القدس عربية.. أم إسلامية.. أم أنها قضية إنسانية لمجموعة من البشر المجردين "ملط"؛ أولاد الحرام أخذوا منهم أرضهم وعلينا أن نتضامن معهم بصفتنا أولاد حلال "مصفى"؟!
اختر من الإجابات السابقة إجابة واحدة فقط. لا يحق لك الجمع بين إجابتين أو اختيار جميع ما سبق؛ وإلا يبقى نهارك أزرقا..
أين التعارض بين دوائر الانحياز الدينية والعروبية والإنسانية في قضية القدس والمسجد الأقصى وكنيسة القيامة والأرض الفلسطينية؟ أين المشكل؟ وما الحاجة لعلمنة "مشاعر" الانحياز التي لا يعرف أصحابها، وهم ملايين البشر، سوى أنهم منحازون لأسباب "يستشعرونها "ويؤمنون بها، ولا يريد أحدهم أن يتقعر لإثبات صحتها، فهي صحيحة لأنه يراها كذلك؟!
لا يحب كثير من مثقفينا الحديث عن المشاعر الإنسانية.. يرونها أليق بأمسيات الشعر، وأغاني أنغام، لا بحديث الفكر والسياسة المعقد بطبيعة الحال. وإذا قال لوبون إن المشاعر هي التي تحرك التاريخ وتقوده، وأن الإسلام والاشتراكية وغيرهما من الأفكار العظيمة التي استقطبت الملايين؛ إنما فعلت لاحتوائها أولا وقبل أي شيء آخر على المكون العاطفي الفعال، تراهم يسبون الدين والدنيا لجوستاف لوبون ولمن يقرأونه، والمطلوب، كما رأينا في أحاديث ومقالات ومناقشات يحسب أصحابها أنها جادة، هو "علمنة" مشاعر الناس وتحديد بوصلة لا دينية لها لئلا يقع المتعاطف في إثم "أسلمة"قضية انحيازه لـ"مسجد" و"قبلة" و"مسرى نبي"!!
عندما اعتقل الأمن المصري طلاب الإيجور الذين جاؤوا لدراسة العلوم الإسلامية بجامعة الأزهر، بهدف تسليمهم للحكومة الصينية؛ حيث يتعرضون لأبشع ممارسات التعذيب والقتل على الهوية، شرفت باستضافة عميد المسلمين الإيجور في تركيا في برنامج صباح الشرق.. تحدث الرجل عن "قيمة" مصر لدى المسلمين الإيجور الصينيين، حيث يرونها بلد "الأزهر الشريف"، وهو المعادل الموضوعي للإسلام في نظرهم. وتفاجأت بأن تسليم النظام المصري للطلاب الإيجور لن يعني أي اهتزاز لمكانة مصر في قلوب الإيجور؛ لأن مصر بالنسبة إليهم ليست النظام الذي لا يعرفونه، ولا السيسي الذي سمعوا عنه فقط عندما أثيرت هذه المشكلة، إنما هو الأزهر ولا شيء آخر. الأغرب، أن الرجل لا يعرف أحمد الطيب ولا غيره، لا يعرف أسماء شيوخ ولا علماء ولا دعاة.. لا يعرف سوى أن الأزهر هو قبلة الإسلام السني، كما أن المسجد الحرام هو قبلة المسلمين، الأزهر وكفى...
في إسطنبول، الناس لا تتحدث العربية.. ترك، أعاجم.. لكنهم يحفظون القرآن بحكم كونهم - بعد إذن حضراتكم - مسلمين. بعضهم يحفظ ويفهم، وأكثرهم يحفظ ولا يفهم شيئا، لكنه يحمله في صدره حبا وتبركا. بمجرد أن يعرف السائق "المتدين" أنك مصري؛ حتى يسألك عن الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، بوصفه لحن السماء الخالد. أحدهم فوجئ بأن عبد الباسط ليس القارئ المفضل بالنسبة لي، كما أنه ليس القارئ الأول لدى أغلب المصريين.. يحدثني بالتركية فأفهمه من ذهول وجهه: ماذا تقول؟ عبد الباسط؟ إنه معجزة.. أحدثه عن رفعت، مصطفى إسماعيل، المنشاوي العظيم، لا يعرف منهم أحدا.. عبد الباسط وكفى. وهكذا في إيران، وفي غيرها.. كل العجم يحبون عبد الباسط.. أرزاق!
