سبب افتتان عموم النخب الحداثية ببورڨيبة وهو الذي لم يكن يوما حداثيا ولا ديمقراطيا .
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: