البدايةالدليل الاقتصادي للشركات  |  دليل مواقع الويبالاتصال بنا
 
 
 
المقالات الاكثر قراءة
 
تصفح باقي الإدراجات
أحدث المقالات

قراءة في واقع اليسار العربي المغترب عن شعبه

كاتب المقال نور الدين العلوي - تونس   
 المشاهدات: 2799



طرحت سؤالاً في مقال سباق عن سر قوة الإسلاميين في التأليف الحزبي مقابل فشل اليسار والقوميين العرب والليبراليين في بناء أحزاب جماهيرية، وقد تتبعت بعض مظاهر قوة حزب النهضة الإسلامي في تونس وأسبابها، بينما بقي السؤال معلقًا بخصوص بقية التيارات الفكرية والسياسية العربية كما صنفها محمد عابد الجابري المفكر المغربي المعروف، سأتحدث هنا عن وجوه فشل اليسار العربي في بناء الأحزاب الجماهيرية.

المشهد متقارب جدًا في بقية الأقطار العربية، ففي المغرب حيث تبنى تجربة سياسية تعددية يتقدم الإسلاميون وتنهار بقية المنظومات السياسية الحزبية، وفي مصر ورغم القمع المتواصل لحركة الإخوان فإنها ظلت ومنذ التأسيس التيار الغالب الذي كلما سنحت فرصة انتخابات نظيفة ربحها، وينسّب الأمر في بقية الأقطار والجميع يتذكر التجربة الجزائرية في تسعينيات القرن المنصرم.

يقول كثيرون إن الإسلاميين يفلحون في التأليف الحزبي لكن ليس لديهم خطط سياسية للحكم، فهم غثاء عدد غير منتج، وهذا كلام يؤخذ بعضه ويرد على كثيره لكنهم يربحون أي انتخابات يدخلونها في المقابل يبقى السؤال: لماذا تعجز بقية التيارات وخاصة منها اليسار على التأليف الحزبي الجماهيري؟

اليسار العربي أخطأ الطريق إلى الشعب العربي

يزعم اليسار العربي أنه دخل على الشعب العربي من مداخل الثقافة وصناعة الوعي، وفي هذا الوعي شحنة ثورية تتجمل بصورة جيفارا ولينين، وقاده هذا المدخل إلى نقطة خطيرة هي أن الوعي الثوري يتناقض مع التدين بأي دين، وليمكن قيام وعي جديد لشعب عربي جديد في وطن جديد لا بد من تجذير القطيعة بين المواطن وأسباب تخلفه القديمة التي منها الدين.

حصلت هنا قطيعة، فكلما أمعن اليسار في تحليله ومنهجه عزل نفسه، ورغم أن هذا اليسار العربي واسع الاطلاع على ثقافات العالم وهو أكثر التيارات الفكرية العربية إنتاجًا أدبيًا وفنيًا إلا أنه لم يذهب وراء مراجعات كبيرة للفكر اليساري في العالم، حيث سقطت مقولات القطيعة مع الموروثات الدينية كشرط لبناء الوعي الثوري التقدمي وطبعًا التلميح هنا إلى اليسار اللاتيني وتجربته الثورية، والمراجعات العربية لم تذهب في هذا الاتجاه.

يمكن متابعة الخط الفكري لليسار العربي من خلال عمل اليسار التونسي لنجد أن الجميع صدر عن موقف واحد، فالمراجعات حصلت لكنها ذهبت مرة أخرى في اتجاه يصدم الوعي الشعبي، فمن ضمن قضايا الحرية الكثيرة وضع اليسار الحرية الجنسية في مقدمة برامجه النضالية، وفي مباحث العدالة الاجتماعية تخلى اليسار عن الطبقات الشعبية الواسعة وتبنى فقط محور حقوق المرأة وفي مقدمتها حقوقها السياسية قبل الاجتماعية.

هل هذه القضايا مغلوطة؟ هنا توجد مخاتلة سياسية يعرف اليسار أن يديرها بأسلوب جدالي ناجع، فهذه القضايا ليست مغلوطة ولكن الناس (هنا عامة الناس) عالجوها بطرقهم غير اليسارية، لا ينتبه اليسار هنا إلى اجتهادات الناس في أمور حيوية لم ينتظروا فيها رأي اليسار ولا أطروحاته ولا نعوته التقدمية، فتعليم المرأة وهو حق لا يجادل فيه صار حقيقة قبلها الناس في الوقت الذي أرادوا لا لأن اليسار أقنعهم بأن ذلك فعل تقدمي، بل لأنهم رأوه فعلاً مفيدًا لهم، وقس على ذلك قضايا كثيرة يظن اليسار أنه من دل الناس عليها، لكن الناس تقدموا في طريق التحديث دون أن يحتاجوا التخلي عن موروثاتهم العقدية كشرط للحداثة.

يتحرك الناس حسب الفائدة المباشرة لأفعالهم في الواقع لا حسب الفكرة السليمة في الكراس النظري، هنا تاه اليسار عن فهم الناس وعجز عن تقبل اختلافهم عن اجتهاداته الفكرية ولم ير في كثير من الأفعال تناقضًا بين تدينه المحافظ غالبًا وحياته اليومية، ومن هنا عجز عن تكوين جماهير حاملة لأفكاره ومشاريعه.

ونضيف إلى ذلك أمرًا في غاية الأهمية ومن خلال التجربة التونسية خاصة، فبعد تجربة فاشلة لصدام ثوري مع السلطة في السبعينيات تحول تكتيك اليسار إلى ما سمي عندهم بالتسرب إلى مفاصل الدولة (الإدارة) فهي طريق مختصرة للحكم دون شقاء تكوين الأحزاب، في تونس قام اليسار بتوزيع أدوار ذكي لكنه لم ينطل على الناس، فبعض اليسار يحتفظ بخطاب ثوري معارض بينما أغلبه يتسرب إلى مفاصل الدولة وخاصة الأمن (الرقابة على الناس) والإعلام والثقافة (حيث تصنع العقول).

لم يكن التونسيون في حاجة إلى ذكاء كثير ليروا اليسار في دولة بن علي يعارضونه في الشارع وينتهون في حكومته ومختلف مفاصل الإدارة، وكان استعمال النقابة في التفاوض مع إدارة بن علي عملية في غاية الذكاء، فقد كانت ضمانة لترقية عنصر اليسار في الإدارة قسمة عادلة مع رجالات نظام بن علي (ترقيات مقابل سلم اجتماعي)، ولكن مواقع القيادات لم تنتج جماهيرًا يسارية، لذلك لم يفلح اليسار في بناء الحزب الجماهيري الذي يفوز في الانتخابات أمام الإسلاميين الذين كانوا طيلة فترة تسرب اليسار إلى مفاصل الدولة ضحاياها وضحايا اليسار المشارك في الحكومات والمحتكر في ذات الوقت للخطاب الثوري والموزع لألقاب التقدمية والحداثة.

التونسيون من ضمن عرب كثيرين لا يصدقون ثورية اليسار العربي بل يسخرون منها ولذلك لا يمنحونهم تصويتًا في أي انتخابات، ويعرف اليسار مكانته عند الناس فيمعن في التسرب إلى مفاصل الدولة ليستعملها ولكن لأي غرض يفعل ذلك؟

اليسار ليس أكثر من أفراد يبحثون عن مغانم فردية

قد يكون التسرب إلى مفاصل الدولة حيلة من حيل السياسة التي توصل إلى تحقيق أهداف سامية (الحقيقة لا نعرف تجربة سياسية نجحت في خدمة الناس بالسيطرة عليهم بالقوة والحيلة)، إذًا لماذا يفعل اليسار ذلك؟

نقرأ نتائج الفعل على الأرض فنجد أن ليس لليسار من اليسارية إلا الكلام الكبير الموجه لجمهور غبي يقف عند حدود البلاغة اللفظية، أما جوهر الخطاب فتغطية على اندساس ذكي في مفاصل النظام والتمتع بمنافعه وهي ليست قليلة ولا هو بها ضنين على من لا يسعى في هدمه بجدية.

اليسار العربي ليس مشغولاً بالعدالة الاجتماعية وهو يكذب في هذا الباب كذبًا مفضوحًا، أن انشغالاته هي نفس انشغالات الطبقة الوسطى الطموحة إلى الارتقاء الاجتماعي بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة، لذلك فإن اهتمامه بقضايا الفقراء ليس إلا تغطية لانتماء فرداني يعرف كيف يتغطي باللغة لكن الجمهور الواسع منتبه ولا يصدق، لذلك لم يمنح اليسار أي مكانة في أي انتخابات دخلها إلا أن يزيف قواعد الانتخاب كما يفعل في النقابات.

لا نرى لليسار أي مستقبل سياسي يمر عبر صندوق الانتخاب في البلدان العربية، لأنه بكل بساطة غير صادق في شعاراته ولا هو واضح في تكتيكاته وهو أول من يعرف أن الطريق التي اتخذها للتحديث لا تذهب به بعيدًا إلا إذا استولى على أجهزة الدولة وفرض بالقوة أفكاره وفي عالم يمنح فرص انتخاب لغيره وخاصة للإسلاميين فإن اليسار يندثر خلال جيل واحد.

لذلك سنشهد معارك أخيرة في المنطقة العربية بين اليسار والإسلاميين مدارها منع نتيجة الصندوق من الحكم، وقد خاض اليسار معركته الكبرى في صف الانقلاب المصري من أجل منع الأخوان من الحكم بل ذهب إلى حد تبرير الاستعانة بنظام آل سعود المتخلف، وفي بلدان المغرب العربي الثلاث يقف اليسار في صف الاستعمار الفرنسي كآخر حل لمنع أحزاب إسلامية من الوصول إلى الحكم عبر الصندوق.

ماذا سيكون البديل لخطاب التحديث اليساري؟ هناك طريق طويلة نحو مجتمع آخر لم يفلح اليسار في حمل الشعوب إليه ولا نعتقد في هذه اللحظة أن جماهيرية الإسلاميين هي الطريق البديلة، إنما يمكننا القول إن الربيع العربي فتح باب دحض أكاذيب اليسار العربي على مصراعيها، وهيّأ الناس للتخلص من وهم اليساري الثوري الجميل بغطاء رأس تشي جيفارا.


 اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة:

اليسار، اليساريون، اليسار في تونس، اليسار العربي، التبعية،

 





تاريخ نشر المقال بموقع بوابتي 23-02-2019   المصدر: نون بوست

تقاسم المقال مع اصدقائك، أو ضعه على موقعك
لوضع رابط لهذا المقال على موقعك أو بمنتدى، قم بنسخ محتوى الحقل الذي بالأسفل، ثم ألصقه
رابط المقال

 
لإعلام أحدهم بهذا المقال، قم بإدخال بريده الإلكتروني و اسمك، ثم اضغط للإرسال
البريد الإلكتروني
اسمك

شارك برأيك
لوحة مفاتيح عربية بوابتي
     
*    الإسم
لن يقع إظهاره للعموم
     البريد الإلكتروني
  عنوان المداخلة
*

   المداخلة

*    حقول واجبة الإدخال
 
كم يبلغ مجموع العددين؟
العدد الثاني
العدد الأول
 * أدخل مجموع العددين
 
 
 
أكثر الكتّاب نشرا بموقع بوابتي
اضغط على اسم الكاتب للإطلاع على مقالاته
د- محمد رحال، فتحي العابد، محمد يحي، د. طارق عبد الحليم، إياد محمود حسين ، د - محمد بنيعيش، وائل بنجدو، يحيي البوليني، أحمد بوادي، صباح الموسوي ، د- جابر قميحة، د. عبد الآله المالكي، عبد الغني مزوز، رضا الدبّابي، سليمان أحمد أبو ستة، مصطفى منيغ، أحمد الحباسي، د. ضرغام عبد الله الدباغ، حاتم الصولي، مصطفي زهران، كريم فارق، أبو سمية، رافد العزاوي، طلال قسومي، عبد الرزاق قيراط ، حسن عثمان، فتحي الزغل، د. خالد الطراولي ، ياسين أحمد، إيمى الأشقر، يزيد بن الحسين، سلام الشماع، د. كاظم عبد الحسين عباس ، رمضان حينوني، مجدى داود، المولدي الفرجاني، مراد قميزة، تونسي، سفيان عبد الكافي، د - المنجي الكعبي، د - الضاوي خوالدية، أحمد ملحم، طارق خفاجي، المولدي اليوسفي، د. أحمد بشير، إسراء أبو رمان، سعود السبعاني، د - شاكر الحوكي ، أنس الشابي، د- هاني ابوالفتوح، د- محمود علي عريقات، د - مصطفى فهمي، فوزي مسعود ، نادية سعد، عبد الله الفقير، د. عادل محمد عايش الأسطل، محمد الياسين، محمد الطرابلسي، عمار غيلوفي، الهادي المثلوثي، محمد اسعد بيوض التميمي، كريم السليتي، د - محمد بن موسى الشريف ، سامر أبو رمان ، بيلسان قيصر، محمد عمر غرس الله، أ.د. مصطفى رجب، عبد الله زيدان، فهمي شراب، د - عادل رضا، علي الكاش، خالد الجاف ، أحمد النعيمي، حسن الطرابلسي، خبَّاب بن مروان الحمد، محمد العيادي، جاسم الرصيف، د - ‏أحمد إبراهيم خضر‏ ، محمد أحمد عزوز، صفاء العربي، أشرف إبراهيم حجاج، الناصر الرقيق، ضحى عبد الرحمن، صالح النعامي ، فتحـي قاره بيبـان، محمد علي العقربي، الهيثم زعفان، منجي باكير، أحمد بن عبد المحسن العساف ، د. أحمد محمد سليمان، د - صالح المازقي، العادل السمعلي، عبد العزيز كحيل، صلاح الحريري، د. مصطفى يوسف اللداوي، حسني إبراهيم عبد العظيم، أ.د أحمد محمّد الدَّغَشِي ، سامح لطف الله، عواطف منصور، د.محمد فتحي عبد العال، سيد السباعي، سلوى المغربي، ماهر عدنان قنديل، رحاب اسعد بيوض التميمي، محمود فاروق سيد شعبان، محمود طرشوبي، حميدة الطيلوش، محمد شمام ، عزيز العرباوي، محرر "بوابتي"، رافع القارصي، عمر غازي، عراق المطيري، رشيد السيد أحمد، صفاء العراقي، د. صلاح عودة الله ، صلاح المختار، علي عبد العال، محمود سلطان،
أحدث الردود
ما سأقوله ليس مداخلة، إنّما هو مجرّد ملاحظة قصيرة:
جميع لغات العالم لها وظيفة واحدة هي تأمين التواصل بين مجموعة بشريّة معيّنة، إلّا اللّغة الفر...>>


مسألة الوعي الشقي ،اي الاحساس بالالم دون خلق شروط تجاوزه ،مسالة تم الإشارة إليها منذ غرامشي وتحليل الوعي الجماعي او الماهوي ،وتم الوصول الى أن الضابط ...>>

حتى اذكر ان بوش قال سندعم قنوات عربيه لتمرير رسالتنا بدل التوجه لهم بقنوات امريكيه مفضوحه كالحره مثلا...>>

هذا الكلام وهذه المفاهيم أي الحكم الشرعي وقرار ولي الأمر والمفتي، كله كلام سائب لا معنى له لأن إطاره المؤسس غير موجود
يجب إثبات أننا بتونس دول...>>


مقال ممتاز...>>

تاكيدا لمحتوى المقال الذي حذر من عمليات اسقاط مخابراتي، فقد اكد عبدالكريم العبيدي المسؤول الامني السابق اليوم في لقاء تلفزي مع قناة الزيتونة انه وقع ا...>>

بسم الله الرحمن الرحيم
كلنا من ادم وادم من تراب
عندما نزل نوح عليه السلام منالسفينه كان معه ثمانون شخصا سكنو قريه اسمها اليوم هشتا بالك...>>


استعملت العفو والتسامح في سياق انهما فعلان، والحال كما هو واضح انهما مصدران، والمقصود هو المتضمن اي الفعلين: عفا وتسامح...>>

بغرض التصدي للانقلاب، لنبحث في اتجاه اخر غير اتجاه المنقلب، ولنبدا بمسلمة وهي ان من تخلى عن مجد لم يستطع المحافظة عليه كالرجال، ليس له الحق ان يعامل ك...>>

مقال ممتاز...>>

برجاء السماح بإمكانية تحميل الكتب والمراجع...>>

جل الزعماء العرب صعدوا ،بطرق مختلفة ،تصب لصالح المخطط الانتربلوجي العسكري التوسعي الاستعماري،ساهموا في تبسيط هدم حضارة جيرانهم العربية او الاسلامية عم...>>

مقال ممتاز
لكن الاصح ان الوجود الفرنسي بتونس لم يكن استعمارا وانما احتلال، فرنسا هي التي روجت ان وجودها ببلداننا كان بهدف الاعمار والاخراج من ح...>>


الاولى : قبل تحديد مشكلة البحث، وذلك لتحديد مسار البحث المستقل عن البحوث الاخرى قبل البدء فيه .
الثانية : بعد تحديد مشكلة البحث وذلك لمعرفة الا...>>


بارك الله فيكم...>>

جانبك اصواب في ما قلت عن السيد أحمد البدوي .

اعلم أن اصوفية لا ينشدون الدنيا و ليس لهم فيها مطمع فلا تتبع المنكرين المنافقين من الوها...>>


تم ذكر ان المدخل الروحي ظهر في بداياته على يد شارلوت تويل عام ١٩٦٥ في امريكا
فضلا وتكرما احتاج تزويدي ب...>>


الدين في خدمة السياسة عوض ان يكون الامر العكس، السياسة في خدمة الدين...>>

يرجى التثبت في الأخطاء اللغوية وتصحيحها لكي لاينقص ذلك من قيمة المقال

مثل: نكتب: ليسوا أحرارا وليس: ليسوا أحرار
وغيرها ......>>


كبر في عيني مرشد الاخوان و صغر في عيني العسكر
اسال الله ان يهديك الى طريق الصواب
المنافقون في الدرك الاسفل من النار...>>


وقع تصميم الموقع وتطويره من قبل ف.م. سوفت تونس

المقالات التي تنشر في هذا الباب لا تعبر بالضرورة عن رأي صاحب موقع بوابتي, باستثناء تلك الممضاة من طرفه أومن طرف "بوابتي"

الكاتب المؤشر عليه بأنه من كتاب موقع بوابتي، هو كل من بعث إلينا مقاله مباشرة