هم أنصار الثورة والتغيير السلمي يصلون في لحظات الإحباط القصوى إلى حد أمرين: الحلم بحمل السلاح أو الانتحار. لقد حُشروا في زاوية ضيقة، بفعل خطة إعلامية محكمة تقودها فكرة شيطانية أن التغيير يضر ولا ينفع، وأن أسلم الخطط هي العودة إلى القديم والحفاظ عليه بأشخاصه وأفكاره وواقعيته القاتلة. وقع كثير من أنصار الثورة في التثبيط الذاتي؛ لأنهم كانوا عاطفيين أو رومانسيين حالمين بتغيير سريع بلا جهد ولا كلفة، لكنهم يستفيقون اليوم وهم يحاربون أنفسهم لصالح عدو الثورة المنظومة القديمة الفاسدة. ويزيد الأمر سوءا أن ليس هناك نقطة لاستئناف الأمل، فقد بلغ الإحباط مبلغا صار فيه يوسف الشاهد ابن المنظومة القديمة حلا أخيرا يدافع عنه أنصار التغيير، لكي لا يزداد الوضع ترديا. إنه لوضع بائس فعلا أن يكون أقصى منى الثوار الحفاظ على درجة الصفر، وعيا منهم بما تحتها من حضيض.
ماكينة إعلامية تملك خطة
منذ بدء الثورة لم يكن الإعلام معها، بل كان ضدها. كتب كثيرون بوعي أن الثورة لم تكتمل لأنها لم تسترجع الآلة الإعلامية من المنظومة. لقد كان ذلك مقتلا لم ينج منه أحد. وقد بلغ من هوان الثوريين (دعني أقول أنصار التغيير) أنهم وقفوا يستجدون ظهورا في تلفزة تحكمها المنظومة، رغم إنها إعلام عمومي. وسيطر رأس المال الفاسد (صناعة منظومة ابن علي) على الإعلام الخاص، فأحكموا إغلاق الباب على كل أمل. كان في المشهد إعلاميون يناصرون التغيير، لكنهم عزلوا وحوربوا في عيشهم.
كان لهذا الإعلام خطة واضحة وبسيطة دفع الناس إلى الندم على ما جرى وإشعارهم بأنهم ارتكبوا حماقة كبيرة بالخروج على النظام. وبين فجوات التثبيط، انفلت كثيرون يخربون احتمالات التغيير ويلقون تغطية إعلامية على أنهم أصحاب حق. فكان الجانب الآخر من خطة الإعلام؛ الدفاع عن الانفلات والفساد الجديد، فضلا عن حماية الفساد القديم، فصار المشهد يتظلل بالحرية القادمة مع الثورة، لكنه يفرغها من مضامين البناء، ويحولها إلى وسيلة فساد مالي وسياسي. وكان الهدف واضحا، وقد تحقق الندم على ما فات.
يعيش قطاع واسع من الناس هذا الشعور اليائس والمستكين، فيحوصلون: "لقد كان زمن ابن علي أفضل". هذا نجاح باهر للمنظومة (للثورة المضادة)، وفشل ذريع لأنصار التغيير لأنهم جاؤوا المرحلة بلا خطة إعلامية، ولم يستدركوا أنفسهم ولا ثورتهم، وأنى لهم؟ فقد عرفت المنظومة أن تستديم المعارك القديمة التي تفرق بين المرء وزوجه.
انكشاف وعي الناس
في مسائل كثيرة انكشفت حالات وعي متقدمة لدى عوام الناس كرفض الإرهاب، بل محاربته بشجاعة (حالة بن قردان)، ولكن في مسائل أخرى كثيرة تبين أن جمهورا واسعا لا يزال مستسلما للمعلومة التي تروجها وسائل الإعلام المعادية للتغيير، فيسلم لها بسهولة وينقاد إلى معاركها دون وعي بخلفيتها.
لقد تحولت بعض الأخبار الكاذبة عن ثروات الإسلاميين التي سرقوها من الدولة إلى خبر يقين يبثه أنصار المنظومة، فيتلقفه عوام الناس ويعيشون به ويقيّمون الإسلاميين من خلاله. فإذا سألت أحدهم عن الدليل، قال لك بكسل ذهني عجيب: "لقد قالوا"، فإذا سألته: من قال؟ أجابك الإذاعة أو التلفزة، فإذا دفعته: هل رأيت بعينك؟ قال: لا، لكنه يقول نعم إنهم لصوص ويقف هناك.