كيف يمكننا أن نقول لعميد الإيجوريين في إسطنبول أن عليه أن يحب مصر الحضارة والتاريخ وثورة يناير والدولة المدنية الحديثة، (مع ملاحظة أن كل ما سبق ميتافزيقيا بدوره)، وألا ينظر للأزهر بوصفه شريفا، فهو جامعة دينية تعاني الكثير من المشكلات الدينية والسياسية، بل والأخلاقية؟ كيف يمكنني أن أوجه عشاق عبد الباسط إلى ضرورة تعاملهم معه بصفته البشرية، والانحياز له كإنسان يؤدي عمله بشكل جيد ويتقاضى عليه الأجر المناسب، دون اعتباره رمزا وقيمة لأنه قارئ للقرآن الذي يؤمنون بقدسيته؟!
كيف يمكننا "علمنة" مشاعر الناس قسرا؟ ولمصلحة من، بشكل سياسي نفعي محض، نخسر جزءا من قوة مصر (والعالم العربي ولغته وثقافته) الناعمة؟ ومن قال إن استدعاء الإسلامي - دائما وأبدا - يعني نفي الآخر غير المسلم؟ وأن البعد الإسلامي لأي قضية يعني بالضرورة نفي البعد المسيحي؛ لأنهما - بحسب العلماني الأصولي - لا يلتقيان ولا يتجاوران، ولا يتقاطعان، ولا يتفاهمان، ولا يتكاملان، تماما كما لو أننا أمام "داعشي"أصيل؟!
أثناء حكم الإخوان لمصر، وقف أحد الإسلاميين، وهو صفوت حجازي بالمناسبة، أمام الجماهير الغفيرة، وأخذته الجلالة، وقال سوف نجعل كل شيء في مصر "إسلاميا"، حتى الصرف الصحي!!!
يبدو منطق الشيخ - ربنا يفك سجنه - عبثيا، ولا يخلو من المبالغة حد الهوس. الحقيقة أنهم مجانين بشكل رسمي، ولكن ما الفارق بين "الأخ" الإسلامي المهووس، ونظيره العلماني اللطيف الشيك الذين يريد أن يجرد القضية من بعد أصيل، غير مجلوب، ولا مفتعل، لمجرد أنه ديني، ويدعي أن استدعاءه من قبيل الأسلمة "الوحشة" في مقابل العلمنة "الحلوة"؟
ما أعرفه، وأتمنى ألا يكون قد فاتني شيئا، هو أن العلمانية فكرة متحركة، متطورة، بنت سياقها وظروفها، ليس لها كتاب مقدس وثوابت، وخوارق للإيمان يكفر من يتجاوزها.. وهي في سياقنا العربي محاولة لتنظيم العلاقة بين الديني والدنيوي، الشرعي والسياسي، المطلق والنسبي.. محاولة للتخلص من كهنوت الإسلاميين، دون التورط في خلق كهنوت آخر..
ما قرأته في الأيام السابقة لمثقفين مصريين، منذ أن أعلن ترامب قراره بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، لا يختلف كثيرا عن تطلعات "حجازي" للصرف الصحي الإسلامي.. الفارق هو أن صرف الشيخ "ريحته فاحت"، فيما لا يزال "الأخ" العلماني قادرا على استهلاك أنواع فاخرة من "البارفانات"الفرنسية الفواحة!
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: