عين ثالثة على الفصل الخامس
د.سامي القليبي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي
المشاهدات: 2509
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
تتوالى الفصول وتتعاقب على مدار السّنة ثمّ تمرّ وتعود ثانية بنفس خصائصها وألوانها وأشكالها التي تميّزها ،كما عهدناها ولكنّ ميلاد " الفصل الخامس" يباغتنا ويفاجئنا ليهلّ علينا بالجديد ، فصل بكلّ الألوان وكلّ الأشكال، فصل التّشكيل بامتياز. عرس سنويّ للفنون التّشكيليّة، صالون دون صالون، يكرّره الزّمان ويرفضه المكان باحثا في ثنايا الأمكنة عن مكان، بضاعة تبحث عن سوق وأيّة سوق؟ سوق كمكان لعرض الأعمال أم سوق لترويجها؟ سوق بمدينة صفاقس، مدينة التّجارة والتّرويج في كلّ المجالات ما عدى المنتوج الفنّي بصفة خاصّة والمنتوج التّشكيليّ بصفة أخصّ.
سوق تبحث عن حريف وتأبى أن تتوحّد معروضاتها فتتمرّد على المتلقّي ليتيه بين ثناياها ، ممارسات تشكيليّة احتضنتها الدّورة الخامسة والعشرون باحثة عن "فرحة" بقاعة الأفراح وتبحث لها عن" أمر" في فضاء المؤتمرات . سوق لم تكتف بأشكالها التّقليديّة لتتجلّى بمثابة" نوع خاص من اللّغو الصامت"(1) ، لغوٌ اكتنزته الخامات والتّقنيات من أجل فتح آفاق جديدة أمام تطوّر الممارسة الفنّيّة، هو كتابة خاصّة، لها أبجديّتها الخاصّة، والمتغيّرة من فنّان إلى آخر، حسب سياق خاصّ، ، كأنّ غاية التّعبير التّشكيلي تتمثّل في مراكمة العوائق الشّكليّة و رفع درجة الإدراك بحيث يصبح فعل الإدراك غاية في حدّ ذاته.
يتنزّل مقالنا ضمن التّنقيب عن التّراسلات (Correspondances) (2) الممكنة بين الأشكال الفنّيّة المعروضة ،محاولين ولوج خفاياها المستغلقة وإلقاء الضوء على اللّغة المشتركة بين الأجيال التي تعاقبت. كلّ هذا لم يكن من دون وجود اختلافات وخلافات واضطرابات وتضاربات، ولكنّ التّجربة بثرائها وتنوّعها، أدّت إلى تعدّد أشكال التّعبير، كميدان يعتمد الشكّ والبحث والتّجريب،إذ أنّ الاختيارات الفنيّة، وخاصّة منها الأكثر ثوريّة وتجديدا، تندرج ضمن منطق علائقيّ داخل فضاء الإمكانات الشّكليّة والماديّة والمعرفيّة والاجتماعيّة والنّفسيّة والسّياسيّة والإيديولوجيّة والإعلاميّة، المتوفّرة للفنّان.
طروحات يقال أنّها "معاصرة" ولكن ألا يتوجّب علينا تحديد مفهوم مصطلح «معاصر» ليستحيل إلى هيئة «الفن المعاصر» بما هو فنّ جديد يقلب كلّ الموازين التي نشأ عليها الفن ، لذلك لا نعدّ كلّ معاصر بالمعنى الدّياكروني (3) معاصرا، لأنّ الانتماء إلى المعاصر لا يكون بالدّلالة الزّمنيّة وإنّما بالدّلالة الجماليّة، فالمسألة غير مرتبطة بالضّرورة بفترة زمنيّة دون غيرها ، إذ أنّ "الفن الذي بصدد الإنشاء لم يكن دائما معاصرًا ، حتّى يفهم المتلقّي أنّنا نحدّثه بشكل معيّن من أشكال الفنّ وليس بكلّ الفنّ الذي ينتجه الأحياء من الفنّانين اليوم، والذين يعاصروننا"، وتؤكّد الباحثة Elisabeth COUTURIER بأنّ "الأعمال المنجزة بالأمس تكون أحيانا أكثر معاصرة من بعض الممارسات الحاليّة، وقوّة التّدمير الكامنة فيها لم تفتر بعد، وإعادة قراءتها تجلي وتوضح الحاضر بدقّة وإحكام" .(4)
في محاولة للإلمام بهذا التشعّب في الطّروحات الموسّعة والأساليب المتنوّعة، حاولنا تصنيف الأعمال المعروضة في الصّالون بعين غير كلاسيكية ، عين ثالثة شبه محايدة وذلك بحسب الاختصاص التّقني والمجال التّعبيري ،فتجلّت الخزفيّات مسجّلة حضورها و رغم البراعة التّقنيّة التي أظهرها أصحابها إلاّ انّها لم تتجدّد ولم تتمرّد فاستعادت حضورها بشكل مألوف في أغلبها إلاّ لو استثنينا النّزر القليل منها مثل "قبضة" كمال الكشو و "كلمات " بلحسن و"الأجسام الهجينة" لهدى الخرّاط أو"Orgasme" للمنجي والي ، شأنها شأن اللّوحات التّصويريّة التي أتت في أغلبها بين الزّيتيّة والأكريليك والتّقنيات المزدوجة والأكواريل والباستيل، محاولات محتشمة في أغلبها وجريئة في البعض منها باستقلاليّتها عن المرجعيّة إذ عملت على إفراز الطّاقات الكامنة الّتي يمكن إخراجها وتفعيلها في الفعل الفنّي (وما كان المثال إلاّ تعلّة)، حيث تحوّل العمل الفنّي نحو سجلّ التواصل، إنّها المفارقة مع المثال المتفكّك كبقيّة باقية من التّمثيل الذي تبنّته بعض التّمشّيات المعاصرة باستعادته سيميائيّا، كصيغة تحليليّة ذاتيّة ، يظهر فيه المثال مركزيّا من قبيل التصوّر والفكرة والمفهوم، ليطرح إشكاليّات متنوّعة ، ويتجلّى ذلك خاصّة في "لقاء" لنجوى عبد المقصود و"بدون عنوان" لهيفاء عبد الهادي و"مرشوم"لرضا الغالي و"ألوان وآلام" لخليل قويعة و"شكلميّات" كمال عبد اللّه.أعمال ثنائيّة الأبعاد توسّع مجال قراءتها لتحتوي أعمال الحفر الفنّي في حضور شبه يتيم لـ" Confusion" لبنى عبد المولاه و "استراق" رؤى الفقي و"بكارة" درصاف بن شعبان، محفورات تشابهت فيها تقنيات الإنجاز والعرض وتنتظر قفزة جريئة لتجاوز عقبة الموروث والتّقليديّ، مسألة تجاوزتها نسرين الغربي في الفسيفساء الوحيدة بالمعرض بعنوان"حوار الحركة والمادّة" حيث استعارت طريقة عرض اللّوحة في واجهيّتها وأسلوب النّحت البارز في تمظهرها، لينسج النّسّاجون على منوالها، مثل "مهرجان" إيمان الطّهّاري و" Enchevêtrement" نور كمّون و"Morsure" صالح بن عمر.
ولكن الملفت للانتباه هو حضور الرّسم الخطّي ليسجّل حضوره كفنّ قائم بذاته وليس مجرّد أداة بحث وتخطيط بقلم جواهر بن براهيم في "Le je et le moi" وأحمد قطاطة في "Adaptation 3" ، محاولة في رفع الرّسم الخطّي إلى مجال الأثر الفنّي مثله مثل أعمال التّصوير الفونوغرافي التي فرضت نفسها بقوّة وبتنويعات جريئة و غير مسبوقة مثل الفوتومونتاج "Face et profil" لأنيس بن سالم و"La mosquée" لوسام الفقي و" تراث وهّاج" لحمدي المعلول، محاولات جعلتنا نستدعي "سمكات" غازي زليلة بتقنيته المنفردة في القصّ والتّلصيق اللّيزري والتي تتجلّى بمثابة الجوكر الذي يأبى التّصنيف ليكون منفردا وفي كلّ المواضع والتّصنيفات دون تصنيف، تجلّيات ثنائيّة الأبعاد تفسح المجال لأشكال تعبيريّة تستفزّ المتجوّل بين ثنايا الصّالون فتفرض المجسّمات النّحتيّة( رغم ندرتها) حضورها الحجميّ بين تجلّ كلاسيكي لكتلة منقوشة لأشباه أجساد خشبيّة في وضعات شبقيّة مثل" عائلة" لعبد العزيز الحصايري أوهيآت مثل " Hymne d’amour" لنزار الطّريشلّي أو"بدون عنوان" لريم معلّى أوتركيبة حروفيّة مثل"شلاّل" محمّد سحنون أو هيكلة غرافيكيّة حديديّة استلقت أرضا مثل " Sculptographie" لسامي القليبي.
جولة في عالم جماليّة التّلقّي ،عملنا من خلالها على تصنيف الممارسات حسب مجموعات، محاولة منّا السّيطرة على هذا التّنوّع المطّرد وفي إيجاد علاقات وتراسلات بين كلّ هذه الاختلافات والتّشعّبات لأنّ "للعمل الواحد أكثر من قراءة ممكنة" (5) على رأي Jean-Luc CHALUMEAU، على أنّ العمل الفنّي "علبة سوداء" (Balise Noire) ، مشير أو مؤشّر لمفهوم أو مفاهيم قابلة للقراءة أو القراءات التي نغيّر بحسبها طريقة التّلقّي، حسب منهج قراءة Federico ZERI في "فنّ قراءة الفنّ".(6) أعمال بمثابة الدّمى الرّوسية، بمثابة الصّاروخ الذي يتخلّص في كلّ مرحلة من أحد طوابقه، ولكي نستوعبها في كلّيتها ولندرك كنهها، تطلّبت منّا مساءلة متدرّجة وتناولا مرحليّا ومنهجيّا.
ومع كلّ هذه التشعّبات التّي رافقت الأعمال المعروضة وعالمها الدّياجيتيكي La diégèse ، و"قراءة العمل الفنّي المعاصر في حميميّته" (7)، سواء "بالطّريقة الوديعة" (Méthode douce) كمقاربة مادّية بوضع العمل في سياقه التّقني أو "بالطّريقة الصّداميّة" (Méthode choc)(8)، كارتماء مباشر في حضن العمل، برؤية الأعمال مباشرة وعن قرب، مع احترام التمّشّي الشّخصي للفنّان، ولكنّ وجهة نظره في تحديد "دياجيز" عمله ما هي إلاّ مجرّد قراءة من جملة القراءات المتعدّدة بالتّحليل والعدول عن كلّ وجهة نظر، بإمكانه أن يصبح في حدّ ذاته مبدأ فنيّا هامّا ومكوّنا لجماليّة معيّنة، كما يمكن للعديد من الأعمال أن تكون لها نفس الدّياجيز، تساءلنا في بحثنا حول منطق تناغمها وتوحّد دلالاتها، نجد أنفسنا منقادين لتناول فردانيّات مجتمعة حسب أساليب تعبيريّة أكثر منها مواقف معلنة بحسم ولكن ينبغي النظر "للأسلوب" على أنّه جملة من المفاهيم النسبيّة التي لا تدّعي الصّفة المطلقة، إذ أنّه مع تداخل الممارسات الفنيّة وتفرّدها وتشعّبها، تشابهها وتناقضها، لم يعد المعروض يحتمل تقسيما حسب مدارس أو مذاهب، حتّى وإن كانت هناك قرابة، مع التّأكيد على التمشّي الخاصّ بكلّ فنّان.
واقتضت منّا القراءة الانتقال من لغة إلى أخرى، ومن مستوى تأويلي مباشر إلى آخر غير مباشر وبعيد، يتجاوز كلّ رغبة في التّعميم والمماثلة، متبنّين في كلّ ذلك ما يعرف الآن بجماليّات التّلقّي وفعل القراءة التي تقوم أساسا على تأويل الوقع الجمالي النّاتج عن تفاعل القراءة مع العمل الفنّي، من منطلق أنّ العمل الفنّي منقطع عن إطاره المرجعي، من أجل فتح الطّريق أمام عالم يمكن بناؤه أثناء القراءة، عالم خصب تتناسل منه المفاهيم والمقاربات وتتوالد ، انطلاقا من مفهوم التّمفصل (Discrétisation) من خلال العمليّات التّوليديّة والتّحويليّة المختلفة داخله، مفاهيم وإن تشعّبت وتكاثرت، فهي تتلخّص في التّدرّج من فعل يد الفنّان الماهر إلى الفنّان المفكّر ومن ردّات الفعل الجسديّة إلى التّذهين والعقلنة، ومن فضاء القماشة العاديّة إلى أفضية أكثر جرأة ومغامرة، تعدّدت بتعدّد الأساليب والطّروحات من خلال ما ارتأيناه من قبيل الإبداع الفنّي في حقله الواسع بالإبحار في أغوار الأعمال المعروضة بالصّالون السّنوي للفنون بصفاقس في دورته الخامسة والعشرين ،أعمال عملنا على قراءتها وفكّ شفرتها وإعادة تعريفها تعريفا جوهريّا، فما هو العمل الفنّي ؟ سؤال يعني البحث في مسألة : متى يكون العمل فنّيا ولماذا يعتبر فنّا ؟
ليس البحث في : ماذا يمثّل العمل بل في الانطلاق من : لماذا أصبح العمل فنّيا ؟ ما هي إمكانات أنواع التّجلّي والنشأة المنحدرة من طرح ما ؟
يتأرجح مقالنا بين نيّة الفنّان واهتمام المتلقّي، على أنّ الفنّ ممارسة مفتوحة للجميع (فنّان ومتلقّ وقارئ ومفعّل) علاقة متعدّدة الوجهات ، بطرح تساؤلات جديدة وتآويل افتراضيّة والتّنقيب عن الخطوط الكبرى للتّركيبة الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة السّائدة في الحقل التّشكيلي، في مقاربة بمثابة الاختيار المنهجي للرّبط بين كلّ الأقطاب والأساليب والأجيال والرّؤى.
--------------
الإحالات
1- عطيّة (محسن محمد): تذوّق الفنّ ، توزيع دار المعارف بمصر، القاهرة، 1995، ص. 121.
2- « Correspondances : Tout ce qui, dans le champ de l’esthétique comparée, concerne les relations entre les arts », Bernard VOUILLOUX, in Dictionnaire d’esthétique et de philosophie de l’art, Ed. Armand Colin, Paris, 2007, p.113.
3- زمانيّ (Diachronique) "تطوّر وتعاقب للوقائع في الزّمن"، عن سهيل ادريس، المنهل،ص.399.
4- « Des œuvres réalisées « hier » sont parfois plus « contemporaines » que certaines productions actuelles. Leur potentiel subversif n’a pas pris une ride et leur « relecture » éclaire, avec justesse, le présent », Elisabeth COUTURIER, L’art contemporain, mode d’emploi, Ed. Filipacchi, Turin, 2004, p.22.
5- « Il y a toujours plusieurs lectures possibles de la même œuvre », Jean-Luc CHALUMEAU, Qu’est ce que la lecture de l’art ?, in La lecture de l’art, Ed. Klincksieck, Paris, 2002, p.9.
6- « Les conversations de Federico ZERI sur « l’art de lire l’art » ne sauraient plus concerner aujourd’hui que l’art du passé. Les lectures de ZERI exigent une vaste préparation historique et culturelle, et surtout une aptitude à changer de méthode selon les circonstances », Jean-Luc CHALUMEAU, in La lecture de l’art, Op.cit, p.12.
7- Lire l’art contemporain dans l’intimité des œuvres, par Isabelle EWIG et Guitemie MALDONADO, Ed. Larousse, Paris, 2005.
8- « Méthode douce : Approche chronologique, restituer l’œuvre dans son contexte historique »… « Méthode choc : Plonger directement au cœur du sujet… Visiter les galeries d’avant-garde, les centres d’art, les expositions monographiques d’artistes vivants, les départements d’art contemporain et les musées », Elisabeth COUTURIER, L’art contemporain, mode d‘emploi, op.cit, pp. 245-247.
4-04-2018
|