كانت هذه معركة من معارك كثيرة مست الإسلاميين؛ لأنهم كانوا في مقدمة صف التغيير، ولو تقدم غيرهم لناله ما نالهم، وقد نال هذا ومثله السيدة سهام بن سدرين، رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة، ومس الدكتور مرزوقي، رئيس الجمهورية السابق؛ لأنه وقف خارج المنظومة. ويمكن تعداد الأمثلة. ومن أطرف ما هناك من أداوت حرب، أن المنظومة القديمة قد تشوه شخصا أو هيئة بأنه كان منتميا إلى المنظومة القديمة.
حالة بؤس وعي العوام بلعبة الإعلام المثبط المحطم للعزيمة حالة نموذجية في الجهل المركب العاجز عن التفكير والنقد والاستخلاص (الحالة المصرية أشد بؤسا، لكن دعنا في تونس). يقول البعض إن على أنصار التغيير بث الوعي بخطر الإعلام، ولكن كثيرا ما تم ذلك خاصة في السوشيال ميديا، لكنه اصطدم بنماذج جهل غريبة. فالمستوى التعليمي على سبيل المثال لم يعد مؤشر وعي يخرج المتعلمين من كتلة العوام، إذ تلعب أيديولوجيات المتعلمين دورا مهما في استدامة الجهل وبث الإحباط. فكل خبر كاذب يصدر عن المنظومة يجد له مروجين بخلفيات أيديولوجية، رغم المستوى التعليمي للمروج. إنها الفُرقة الأداة الثانية من أدوات عمل المنظومة.
القضايا القديمة والفرقة الفعالة
اشتغلت المنظومة لمدة 40 سنة على تسعير الحرب ضد الإسلاميين، فلما تبين بعد الثورة أنهم موجودون وأنهم فاعلون وقد يسيطرون، استعادت المنظومة بسرعة كل أدوات الحرب عليهم، فلم يجد الإسلاميون مهربا من الدفاع عن أنفسهم، بما كرس الحرب ذاتها، وبقيت المنظمة ترمي بما تريد ومن تريد في هذه الحرب، فصار شاغل عوام الناس ونخبتهم أيضا كيف نكون في تونس بدون إسلاميين، وليس كيف نبني تونس مع الإسلاميين بصفتهم تونسيين. كان مطلوبا من الإسلاميين أن يختفوا من الساحة، لكنهم لم يفعلوا. فاطمأنت المنظومة على تملك أداة الإحباط، وكلما قام الشارع - مثلا - ضد المنظومة جر الإسلاميون إلى استفزاز ثقافي وسياسي، فيقعون في رد الفعل الذي يثير رد فعل مضاد، وهكذا ظلت نوايا التغيير أسيرة المعركة التي فرضتها المنظومة.
إسلاميون يدافعون عن حق الوجود وعامة تراهم الشر المطلق ومنظومة تراقب وتضحك. انتهى الأمر بالإسلاميين إلى تبني كل شروط المنظومة على أنفسهم حتى تحولهم إلى جزء منها، ففقدوا كل تميز أخلاقي وسياسي، وفقدوا كل مشروعهم الذي أسسوا فعلهم السياسي عليه، وانتهينا نعيش على مخرجات هذا الصراع، فلا نحن مع الإسلاميين في مشروع وطني (لم يظهر للوجود حتى على الورق)، ولا نحن ضدهم في مشروع استئصالي وانتهى البلد محبطا، وها نحن نشارك في خطاب الإحباط.
ندخل صيف الإحباط الأخير
مدرستنا التونسية وعنوان فخرنا القديم انتهت فاشلة تخرّج أميين، وإدارتنا تحكمها نقابة تعمل عمل العصابات وحكومة لا وصف لها إلا العجز والدروشة. وبعد أن خلنا أن حكم العائلة سقط إلى غير رجعة، عاد حكم العائلة التي ترانا غنيمة مستساغة.
نؤلف جملا كثيرة، ولكننا نختصر في أن لا أفق يظهر للمتطلع بأمل. الإشكال الأكبر أنه كلما دفع المرء بأحلامه إلى سطح مشاعره، وجد نفسه يناقض عقله الواقعي الذي يقود الكتابة والتحليل، أي أنه يقع في الإحباط ويروج له. أليس محبطا أن يضطر المرء إلى الدفاع عن حكومة الشاهد ويراها ضامنة درجة الصفر من القيادة، حتى لا يواجه احتمالات الانهيار الكامل؟ هل عليه أن يتمنى الانهيار الكامل تأسيا بقول مظفر النواب إن خرابا بحق بناء بحق؟ ما أجمل الصورة وما أوحش المسار.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: